مسائل يكثر السؤال عنها في الحج
تكرار العمرة
دلت الأحاديث الصحيحة على فضل العمرة، واستحباب الإكثار منها، ومن ذلك ما تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)؛ متفق عليه.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تابِعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة)؛ أخرجه أحمد (1/ 387) والنسائي (5/ 115) والترمذي (810) وهو حديث حسن، وصححه الترمذي، وله شواهد.
لكن ينبغي أن يُعلَم أن تكرار العمرة الذي ثبت فيه الثواب، هو ما كان من الميقات في سفرة مفردة، كما قرر ذلك أهل العلم، ومنهم العلامة ابن القيم - رحمه الله - في " زاد المعاد " (2/ 94، 175، 176).
وأما الإحرام بالعمرة، ثم الإحرام بأخرى بعد فراغه من الأولى، فهذا ليس من هدي سلف هذه الأمة، وهم أدرى منا بمعاني نصوص الشرع، والعمرة عبادة، ولا بد من دليل يفيد استحباب ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في " الفتاوى " (26/ 145): " والإكثار من الطواف من الأعمال الصالحة، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا رغَّب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – أمتَه؛ بل كرهه السلف ".
وقال أيضًا (26/ 249): " فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة؛ فهذا مما لا يستريب فيه مَن كان عالمًا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه، وآثار الصحابة وسلف الأمة وأئمتها ".
وقال أيضًا (26/ 264): " وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل، فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف، ليس بمستحب؛ بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار؛ بل الاعتمار فيه حينئذٍ بدعة، لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استحبابها، وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء ".
وعلى هذا فما يفعله كثير مِن الناس، مِن الإكثار من العمرة في رمضان، أو بعد الحج، أو في أوقات أخرى، حيث يخرجون إلى التنعيم، أو غيره من جهات الحل، وقد سبق أن أتى الواحد منهم بعمرة من الميقات الذي مرَّ به - فهذا كله غير مشروع؛ لعدم الدليل عليه - كما تقدم - بل الأدلة تدل على تركه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا ذلك في حجة الوداع ولا غيرها، إلا عائشة - رضي الله عنها - كما سيأتي، مع ما في ذلك من إيجاد الزحام في المطاف لأناس يطوفون إتمامًا لمناسك حجهم - كما في أيام الحج - أو يطوفون لنسك أحرموا به من الميقات - كما في رمضان أو غيره - أو يطوفون تطوعًا - وهم أفضل من هؤلاء كما تقدم.
وأما كون عائشة - رضي الله عنها - اعتمرت بعد حجتها؛ فهذا لا دليل فيه على تكرار العمرة، أو الإتيان بها بعد الحج لمن اعتمر قبله؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن عمرة عائشة - رضي الله عنها - من التنعيم، إما أن تكون قضاء لعمرتها المرفوضة عند من يقول بذلك، وإما أن تكون زيادة محضة، وتطيبًا لقلبها عند من يقول: إنها كانت قارنة.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر عائشة في الأبطح ومعه أصحابه، وتأخروا لأجلها، فلو كانت العمرة مشروعة لذهبوا جميعًا؛ حرصًا على الثواب، واستفادة من الوقت، لكن لم يحصل ذلك، فينبغي للمسلم أن يتأسى بنبيه وقدوته محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكثر من الطواف بالبيت والدعاء، فهذا هو الأفضل، والله أعلم.
طواف الوداع للعمرة
دلت السُّنة الصحيحة على أن طواف الوداع من مناسك الحج وشعائره؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن الحائض " ؛ أخرجه البخاري (1755) ومسلم (1328) (380)، وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: كان الناس ينفرون في كل وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينفرنَّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)؛ أخرجه مسلم (1327) وفي لفظ: " كان الناس ينفرون من منى إلى وجوههم، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون آخر عهدهم بالبيت، ورخص للحائض " ؛ أخرجه الحاكم (1/476) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
فهذا الحديث بألفاظه، نص صريح في أن طواف الوداع خاص بالحج، من وجهين:
الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في حجة الوداع، وخاطب به الحجاج، ولم ينقل أنه قال ذلك في عمرة من عُمَرِهِ.
الثاني: أن الأوصاف المذكورة لا تنطبق إلا على الحج؛ لأنه لولا الوداع لكان الناس ينفرون من منى بعد رمي الجمرات إلى حيث شاؤوا، فأمروا أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت.
وأما العمرة فليس لها وداع؛ بل نقل ابن رشد في " بداية المجتهد " (2/ 266) الإجماعَ على أنه ليس على المعتمر إلا طوافُ القدوم؛ أي: طواف العمرة، وقد صرح جمهور الفقهاء بأن طواف الوداع لا يجب على غير الحاج؛ وذلك أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الأمة بطواف الوداع للعمرة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر أربع عُمَرٍ ولم يُنقل أنه طاف للوداع في واحدة منها، ولا أمر أحدًا من أصحابه بذلك، ولو حصل لنقل إلينا كنقل سائر المناسك، ومنها طوافه للوداع في الحج.
وقد اعتمر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان، ولم ينقل أنهم كانوا يطوفون للوداع، ولا تكلموا بذلك، والأصل براءة الذمة، فلا يُنتقل عنها إلا بدليل صحيح، سالم عن المعارض، وعلى هذا فليس للعمرة وداع، سواء خرج المعتمر بعد أداء المناسك، أو أقام في مكة ثم خرج، والله أعلم.
من لبس ثيابه قبل الحلق في العمرة
إذا طاف المحرم وسعى، ثم لبس ثيابه ناسيًا قبل أن يحلق أو يقصر؛ فعليه أن يخلع ثيابه متى ذَكَر ويلبس ثياب الإحرام، ثم يحلق رأسه أو يقصر، ثم يعيد ثيابه، سواء تذكَّر ذلك في مكة أو في غيرها؛ لأن الحلق أو التقصير نسك لا بد أن يأتي به في حال الإحرام.
وإن حَلَق أو قصر وعليه ثيابه جاهلاً أو ناسيًا؛ فلا شيء عليه، وكذا لو فعل قبل الحلق شيئًا من محظورات الإحرام ناسيًا، فلا شيء عليه؛ لعموم قوله – تعالى -: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا عليه)؛ أخرجه ابن ماجه (2045) والبيهقي (7/ 356) وغيرهما، وهو مروي عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - وله طرق، وشواهد من القرآن تدل على صحته.
من سافر إلى جدة لحاجة وهو يريد العمرة
من سافر إلى جدة لحاجة وهو يريد العمرة، ففيه تفصيل؛ فإن كان قصده السفر لأجل النسك، وهو إرادة العمرة، وحاجتُه تبعٌ لذلك، فإنه يجب عليه الإحرام إذا وصل الميقات، أو حاذَى أحد المواقيت - كذي الحليفة مثلاً - لقوله - صلى الله عليه وسلم - في المواقيت: (هُنَّ لهن، ولمن أتى عليهن مِن غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة)؛ أخرجه البخاري (1524) ومسلم (1181) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وهذا يصدق عليه أنه أتى على ميقات وهو مريدٌ العمرة، فيلزمه الإحرام.
وإن كان قصده السفرَ لحاجته، والنسك جاء تبعًا، بمعنى أنه إن تيسر له، وكان عنده متسع من الوقت، أتى به، فهذا لا يلزمه إحرامٌ إذا مرَّ بالميقات؛ بل له أن يتجاوزه بدون إحرام؛ لأنه وقتَ مروره بالميقات غيرُ مريدٍ الحجَّ ولا العمرةَ.
فإذا انتهت حاجته وهو في جدة، وأراد العمرة، أحرم منها، ولا يلزمه أن يذهب إلى أحد المواقيت؛ لأن جدة ميقات لأهلها، ولمن وفد عليها غيرَ مريدٍ للحج والعمرة، ثم أنشأ إرادة الحج أو العمرة منها، أما القادمون إليها ممن أراد الحج أو العمرة فليست ميقاتًا لهم؛ لأنها داخل المواقيت، فمن أحرم منها فقد تجاوز الميقات، والله أعلم.
