تكرار العمرة
تكرار العمرة
دلت الأحاديث الصحيحة على فضل العمرة، واستحباب الإكثار منها، ومن ذلك ما تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)؛ متفق عليه.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تابِعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة)؛ أخرجه أحمد (1/ 387) والنسائي (5/ 115) والترمذي (810) وهو حديث حسن، وصححه الترمذي، وله شواهد.
لكن ينبغي أن يُعلَم أن تكرار العمرة الذي ثبت فيه الثواب، هو ما كان من الميقات في سفرة مفردة، كما قرر ذلك أهل العلم، ومنهم العلامة ابن القيم - رحمه الله - في " زاد المعاد " (2/ 94، 175، 176).
وأما الإحرام بالعمرة، ثم الإحرام بأخرى بعد فراغه من الأولى، فهذا ليس من هدي سلف هذه الأمة، وهم أدرى منا بمعاني نصوص الشرع، والعمرة عبادة، ولا بد من دليل يفيد استحباب ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في " الفتاوى " (26/ 145): " والإكثار من الطواف من الأعمال الصالحة، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا رغَّب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم – أمتَه؛ بل كرهه السلف " .
وقال أيضًا (26/ 249): " فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة؛ فهذا مما لا يستريب فيه مَن كان عالمًا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه، وآثار الصحابة وسلف الأمة وأئمتها " .
وقال أيضًا (26/ 264): " وهذا الذي ذكرناه مما يدل على أن الطواف أفضل، فهو يدل على أن الاعتمار من مكة وترك الطواف، ليس بمستحب؛ بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار؛ بل الاعتمار فيه حينئذٍ بدعة، لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استحبابها، وما كان كذلك فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء " .
وعلى هذا فما يفعله كثير مِن الناس، مِن الإكثار من العمرة في رمضان، أو بعد الحج، أو في أوقات أخرى، حيث يخرجون إلى التنعيم، أو غيره من جهات الحل، وقد سبق أن أتى الواحد منهم بعمرة من الميقات الذي مرَّ به - فهذا كله غير مشروع؛ لعدم الدليل عليه - كما تقدم - بل الأدلة تدل على تركه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا ذلك في حجة الوداع ولا غيرها، إلا عائشة - رضي الله عنها - كما سيأتي، مع ما في ذلك من إيجاد الزحام في المطاف لأناس يطوفون إتمامًا لمناسك حجهم - كما في أيام الحج - أو يطوفون لنسك أحرموا به من الميقات - كما في رمضان أو غيره - أو يطوفون تطوعًا - وهم أفضل من هؤلاء كما تقدم.
وأما كون عائشة - رضي الله عنها - اعتمرت بعد حجتها؛ فهذا لا دليل فيه على تكرار العمرة، أو الإتيان بها بعد الحج لمن اعتمر قبله؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن عمرة عائشة - رضي الله عنها - من التنعيم، إما أن تكون قضاء لعمرتها المرفوضة عند من يقول بذلك، وإما أن تكون زيادة محضة، وتطيبًا لقلبها عند من يقول: إنها كانت قارنة.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر عائشة في الأبطح ومعه أصحابه، وتأخروا لأجلها، فلو كانت العمرة مشروعة لذهبوا جميعًا؛ حرصًا على الثواب، واستفادة من الوقت، لكن لم يحصل ذلك، فينبغي للمسلم أن يتأسى بنبيه وقدوته محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكثر من الطواف بالبيت والدعاء، فهذا هو الأفضل، والله أعلم.