إجزاء طواف الإفاضة عن طواف الوداع
إذا أخَّر طواف الإفاضة - وهو طواف الحج - فطافه عند خروجه من مكة، أجزأ عن طواف الوداع، لكن ينوي طواف الحج؛ لأنه ركن، وطواف الوداع واجب، فيجزئ الأعلى عن الأدنى، لا العكس، وإنما أجزأ طواف الإفاضة عن الوداع؛ لأن المأمور به أن يكون آخر عهده بالبيت، وقد فعل، وهما عبادتان من جنس واحد، فأجزأت إحداهما عن الأخرى.
وهذا واضح بالنسبة للمفرِد والقارن الذي سعى سعيَ الحج مع طواف القدوم؛ إذ ليس عليه بعد ذلك إلا الطواف، ويكون آخر عهده بالبيت.
أما المتمتع الذي أخَّر طواف الإفاضة إلى وقت خروجه من مكة؛ فإن عليه السعي بعده، فلا يكون آخر عهده بالبيت، فهل يحتاج إلى وداع بعده؟
الأظهر - والله أعلم - أنه لا يحتاج إلى وداع بعد السعي؛ لأن السعي تابع للطواف، فلا يضر الفصل بين الطواف وبين الخروج بالسعي، وقد بوب البخاري - رحمه الله - فقال (3/ 612): " باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج، هل يجزئه من طواف الوداع؟ "، ثم أورد حديث عائشة - رضي الله عنها - وفيه: (اخرُج بأختك من الحرم، فَلْتُهِلَّ بعمرة، ثم افرُغا من طوافكما)، وظاهرُه أنها لم تؤمر بوداع، قال ابن بطال - رحمه الله - في " شرحه على البخاري " (4/ 445): " لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف، وخرج إلى بلده، أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة "، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري "، وأقرَّه.
لكن يشكل على ذلك روايةٌ أخرى للبخاري (1560)، وفيها تقول عائشة - رضي الله عنها - بعد أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخاها أن يَخرُج بها لأداء العمرة: " فخرجنا حتى إذا فرغتُ، وفرغتُ من الطواف "، فهذا ظاهره أن الفراغ الأول من العمرة، والفراغ الثاني من طواف الوداع، ولعل هذا هو الذي جعل البخاري ساق الترجمة بلفظ الاستفهام، ولم يبتَّ في الحكم، والله أعلم.
مَن تعجل في اليوم الثاني عشر وأدركه الغروب
من تعجل في الخروج من منى في يوم النفر الأول، وهو اليوم الثاني عشر من أيام التشريق، بأن حمل متاعه، وركب سيارته قبل الغروب، ثم حبسه المسير في سيارته؛ لكثرة السيارات، أو لعذر آخر، فإنه يتعجل ويستمر في سيره، ولا يلزمه المبيت بمنى تلك الليلة والرمي من الغد؛ لأنه قد أخذ في التعجل وتهيأ له، ثم حُبِسَ بغير اختياره، وكذا لو خرج من منى قبل الغروب، ثم عاد إليها بعده لحاجة نسيها أو نحو ذلك، جاز له أن يستمر في طريقه، ولا يلزمه المبيت، لكن من أخَّر الرمي إلى ما بعد الغروب لزمه المبيت؛ لأنه لا يصدق عليه أنه تعجل، والله أعلم.
الرمي قبل الزوال
لا يجوز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى بعد الزوال، وقال: (لتأخذوا مناسككم)، فيكون الرمي داخلاً في هذا العموم.
وقد رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ضحًى، ورمى في أيام التشريق بعد الزوال، كما ذكر ذلك جابر - رضي الله عنه - فدل على اختلاف الحكم، ثم لو كان الرمي جائزًا قبل الزوال؛ لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من المبادرة بالعبادة في أول وقتها، ولما فيه من التيسير على الناس، وتطويل وقت الرمي.
وقد ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: " كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا " ؛ أخرجه البخاري (1746).
وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وهو الراجح في هذه المسألة - إن شاء الله - فمن رمى قبل الزوال وجب عليه أن يعيد؛ لأنه رمى قبل دخول وقت الرمي، ولا فرق في ذلك بين اليوم الثاني عشر، وهو يوم النفر الأول، أو غيره من أيام التشريق، وإن كان بعض العلماء أجاز الرمي قبل الزوال في يوم النفر الأول، وهو اليوم الثاني عشر، واستدل بالآية الكريمة: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، لكن ذلك معارض بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم.
ووقت الرمي فيه سعة - ولله الحمد - ولا موجب للرمي قبل الزوال إلا العجلة التي عليها غالب الناس في زماننا هذا، والله المستعان.
المبيت بمنى
المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر - وكذا الثالث عشر لمن لم يتعجل - واجبٌ من واجبات الحج؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بها وقال: (لتأخذوا مناسككم)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رخص للسقاة والرعاة في ترك المبيت، والتعبير بالرخصة يدل على وجوب المبيت لغير عذر.
ومَن اجتهد ولم يجد مكانًا يليق بالمبيت، سقط عنه، وله أن يبيت خارجها، ولا شيء عليه؛ لعموم قوله – تعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله – تعالى -: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)؛ أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337).
وليس من ذلك المبيت في الشوارع، أو على الأرصفة في طرق الناس والسيارات، فإن في ذلك ضررًا عظيمًا، وخطرًا جسيمًا لا تأتي الشريعة بمثله، ولا سيما في مناسك الحج القائمة على التيسير والتسهيل على المكلَّفين، وأعظم من ذلك أن يبيت في الشوارع، أو على الأرصفة ومعه نساء، فهذا ومَن قبله يسقط عنه المبيت؛ لما في ذلك من الضرر، فإن المرأة إن بقيت جالسة فهذا فيه مشقة، وإن اضطجعت فليس من الأدب أن تضطجع في طريق الناس، وقد يظهر شيء من بدنها دون أن تشعر، ومن يفعل ذلك فإنما يفعله بدافع الحرص على تأدية الواجب، وهذا أمر مطلوب في المناسك، لكن إذا وجد العذر سقط الواجب، والله أعلم.
الرمي ليلاً
رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جمرة العقبة ضحى يوم النحر، ورمى بعد ذلك في أيام التشريق بعد الزوال، وقال: (لتأخذوا مناسككم).
وقد اتفق العلماء على جواز الرمي إلى غروب الشمس من أيام التشريق، وكذا يمتد رمي جمرة العقبة إلى غروب الشمس من يوم العيد، على القول الراجح.
ووقع الخلاف في جواز الرمي ليلاً عن اليوم الذي غابت شمسه، والراجح جوازه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد أول وقت الرمي بفعله، ولم يحدد آخره، وقد ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص للرعاة أن يرموا بالليل؛ أخرجه البزار (782 " مختصر زوائده ") والبيهقي (5/151)، وحسنه الحافظ في " التلخيص " (2/ 282)، وله شاهد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطحاوي " شرح معاني الآثار " (2/ 221) والطبري " تهذيب الآثار " (1/ 222).
وجاء في " الموطأ " (1/ 409) عن مالك عن أبي بكر بن نافع عن أبيه: " أن ابنة أخٍ لصفية بنت أبي عبيد نُفِسَتْ بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبدالله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا، ولم يَرَ عليهما شيئًا " ؛ وإسناده صحيح.
وفي " مصنف ابن أبي شيبة " (4/ 30) عن عبدالرحمن بن سابط، قال: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدمون حجاجًا، فيدعون ظهرهم، فيجيئون فيرمون بالليل " ؛ وإسناده صحيح.
ولأن اليوم وقت للرمي، والليل يتبعه في ذلك، كليلةِ النحر تابعة ليوم عرفة في صحة الوقوف إلى طلوع الفجر.
فمَن يشق عليه الرمي نهارًا كالمرأة، ونِضْوِ الخلقة، وكبيرِ السن؛ فله أن يرمي ليلاً، وكذا من يكون رميه ليلاً أيسرَ له وأكثر طمأنينة، فإنه يرمي بالليل؛ بل إنني أؤكد على من معه نساء ألاَّ يرمي إلا ليلاً، لا سيما في اليوم الحادي عشر؛ لشدة الزحام، أما اليوم الثاني عشر - وهو يوم النفر الأول - فالرمي قبيل الغروب ممكن بلا مشقة، حتى للنساء، ولا سيما مَن أراد أن يتعجل، ليخرج من منى قبل غروب الشمس.
التوكيل في رمي الجمار
الأصل أن الحاج يرمي الجمار بنفسه، سواء كان رجلاً أم امرأة، ولا يوكل أحدًا يرمي عنه، سواء كان الحج فرضًا أم نفلاً؛ لأن الرمي نسك من مناسك الحج، وجزء من أجزائه؛ فلا بد أن يفعله بنفسه، لكن إن وجد عذر من مرضٍ، أو كبر، أو صغر، أو كانت امرأة معها أطفال وليس عندها من يحفظهم، ونحو ذلك مما لا يستطيع الرمي بسببه، جاز أن ينيب من يرمي عنه، سواء لقط الموكِّل الحصى وسلمها للوكيل، أو لقطها الوكيل بنفسه.
أما مع القدرة فلا ينبغي التساهل في هذا النسك؛ لأنه عبادة، والمطلوب من المكلف أن يباشرها بنفسه.
وصفة ذلك أن يرمي الوكيل عن نفسه أولاً، ثم يرمي عن موكله بالنية في موقف واحد، ولا يلزمه أن يرمي عن نفسه جميع الجمار ثم يرجع مرة أخرى للرمي عن موكله؛ لعدم الدليل على ذلك، ولأن ذلك فيه مشقة، ولا سيما في هذا الزمان، وقد يؤدي إلى تقليل التعاون، فيحصل الامتناع عن الرمي عمن هو بحاجة إلى الاستنابة.
والأظهر - والله أعلم - أنه إذا زال عذر الموكِّل - كأن يبرأ من مرضه - وأيام الرمي باقٍ بعضُها، أنه يرمي جميع ما رُمي عنه؛ لأن التوكيل إنما أبيح للضرورة، فإذا زال العذر والوقت باقٍ؛ فعليه أن يباشر العبادة بنفسه.
حكم الشك في عدد الحصى
يجب الرمي بسبع حصيات لكل جمرة من الجمار الثلاث في أيام التشريق، وعلى من نقص حصاةً أو أكثر أن يرجع ويتم ما نقص.
ومن سقط منه حصاة أو أكثر قبل الرمي، فله أن يأخذ من الحصى الموجود عند الحوض ويرمي به، ولو كان قد رُمي به، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، وقد نص الإمام الشافعي - رحمه الله - على جواز ذلك؛ إذ لا دليل على المنع، ولأنه حجر لم يتغير منه شيء، ويمكن رميه مرة أخرى، والمعنى الذي من أجله شرع الرمي موجود فيه، مع ما في ذلك من التيسير على الناس، فإن الإنسان قد يسقط منه حصاة وهو على الحوض، فكونه يؤمر بأن يخرج ويأتي بها من بعيد، ثم يدخل للرمي مرة أخرى - وقد يكون هناك زحام - لا يخلو ذلك من مشقة.
ومن شك في عدد الحصى، فقاعدة الفقهاء أنه لا يلتفت إلى الشك بعد الفراغ من العبادة، ومع ذلك فالأحوط أن يزيل الشك باليقين إذا كان عند الجمرة، فإن رجع إلى منزله لم يلتفت إلى ذلك، والله أعلم.
مكان أخذ حصى الجمار
ليس لحصى الجمار مكان معين تُلقط منه؛ بل تؤخذ من أيِّ مكان، من مزدلفة، أو من منى، أو من الطريق؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد لذلك مكانًا، وعلى هذا فليس من السنة أن الحاج إذا وصل مزدلفة ليلاً، أن يشتغل بلقط حصى جمرة العقبة، أو جمار أيام التشريق، كما يفعل بعض الحجاج.
وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (وفي روايةٍ: الفضل بن عباس) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو واقف على راحلته: (هاتِ الْقُطْ لي… الحديث)؛ أخرجه أحمد (3/ 350) والنسائي (5/ 197) وابن ماجه (3029)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وليس في الحديث نص على المكان، وإن كان ظاهره أنه لقطها له من مزدلفة؛ لأن قوله: " غداة العقبة " يدل على أنه أول النهار، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أول النهار في مزدلفة، ولكنه ليس صريحًا في ذلك؛ بل يحتمل أنه أخذها من منى عند الجمرة؛ فإنه لم يُحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة إلى منى، ولأن هذا هو وقت الحاجة إليه، فلم يكن ليأمر بلقطها قبله؛ لعدم الفائدة فيه، وتَكَلُّفِ حمله، وعلى فرض المعنى الأول، فليس عامًّا في جميع الجمار؛ بل هو خاص بجمرة العقبة، والمقصود أنه يلقط حصى الجمار من أيِّ مكان، والله أعلم.
وجوب الرمي بسبع حصيات
جمهور العلماء على أن الرمي بسبع حصيات شرطٌ من شروط صحة الرمي، فإن نقص واحدة لم يصح الرمي، وعليه الرجوع إلى إتمام ما نقص؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى كل جمرة بسبع حصيات - كما نقل ذلك جابر وغيره من الصحابة - وقال: (لتأخذوا مناسككم)، فيجب الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ولا يعرف أنه أذن لأحد أن يرمي بأقل من سبع.
وأما ما أخرجه النسائي (5/ 275) وغيره، عن مجاهد قال: قال سعد - رضي الله عنه -: " خرجنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بستٍّ، فلم يَعِبْ بعضهم على بعض " ؛ فهو أثر منقطع؛ لأن مجاهدًا لم يسمع من سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - كما قاله ابن القطان، والطحاوي وغيرهما، نقل ذلك في " الجوهر النقي " (5/ 149)، وذكر أن الأخبار تظاهرت بوجوب السبع، ولم يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر الصحابة على ذلك، ولا اجتهاد في موضع النص.
مقدار التقصير
وقع الخلاف بين أهل العلم في مقدار ما يُقَصَّرُ من شعر الرأس، والقول الذي يظهر صوابه - والله أعلم - أنه لا بد من تقصير جميع شعر الرأس، وذلك بأن يعم ظاهر الرأس، وليس معناه أن يأخذ من كل شعرة بعينها، ووجه ذلك أن الله - تعالى - قال: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} [الفتح: 27]، والفعل المضاف إلى الرأس يشمل جميعه، ومن قصر بعض رأسه لا يقال: إنه قصر رأسه، وإنما قصر بعضه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه الذين ليس معهم هدي، بالتقصير بعد فراغهم من الطواف والسعي، والظاهر أنه تقصير لجميع الرأس؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى ذاك، ولأن التقصير يقوم مقام الحلق، والحلق لجميع الرأس، فكذا التقصير ينبغي أن يكون لجميع الرأس.
الحلق أو التقصير
الحلق أو التقصير نسك في الحج والعمرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن فعل ذلك بالمغفرة، بقوله: (اللهم اغفر للمحلِّقين)، قالوا: " يا رسول الله، وللمقصرين؟ "، قال: (اللهم اغفر للمحلقين)، قالوا: " يا رسول الله، وللمقصرين؟ "، قال: (اللهم اغفر للمحلقين)، قالوا: " يا رسول الله، وللمقصرين؟ "، قال: (وللمقصرين)؛ أخرجه البخاري (1728) ومسلم (1302) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - الدعاء بالرحمة؛ أخرجه البخاري (1727) ومسلم (1301).
والحلق: إزالة شعر الرأس كله بالموسي ونحوه، والتقصير: قص أطراف شعر الرأس من جميع نواحيه بالمقص أو بالآلة المعروفة.
والحلق أفضل للقارن والمفرد والمعتمر عمرة مفردة، ولا يستثنى إلا المتمتع الذي قدم مكة متأخرًا، بحيث لا ينبت شعره قبل الحج، فهذا التقصير في حقه أفضل، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أصحابه في حجة الوداع؛ ليجمعوا بين التقصير في العمرة والحلق في الحج، ولو حلقوه في العمرة حينئذٍ لم يبق في الرأس شعر يحلق في الحج، وما عدا ذلك فالحلق أفضل؛ لأن الله - تعالى - قدمه في قوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، ولأنه فِعْلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه مسلم (1304، 1305) من حديث أنس - رضي الله عنهما - وما كان أقرب إلى موافقة فعله فهو أفضل، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كرر الدعاء للمحلقين بالمغفرة والرحمة، ودعا للمقصرين مرة واحدة - كما تقدم - ولأنه أكمل في التعبد لله - تعالى - والتعظيم.
ويلاحظ على كثير من الناس - ولا سيما الشباب - أنهم لا يحلقون رؤوسهم؛ بل يكتفون بالتقصير، ويظهر ذلك جليًّا في العمرة - كما في الإجازة الصيفية، أو في رمضان - وهذا فيه رغبة عن فعل الأفضل، وضَنٌّ[*] بالشعر، والنسك تكره الضِّنَّةُ فيه بالمال والنفس، فكيف بالشعر؟
------
[*] الضن: بالضاد هو: البخل، يقال: ضَنَّ بالشيء يَضَنُّ، من باب (تعب): بخل.
مكان تفريق لحم الهدي
يفرق لحم الهدي داخل حدود الحرم، ثم إن كان هدي تمتع، أو قران، أو تطوع، فله أن يأكل منه، ويهدي، ويتصدق على مساكين الحرم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم الهدي، كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عند مسلم، ولأنه دم نسك، فهو بمنزلة الأضاحي، فإن أرسل منه إلى الفقراء في العالم الإسلامي، فهذا عمل مشكور، وجهد طيب.
وإن كان لترك واجب - على القول به - فإنه يتصدق بجميع لحمه على مساكين الحرم، ولا يأكل منه شيئًا.
مكان نحر الهدي
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن نحر الهدي لا بد أن يكون داخل الحرم في مكة، أو منى، أو مزدلفة، سواء كان هدي تطوع، أو هدي تمتع، أو قران؛ لقوله – تعالى -: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، والمراد بذلك: الحرم كله، كما ذكر المفسرون، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (نحرت ها هنا ومنى كلها منحر)؛ أخرجه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - (1218) (149)، وعند أبي داود (1937) وابن ماجه (3048) وأحمد (22/ 381) بلفظ: (كل فجاج مكة طريق ومنحر)؛ وأخرجه البيهقي (5/239) عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (مناحر البدن بمكة، ولكنها نزهت عن الدماء، ومنى من مكة)؛ وإسناده صحيح، وعلى هذا فلا ينحر هديه في عرفة أو غيرها من الحل، لأنها خارج الحرم، فلا يجزئ على المشهور عند أهل العلم، وبعض الناس قد يغفل عن ذلك، فينبغي التنبه له.
أما الهدي لفعل محظور - كحلق الرأس - فهذا يجوز أن يكون في محل فعل المحظور، ويجوز أن يكون في الحرم؛ لأن ما جاز في الحل جاز في الحرم؛ إلا جزاء الصيد، فلا بد أن يكون في الحرم؛ لقوله – تعالى -: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وأما هدي الإحصار - وهو وجود مانع من الوصول إلى البيت - فإنه يذبحه في مكان الإحصار؛ لقوله – تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، لكن لو أراد نقله إلى مساكين الحرم، فلا بأس؛ لما تقدم، والله أعلم.
أعمال يوم النحر وترتيبها
أعمال يوم النحر أربعة: رمي جمرة العقبة، وذبح الهدي - إن كان عليه هدي، وهو المتمتع والقارن - والحلق، وطواف الإفاضة، وبالرمي والحلق يحصل التحلل الأول - على الأظهر في هذه المسألة - وليس للهدي أثر في التحلل، إلا أن الأفضل للقارن ألاَّ يتحلل حتى ينحر هديه؛ تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم.
والأفضل أن يرتب الحاج هذه الأعمال، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث رمى، ثم نحر، ثم حلق، ثم طاف، ولا يقدم بعضها على بعض إلا إن كان ناسيًا أو جاهلاً، كما دلت السنة على ذلك، وهو محل إجماع، أما العامد فهو موضع خلاف بين أهل العلم؛ لذا فالأحوط للمكلف ألا يتعمد تقديم شيء على شيء، متى كان قادرًا على الترتيب بلا مشقة تلحقه؛ بل يرتبها تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجًا من خلاف العلماء، وإن كنت أميل إلى أن الحكم عام في الجاهل وغيره، لكن من الناس مَن يخالف ترتيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقلِّ سبب أو بدون سبب، وهذا لا ينبغي؛ لأن الترتيب هو الأصل، فإنه - صلى الله عليه وسلم - فعل المناسك أمام الأمة، وقال: (لتأخذوا مناسككم).
الانصراف من مزدلفة بعد مغيب القمر
دلت السنة الصحيحة على أن للضعفة من النساء والصبيان، ومَن كان برفقتهم، أن ينصرفوا من مزدلفة إلى منى بعد مغيب القمر، كما في حديث ابن عباس وابن عمر وحديث أسماء - رضي الله عنهم - وهي في الصحيحين، وكذا غيرها من الأحاديث.
فإذا قدموا منى رموا جمرة العقبة، ولهم أن يحلقوا ويطوفوا بالبيت.
وأما الأقوياء فليس لهم أن يرموا جمرة العقبة قبل طلوع الشمس؛ لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في الرمي قبل طلوع الشمس كلها في الضعفة، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور.
لكن مَن كان تابعًا للضعفة، فله حكمهم على ما يستفاد من ظواهر الأدلة، وأما حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)؛ أخرجه أحمد وأصحاب السنن، ففي سنده ضعف، وقد ضعفه الإمام البخاري - رحمه الله - في " التاريخ الصغير " ص (135)، وعلى فرض صحته - كما يرى الترمذي وابن حبان رحمهما الله - فهو محمول على الندب، كما نبه على ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في (" فتح الباري " 3/ 529)، والله أعلم.
وهذا التيسير المستفاد من الأدلة مناسب جدًّا لهذا الزمان، فإن كون التابع يذهب بالضعفة - كالنساء - إلى جمرة العقبة ويرمين، ثم هو لا يرمي، ويذهب بهم إلى البيت للطواف، فمتى يرمي؟ ثم ما حاله مع الزحام في آخر الليل لترمي النساء، ثم يرجع للزحام بعد طلوع الشمس ليرمي لنفسه؟
وجوب البقاء في عرفة حتى الغروب
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى أن الوقوف بعرفة إلى ما بعد غروب الشمس فيمن وقف نهارًا - واجبٌ من واجبات الحج، فمَن خرج قبل الغروب فقد ترك واجبًا، وصحَّ حجه، والواجب هو الجمع بين النهار وجزء من الليل؛ لما يلي:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف كذلك، وقال: (لتأخذوا مناسككم)، وكونه - صلى الله عليه وسلم - مكث بعرفة إلى ما بعد الغروب ثم دفع، دليلٌ على وجوب ذلك؛ لأن الدفع نهارًا أسهل، ولا سيما في ذلك الزمان، حيث يمشي الناس على الإبل والأقدام، ومع هذا لم يدفع إلا بعد الغروب.
2- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دفع من عرفة قبل أن يصلي المغرب، مع أن وقت المغرب قد دخل، فلو كان الدفع قبل الغروب جائزًا، لدفع وصلى المغرب في مزدلفة في أول وقتها.
وقد ورد في حديث عروة بن المضرِّس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن شهد صلاتنا هذه - يعني الفجر - ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارًا؛ فقد تمَّ حجه، وقضى تفثه)؛ أخرجه أبو داود (1950) والنسائي (5/ 263) والترمذي (891) وابن ماجه (3016) وأحمد (26/ 142)، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح "، وهذا يَستدل به مَن يرى جواز الانصراف من عرفة قبل الغروب؛ لأن قوله: (أو نهارًا) يفيد أن مَن وقف نهارًا، ودفع قبل الغروب، أنه تم حجه، والتعبير بلفظ التمام ظاهر في جواز ذلك، وأنه لا يُحتاج إلى جبره بالدم، وهذا استدلال واضح، إلا أنه معارض بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده، فإنهم لم يدفعوا إلا بعد غروب الشمس، فقُيِّد بذلك إطلاق الحديث.
تقديم السعي على الطواف
السنة تقديم الطواف على السعي، سواء كان في حج أو عمرة؛ تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل قال جمهور من أهل العلم: إنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف، فمَن قدمه أعاد بعد الطواف؛ وحجتهم في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لتأخذوا مناسككم)، وهذا هو الذي ينبغي للمسلم أن يأخذ به، لكن لو سعى قبل أن يطوف جاهلاً أو ناسيًا، صح سعيه - إن شاء الله - ولا يلزمه إعادته بعد الطواف، وقد قال بذلك بعض أهل العلم قديمًا وحديثًا، ولكن بعضهم قيد ذلك بالنسيان دون العمد، وبعضهم أطلق فلم يقيد.
وقد ورد في ذلك حديث أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: " خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف، أو قدمت شيئًا، أو أخرت شيئًا؟ "، فكان يقول: (لا حرج، لا حرج، إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حَرِجَ وهَلَكَ)؛ أخرجه أبو داود (2015) وإسناده صحيح، كما قال الشيخان: الألباني وابن باز - عليهما رحمة الله – (ومعنى " اقترض " ؛ أي: اقتطع، والمراد: نال منه).
وهو عام في سعي العمرة وسعي الحج، لكن طعن بعض الأئمة في لفظة " سعيت قبل أن أطوف "، فقد قال الحافظ البيهقي في " السنن الكبرى " (5/ 146): " هذا اللفظ " سعيت قبل أن أطوف " غريب، تفرد به جرير عن الشيباني، فإن كان محفوظًا فكأنه سأله عن رجل سعى عقيب طواف القدوم قبل طواف الإفاضة، فقال: (لا حرج)، والله أعلم "، وتبعه على ذلك ابنُ القيم في " زاد المعاد " (2/ 259) فقال: " قوله: " سعيت قبل أن أطوف " في هذا الحديث ليس بمحفوظ، والمحفوظ: تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض ".
وعلى هذا فالأحوط ألا يقدِّم السعي، ومَن قدَّمه جاهلاً أو ناسيًا ثم طاف بعده، فلعله أن يجزئه، وإن احتاط لنفسه، وخرج من خلاف العلماء، فسعى ثانية بعد طوافه، فهو أكمل وأحسن؛ لأن الحديث - كما ترى - فيه مقال، والعلم عند الله تعالى.
تحية المسجد الحرام
تحية المسجد الحرام صلاة ركعتين كغيره من المساجد؛ لعموم الأدلة، وهذا في حق من دخله لانتظار الصلاة، أو انتظار رفقة، ونحو ذلك.
أما مَن دخله لقصد الطواف، سواء كان لحج أو عمرة، أو كان تطوعًا، فهذا يبدأ بالطواف، وهو تحية المسجد في حقه، وليس له أن يصلي ركعتين ثم يبدأ الطواف، كما يفعله بعض الناس، فإن هذا خلاف السنة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المسجد بدأ بالطواف، كما في حديث جابر - رضي الله عنه - وغيره، ولأن المقصود افتتاح مكان العبادة بعبادة، وعبادة الطواف تحصِّل هذا المقصود.
طواف الحامل والمحمول
قد يطوف الإنسان ومعه آخر يحمله؛ كطفل محرم أيضًا، فيقع الطواف عن الحامل والمحمول، ولا يلزم الحامل أن يطوف لنفسه طوافًا مستقلاًّ؛ لأن كل واحد منهما طاف بنية صحيحة، ويصدق عليه أنه طاف بالبيت، والصبي إن كان مميزًا نوى الطواف، وإن كان غير مميز نوى عنه وليُّه، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في قصة المرأة الخثعمية، وفيه: " فرفعت إليه امرأة صبيًّا، فقالت: ألهذا حج؟ "، قال: (نعم، ولك أجر)؛ أخرجه مسلم (1336).
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر المرأة بصحة حج الصبي، ولم يأمرها أن تطوف به طوفًا مستقلاًّ، مع أن المقام مقام بيان، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلما لم يأمرها دل على جواز طوافها به محمولاً، ويجزئ الطواف عنهما معًا.
وذهب بعض العلماء إلى أن الصبي إذا كان غير مميز، فلا بد لوليه أن يطوف عن نفسه، ثم يطوف بالصبي، أو يسلمه إلى ثقة يطوف به؛ لأن الصبي لم يحصل منه نية ولا عمل، وإنما النية من حامله، ولا يصح عمل واحد بنيتين لشخصين، والسعي يأخذ حكم الطواف في هذا الحكم على هذا التفصيل.
وكذا لو دفع عربة يركبها الطفل أو الكبير أو المريض، أجزأ ذلك عن الراكب ومن يدفع العربة، والله أعلم.
إذا أقيمت الصلاة أثناء الطواف
إذا أقيمت الصلاة، أو حضرت جنازة أثناء الطواف، فإنه يصلي ثم يبدأ بعد الصلاة من موضعه الذي وقف فيه، ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل قطع الطواف، ولا يلزمه أن يبدأ من الحجر الأسود، وهذا هو الراجح من قولي أهل العلم؛ لأنه قطع معفو عنه، ولا دليل على بطلان أول هذا الشوط.
أما إذا أحدث في الطواف بريح أو غيره، وأراد أن يذهب ويتطهر، فإنه إذا رجع استأنف الطواف من أوله، على الراجح من قولي أهل العلم، قياسًا على الصلاة، والطواف من جنس الصلاة في الجملة، كما أفتى بذلك الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - (" الفتاوى " 17/ 216).
اشتراط الطهارة للطواف
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى اشتراط الطهارة في الطواف؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الطواف بالبيت صلاة؛ إلا أن الله أباح فيه الكلام)؛ أخرجه الترمذي (960) والدارمي (1/ 374) وابن خزيمة (4/ 222) والحاكم (1/ 409) (2/ 267)، وهو حديث مختلف في رفعه ووقفه.
ولقول عائشة - رضي الله عنها -: " إن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم، أنه توضأ ثم طاف " ؛ أخرجه البخاري (1536) ومسلم (1235)، وهذا وإن كان من قبيل الفعل، إلا أنه قد يكون بيانًا لقوله – تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] عند مَن يقول به، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالطهارة للطواف، ولا نهى المحدِث عن الطواف، ولكنه طاف طاهرًا، ونهى الحائض عن الطواف، ومَنْعُ الحائض لا يستلزم منعَ المحدثِ، ولا ريب أن الطواف بطهارة أفضل، وأحوط، وأبرأ للذمة، وفيه اتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال: (لتأخذوا مناسككم)، لكن لو أحدث في أثناء الطواف، ولا سيما في آخره، وفي زحام شديد كأيام الحج، فالقول بأنه يلزمه أن يذهب ويتوضأ، ويبدأ طوافه، فيه مشقة، وما كان كذلك وليس فيه دليل بيِّن، فإلزام الناس به فيه نظر، ومناسك الحج مبنية على التيسير، والله أعلم.
الاضطباع
هو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، وهذا من سنن طواف القدوم، وهو أول طواف يأتي به القادم إلى مكة، والاضطباع محله إذا أراد الطواف، وليس كما يفعله كثير مِن المحرمين من الاضطباع منذ أن يحرم، إلى أن يخلع ثياب الإحرام، فهذا لا أصل له، فينبغي التنبه له، والتنبيه عليه، قال ابن عابدين في " حاشيته " (2/ 512): " والمسنون الاضطباع قبيل الطواف إلى انتهائه، لا غير ".
استعمال الصابون للمحرم
يجوز للمحرم أن يستعمل الصابون، لإزالة الوسخ أو الدسم ونحو ذلك؛ لأنه لا يسمى طيبًا، ولا يُعَدُّ مستعملُه متطيبًا، وكذا يجوز له أن يستعمل في غسل رأسه المستحضراتِ الحديثةَ، وقد أجاز الفقهاء شمَّ ما نبت بنفسه مما له رائحة طيبة؛ كالشيح والخزامى، ونحوهما مما لا يُتخذ طيبًا، أو ما ينبته الآدمي كالريحان الفارسي - وهو الحَبَقُ - ومثله النعناع.
وأما الزعفران فهو طيب؛ لذا فالأحوط تركه في القهوة ما دام محرمًا، وقد ورد نهي المحرم عن الثوب الذي مسَّه زعفران، وله استعمالُ الهيل والقرنفل في القهوة؛ لأنهما لا يدخلان في مسمى الطيب.
ويجوز للمحرم الادِّهان في بدنه بالزيت ونحوه من المستحضرات الحديثة، وأما دهن رأسه ففيه خلاف مشهور، وتركُه أولى.
صلاة الإحرام
يرى أكثر أهل العلم استحبابَ ركعتين قبل الإحرام؛ تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه أحرم في حجة الوداع بعد فريضة، والذي يظهر - والله أعلم - أنه إن وافق الإحرام وقت فريضة، فأحرم بعدها، فحسن، وكذا لو أحرم بعد صلاة تطوعٍ اعتادها؛ كركعتي الضحى، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه، فيُحرِم بدون صلاة؛ لأنه لم يَرِد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء، لكن مَن أحرم من ذي الحليفة سُنَّ له أن يصلي ركعتين؛ لحديث عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق، يقول: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)؛ أخرجه البخاري (1534).
وظاهر هذا أن هذه الصلاة خاصة بهذا المكان؛ لبركته، لا لخصوص الإحرام، فإنه يحتمل أن المراد صلاة الفريضة، لا صلاة ركعتي الإحرام، ويحتمل أن المراد الصلاة لأجل الإحرام، لكن لا يثبت هذا الحكم في المواقيت الأخرى، والله أعلم.
الأنساك الثلاثة
نقل ابن قدامة في " المغني " (5/ 82) إجماعَ أهل العلم على جواز الإحرام بأيِّ الأنساك الثلاثة شاء، وإنما الخلاف في الأفضل.
وأفضل الأنساك في حق مَن لم يَسقِ الهديَ، هو التمتع، وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يَحِلُّ منها، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن.
وأما مَن ساق الهدي، فالأفضل في حقه القِرانُ، وهو أن يحرم بالعمرة والحج معًا من الميقات، وهو نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالتمتع، وقال: (لولا أن معي الهدي لأحللتُ)، وفي لفظ: (ولولا هديي لحللت كما تَحِلُّون)؛ أخرجه البخاري (1651 - 7367) ومسلم (1216)، فإن أحرم بالقِران وليس معه هدي، جاز، لكن عليه هدي على أحد القولين لأهل العلم، قياسًا على المتمتع؛ لأنه في معناه.
ولا فرق في حكم التمتع والقِران بين أهل مكة وغيرهم من أهل الآفاق، إلا أن أهل مكة لا هدي عليهم؛ لكونهم حاضري المسجد الحرام، على أحد الأقوال، وهو أن الإشارة في قوله – تعالى -: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] راجعةٌ إلى الهدي والصوم.
أما مَن أحرم بالحج وحده - وهو المفرد - وكذا القارن الذي لم يسُق الهدي، فإنه يستحب في حقه أن يفسخه إلى عمرة، كما هو مذهب الإمام أحمد، وذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوب الفسخ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بذلك.
فإن ضاق الوقت - كمن أحرم صبح يوم عرفة - فهذا يُحتمل أن يقال: بإمكان تمتعه، ويحتمل أن يقال: بأن يحرم مفردًا أو قارنًا، وهذا هو الأظهر؛ لأن صورة التمتع غير ظاهرة في حقه؛ لقوله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وعلى هذا فيبقى على نسكه، ولا يشرع له الفسخ؛ لضيق الوقت، ولأن الإفراد أحد الأنساك الثلاثة، ولا سيما في حق مَن يفرد للعمرة سفرًا مستقلاًّ، والله تعالى أعلم.
والمتمتعة التي أحرمت بالعمرة إذا حاضت قبل الطواف، وخافت فوات الحج بأن لم تطهر حتى يوم عرفة؛ فإنها تحرم بالحج وتصير قارنة، وهكذا لو خشي غيرُها فواتَ الحج، أحرم وصار قارنًا؛ لفعل عائشة – رضي الله عنها.
ما تجتنبه المرأة من اللباس
وأما المرأة فتُحرِم بما شاءتْ من الثياب، من غير تقيد بلون معين، بشرط ألا تكون ملابس زينة تلفت النظر، وتُمنع من شيئين:
الأول: النقاب، وهو ما يُنقب فيه للعينين، فلا يجوز لها لبسه.
الثاني: القفاز، وهو غلاف ذو أصابع تُدخل فيه الكف، وهو المعروف بشراب اليدين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)؛ أخرجه البخاري (1542) ومسلم (1177) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وهذا لفظ البخاري (1838).
أما ما تفعله بعض النساء مِن لبس النقاب وفوقه الحجاب؛ لقصد رؤية الطريق، فالظاهر - والله أعلم - أن عموم النهي عن النقاب يشمله؛ لتحقق لبسه، فإن قيل: ألا يجوز للحاجة، ولكونه غير ظاهر؟ فالجواب: أن ما فُعل من محظورات الإحرام للحاجة، ففيه الفدية، وكونه غير ظاهر قد لا يؤثر في الحكم؛ لما تقدم.
ويجوز لكلٍّ مِن الرجل والمرأة تبديلُ ثياب الإحرام، وغسلها بعد الإحرام، وأما ظن بعض النساء أن المحرمة تبقى على ثياب إحرامها، وليس لها تبديلها أو غسلها، فكل ذلك لا أصل له، والله أعلم.
ما يجتنبه المُحرِم من اللباس
عن ابن عمر – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: " ما يلبس المُحرِم من الثياب؟ "، فقال: (لا تلبسوا القُمُص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين، فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفلَ من الكعبين، ولا تلبسوا شيئًا من الثياب مسَّه الزعفرانُ ولا الوَرْس)؛ أخرجه البخاري (1542) ومسلم (1177) واللفظ له.
هذا الحديث من جوامع الكلم؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عما يلبس المحرم، فأجاب بما لا يلبس؛ لبيان أن كل ما عدا هذه المذكورات وما يشابهها، فإنه يلبسه المحرم، وقد ذكر فيه ستة أنواع:
1- القُمُص: وهو جمع قميص، وهو الثوب ذو الأكمام، ويلحق به ما يشبهه؛ مثل: الكوت، والقباء، والفنيلة.
2- العمائم: وهي جمع عمامة، وهي ما يلف على الرأس، ويقاس عليها الطاقية وما في معناها.
3 - السراويلات: وهي جمع سراويل، وهي المئزر ذو الأكمام، ويقاس عليه التبان، وهو سروال قصير، ويجوز لبس السراويل لعدم الإزار، كما ثبت في حديث ابن عباس – رضي الله عنه.
4- البرانس: وهي جمع برنس، وهو الثوب الشامل للبدن والرأس، ويلحق به العباءة.
5- الخفاف: وهي جمع خف، وهو ما يلبس على القدم ساترًا لها من جلد، ويجوز لبسه لعادم النعلين، ولا يلزم قطعهما أسفل الكعبين؛ لأن الأمر بذلك منسوخ، وهذه الأنواع الخمسة خاصة بالذكور.
6- الثياب المطيبة بزعفران أو ورس، وهو نبت طيب الرائحة، لونه أحمر، ويقاس عليهما بقية أنواع الطيب، وهذا محرم على الذكور والإناث.
وضابط ما تقدم: أن كل ما خيط على قدر البدن، أو على جزء منه، أو عضو من أعضائه - فالمُحرِم ممنوع منه.
وقد اشتهر في كتب المناسك لفظ " المخيط "، وهذا لم يرد في السنة، وإنما جرى على لسان بعض التابعين، حتى كثر استعماله في كتب الفقه، فظن كثير من الناس أن المقصود به كل ما فيه خيط، فظنوا أنه لا يجوز لبس الرداء الموصل؛ لقصره، أو لضيقه، أو ما خيط لشقٍّ فيه، وكذا الأحذية والأحزمة التي فيها خيوط، وهذا غير صحيح؛ بل المراد به ما تقدم، وليس المراد ما فيه خيط، ولو اقتصر الفقهاء على ما ورد في السنة، وأُلحق به ما أشبهه، لكان أوضحَ، وأبعدَ عن الإيهام.
ثياب الإحرام
الإحرام: هو نية الدخول في النسك، وليس هو لبس ثياب الإحرام؛ لأن لبسها تهيؤٌ للإحرام، الذي لا ينعقد إلا بالنية.
ويستحب إحرام الرجل في إزار ورداء أبيضين نظيفين، تأسيًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمره بذلك، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عند أحمد (8/ 500) وغيره، بإسناد صحيح.
والإزار: ما يستر أسفل البدن، ويُشدُّ على الحَقْوَيْنِ[*]، والرداء: ما يستر أعلى البدن، ويوضع على المنكبين.
وأما ما ظهر في الأسواق أخيرًا من الإزار المخيط، فالذي يظهر أنه لا ينبغي استعمالُه؛ لأنه لما خيط خرج عن كونه إزارًا؛ لأمرين:
الأول: من جهة اللغة، فقد ذكر في " تاج العروس " (3/ 11) أن الإزار غير مخيط، ويؤيد ذلك قول الشاعر:
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزُرِ
فالإزار يعقد على الحقوين، ولا يخاط.
الثاني: حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (إن كان الثوب واسعًا فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا فاتَّزر به)؛ متفق عليه.
فبيَّن له - صلى الله عليه وسلم - كيفيةَ لباس الصلاة، وهو أنه إن كان الثوب واسعًا ستر به جميع البدن، وإن كان ضيقًا اكتفى بستر أسفل البدن، ومعلوم أنه لو كان مخيطًا لما أمكن فيه ذلك، فدل على أن الإزار اسمٌ لما يستر أسفل البدن، وليس مخيطًا.
------
[*] الحَقْوُ: موضع شد الإزار، وهو الخاصرة.
الاستنابة في الحج
تجوز الاستنابة في أداء فريضة الحج في حق المستطيع بماله، العاجز ببدنه، بحيث لا يقوى على السير إلى مكة؛ لضعفه، أو مرضه الذي لا يرجى برؤه، أو كبر سِنِّه، وكذا لو قدر على السير ولكن بمشقة شديدة.
وكذا الميت يجب الحج عنه مِن تركته، أوصى أو لم يوصِ، إذا تمكن من الحج في حياته ولم يحج؛ لأن هذا دَيْن لله – تعالى - ودَيْنُ الله أحق أن يقضى، كما ثبت في السُّنة.
أما مَن مات قبل استطاعة الحج؛ لعدم تحقق شروطه؛ فهذا لا إثم عليه، ولا دَيْنَ لله - تعالى - عليه.
وهذا في حج الفريضة، وأما الاستنابة في حج التطوع، فمِن أهل العلم مَن منع ذلك؛ لأن الحج عبادة، والأصل فيها التوقيف، ولم يَرِد في الشرع ما يدل على جواز الاستنابة في التطوع، ومنهم مَن أجاز ذلك؛ قياسًا على الفريضة.
وشرطُ النائب عن غيره، أن يكون قد حج عن نفسه حجةَ الإسلام، ولا يلزم أن يكون حَجُّ النائب مِن بلد مَن أنابه؛ بل لو أناب مَن يحج عنه من أهل مكة جاز، وتحج المرأة عن الرجل، والرجل عن المرأة.
ولا ينبغي أن يكون قصد النائب كسبَ المالِ؛ فإن الارتزاق بأعمال البِر ليس من شأن الصالحين؛ بل ينبغي أن يكون قصده الإحسان إلى أخيه بإبراء ذمته، مع قصد رؤية المشاعر والتعبد فيها، فهذا محسن، والله - تعالى - يحب المحسنين.
وما يعطاه من المال فهو له، فينفق منه ما يليق به في أكله وشربه ومركبه، فإن بقي منه شيء أخذه، وعليه عملُ الناس اليوم، وللفقهاء تفاصيلُ لا حاجة إلى ذكرها.
وصفة النسك: أن ينوي بقلبه الإحرام عن فلان - وهو من أنابه - ثم يقول: لبيك عمرة عن فلان، أو لبيك حجًّا وعمرة - حسب النسك الذي طُلب منه - فإن نسي اسم مَن قَصَدَ الحج له، لم يضرَّه، وتكفي النية.
ويجب على النائب أن يتقي الله، ويحرص على تكميل النسك، ولا يتساهل في شيء منه؛ لأنه مؤتمن على ذلك.
حج الزوجة والأولاد
ينبغي للمستطيع من الآباء والأولياء العملُ على حجِّ مَن تحت ولايتهم من الأبناء والبنات؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)؛ أخرجه البخاري (7138) ومسلم (1829).
ويتأكد ذلك في حق البنت قبل زواجها؛ لأن حجَّها قبل أن تتزوج سهل وميسور، بخلاف ما إذا تزوجتْ، فقد يعتريها الحملُ والإرضاع والتربية، فحجُّها قبل زواجها في غاية المناسبة.
وليس للزوج أن يمنع زوجته من حجة الإسلام؛ لأنها واجبة بأصل الشرع، وينبغي للزوج إن كان قادرًا أن يبادر بحج زوجته، ولا سيما مَن كان حديثَ عهدٍ بزواج، فيسهل مهمتها، إما بسفره معها، أو بالإذن لأحد إخوانها، أو غيرهم من محارمها بالحج بها، وعليه أن يخلفها في حفظ الأولاد، والعناية بالمنزل، فهو بذلك مأجور.
الوصية الثامنة: آداب عامة
للحج آداب عامة تتعلق بالإنسان مع نفسه، وآداب تتعلق بالإنسان مع غيره، ومن أهمها ما يلي:
1- التأدب بآداب السفر؛ من الدعاء عند الركوب، وعند توديع الأهل والأصدقاء، وعند النزول، والتكبير إذا علا مرتفعًا، والتسبيح إذا هبط واديًا، وعدم النزول في الطريق أو قرب الطريق، والرفق بسيارته، وتفقد أجزائها؛ لتظل صالحة لركوبه وبلاغ غايته.
2- الصبر وتوطين النفس على تحمل المشقة، فلا يتأفف من طول طريق، أو حرٍّ، أو زحام، أو قلة طعام، أو نحو ذلك، فإن الحج فيه مشقة، وفيه تعب وإن كانت الطرق ممهدة، ووسائل النقل ميسرة.
3- عليك - أيها الأخ الكريم - أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلِّم الجاهل، وترشد الضال، وأن تحرص على فعل المعروف، وإسداء النفع للآخرين ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
4- أن تطيع الأمير، ولا تنفرد عن رفقتك برأي تصرُّ على تنفيذه، وأن تكون محبًّا لخدمة رفقتك، حريصًا على راحتهم.
5- احفظ لسانك من القيل والقال، ومن اللغو والكلام الباطل، وتجنب الإفراط في المزح؛ فأوقاتك شريفة، وساعاتك غالية، فلا ترخصها بمثل ذلك.
الوصية السابعة: في التوبة النصوح وقضاء الدين
يتكرر في كلام أهل العلم - رحمهم الله - وصية مَن أراد الحج بالتوبة من جميع المعاصي، والخروج من مظالم العباد، وقضاء ما أمكنه من الديون؛ وذلك لأنه لا يدري ما يعرض له في سفره.
وهذا أمر ليس له اعتبار عند كثير من الناس، فترى الواحد منهم يذهب إلى الحج ويرجع وهو متلبس بذنوبه، متدنس بخطاياه، وقد يستمر في ارتكاب ذلك حتى في الأزمنة الفاضلة، والأماكن المقدسة، لا يحدِّث نفسَه بتوبة، ولا يَجري على باله إقلاع وندم، وهذا أمر ينبغي التفطن له، وعليك يا أخي أن تتأمل قوله – تعالى -: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
إن التوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم؛ لأن الغالب إقبال النفوس على الطاعات، ورغبتها في الخير، فيحصل الاعتراف بالذنب، والندم على ما مضى، وإلا فالتوبة واجبة على الفور في جميع الأزمان؛ لأن الإنسان لا يدري في أيِّ لحظة يموت، ولا سيما مَن يتعرض للأسفار والأخطار، ولأن السيئات تجرُّ أخواتها، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في " مجموع الفتاوى " (34/ 180) أن المعاصي في الأيام المفضلة، والأماكن المفضلة تُغلَّظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.
أما بالنسبة للدَّيْن؛ فكلام أهل العلم على أنه مانع من الاستطاعة المشروطة في وجوب الحج، سواء كان الدين لله - تعالى - كالنذور والكفارات، أو لآدمي؛ كقرضٍ، وأجرة، وثمن مباع، ونحو ذلك، فإن كان عند المدين مال يكفي للحج وقضاء الدين، فلا بأس أن يحج، لكن عليه أن يبادر بقضاء دينه إن كان حالاًّ، مسارعةً لإبراء ذمته؛ لأنه لا يدري ما يعرض له، فإن كان مؤجلاً أبقى من ماله ما يكفيه لقضاء دينه، وأوصى بذلك، ومثل ذلك مَن كان بينه وبين الناس معاملاتٌ، له حقوق وعليه حقوق، فهذا له أن يحج، لكن عليه أن يبين ما له وما عليه.
أما إذا كان المال قليلاً، لا يكفي لحجه ولقضاء دينه، فقضاء الدين مقدَّم، فيكون غير مستطيع، فلا يدخل في عموم قوله – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، ولا يكفي في ذلك استئذان صاحب الدَّين؛ لأن المقصود براءة الذمة، لا استئذان صاحب الحق، فإنه لو أذِن لم تبرأ ذمته بهذا الإذن، ما لم يبرئه منه.
الوصية السادسة: في الاستفادة من الوقت
على المسلم أن يستفيد من أوقاته، ويستغرقها في طاعة الله - تعالى - من صلاةٍ، وتلاوةِ قرآن، وذِكر، وقراءة في الكتب النافعة، ومدارسة للعلم، وهذا يتم باختيار الرفقة الصالحة، فإن الحاج ما خرج من بلده، وترك أهله؛ إلا لطلب الأجر والثواب، وهو يرجو أن يعود وقد غفر اللهُ له ذنبه، فعليه أن يغتنم الأوقات الفاضلة في الأماكن المقدسة، وعليه أن يحذر من إضاعة الوقت فيما لا نفع فيه، وعليه أن يجتنب المعاصي والآثام طوال دهره، وفي المواضع الفاضلة، والأزمنة الشريفة تكون التبعة أعظم، وقد يؤثر ذلك على الطاعة، وينقص ثوابها.
الوصية الخامسة: في الحج المبرور
ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)؛ أخرجه البخاري (1683) ومسلم (1349).
والحج المبرور ما اجتمع فيه أربعة أوصاف:
الأول: أن تكون النفقة من مال حلال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله - تعالى - طيب لا يقبل إلا طيبًا)؛ أخرجه مسلم (1015).
الثاني: البعد عن المعاصي والآثام، والبدع والمخالفات؛ لأن ذلك إذا كان يؤثر على أيِّ عمل صالح؛ وقد يكون سببًا في عدم قبوله؛ ففي الحج أولى.
الثالث: أن يجتهد في المحافظة على واجبات الحج وسننه، ويتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأن يعظم شعائر الله - تعالى - كما تقدم.
الرابع: حسن الخلق، ولين الجانب، والتواضع في مركبه ومنزله، وتعامله مع الآخرين، وجميع أحواله، كما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته.
وما أحسن ما قاله ابن عبدالبر - كما في " التمهيد " (22/ 39) -: " وأما الحج المبرور فقيل: هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمالٍ حلال ".
الوصية الرابعة: تعظيم شعائر الله - تعالى -
يتأكد في حق الحاج أن يعظم شعائر الله – تعالى - ويستشعر فضل المشاعر وقيمتها، فيؤدي مناسكه على صفة التعظيم والإجلال، والمحبة والخضوع لله رب العالمين، وعلامة ذلك أن يؤدي شعائر الحج بسكينة ووقار، ويتأنى في أفعاله وأقواله، ويحذر من العَجَلة التي عليها كثير من الناس في هذا الزمان، ويُعَوِّد نفسه على الصبر في طاعة الله – تعالى - فإن هذا أقرب إلى القبول، وأعظم للأجر.
الوصية الثالثة: التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء المناسك
على المسلم أن يتأسى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء المناسك، ويفعل كما كان يفعل - صلوات الله وسلامه عليه - لأنه قال: (لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)؛ رواه مسلم، وعند النسائي (5/ 270) بلفظ: (يا أيها الناس، خذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا).
ويحذر من البدع التي ألصقها بعض الناس بالمناسك، مما ليس له أصل في دين الله - تعالى.
الوصية الثانية: معرفة صفة الحج
يجب على مَن عزم على الحج أن يعرف أحكامه، وصفةَ أدائه، فيعرف صفة الإحرام، وكيفية الطواف، وصفة السعي، وهكذا بقية المناسك؛ لأن شرط قبول العمل: أن يكون خالصًا لوجه الله - تعالى - كما تقدم، وموافقًا لما شرعه في كتابه، أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فمعرفة أحكام الحج لمن أراد الحج، من الأهمية بمكان؛ ليعبد المؤمنُ ربه على بصيرة، ويحقق متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لتأخذوا مناسككم)؛ أخرجه مسلم (1297).
ووسيلة ذلك أن يسأل أهلَ العلم عن كيفية أداء المناسك، أو يقرأ في كتب المناسك - إن كان ممن يقرأ ويفهم - أو يصحب رفقة فيهم طالب علم يستفيد منه.
ومِن الناس مَن يقع في الخطأ في أداء الشعيرة العظيمة؛ كصفة الإحرام، أو صفة الطواف، أو السعي، أو غيرها؛ لأسباب:
1- الجهل وعدم تعلم أحكام المناسك.
2- عدم سؤال أهل العلم الموثوق بعلمهم وورعهم.
3- سؤال من ليس من أهل العلم.
4- تقليد الناس بعضهم بعضًا.
والواجب على المسلم أن يحرص على ما يبرئ ذمته مِن تبعة واجبات الدين، وأن يتعلم كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده؛ فإن هذا العلم فرض عين على كل مسلم ومسلمة؛ ليعبد الله - تعالى - على علم وبصيرة.
الوصية الأولى: إخلاص العبادة لله - تعالى
إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده شرطٌ لقبولها، وذلك بأن تكون أعمال العبد كلها لله - تعالى - من صلاةٍ، ودعاء، وطواف، وسعيٍ، وغير ذلك من أقواله، وأفعاله، ونفقاته، بعيدًا عن الرياء والسمعة؛ لأن الله - تعالى - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، كما قال - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقال – تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [البينة: 5]، وإذا نوى العبد التقربَ إلى الله - تعالى - في جميع أحواله، صار ذلك سببًا في زيادة حسناته، وتكفير سيئاته، كما دلت السُّنة على ذلك.