لماذا القلب
فائدة
إنه الملك: القلب أمير الجسد وملك الأعضاء، فهو راعيها الوحيد وقائدها، وإنما الجوارح والحواس تبع له وآلات تصدع بما تؤمر، فلا تصدر أفعالها إلا عن أمره، ولا يستعملها في غير ما يريد، فهي تحت سيطرته وقهره، ومنه تكتسب الاستقامة أو الزيغ، وبين القلب والاعضاء صلة عجيبة وتوافق غريب بحيث تسري مخالفة كل منهما فورا إلى الآخر، فإذا زاغ البصر فلأنه مأمور، وإذا كذب اللسان فما هو غير عبد مقهور، وإذا سعت القدم إلى الحرام فسعي القلب أسبق، لهذا قال صلى الله عليه وسلم عن المصلي العابث في صلاته: « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه »، وقال لمن يؤم من المصلين: « استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم »، فأعمال الجوارح ثمرة لأعمال القلب، والخلاصة: القلب هو خط الدفاع الأول والأخير، فإذا ضعف القلب أو فسد أو استسلم انهارت الجوارح!! وفي المقابل إذا ذكر العبد ربه فلأن القلب ذَكَر، وإذا أطلق يده بالصدقة فلأن القلب أذِن، وإذا بكت العين فلأن القلب أمر، فالقلب مملي الكلام على اللسان إذا نطق، وعلى اليد إذا كتبت، وعلى الأقدام إذا مشت، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم للقلب حقه ومكانته حتى وصفه بأنه: « مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله »، وتوجه أول ما توجَّه إليه ليربّيه ويهتم به ويزكِّيه. فكل الأفعال مردها إلى القلب وانبعاثها من القلب، وكل الأفعال تعني كل الأفعال ولو كانت لبس ثيابك وزينة بدنك!! وهذا ما أدركه مستودع القرآن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال: " لا يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب ".
فائدة
هدف الحبيب الأول قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: « إنما نزل أول ما نزل منه (القرآن) سورة من الُمفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا ». فقد حرَّم الله الخمر في العام الثاني من الهجرة أي بعد البعثة بخمسة عشر سنة، وفرض الزكاة في العام الثاني من الهجرة كذلك، وفرض الحجاب في العام السادس من الهجرة بعد تسع عشرة سنة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كلها تكليفات تأخَّر نزولها حتى زكى القلب ولان وتمكَّن منه الحق واستبان. ولشرف القلب جعله الله أداة التعرف عليه ووسيلة الاهتداء إليه، بل إذا غضب الله على عبد كان أقصى عقوبة يُنزلها به أن يحول بينه وبين قلبه، وحيلولته هي أن يحرمه من معرفته وقربه، لذا كان الاهتمام به تعبير عن الاهتمام بالأهم عن المهم وبالأصل عن الفرع.
فائدة
هدف الحبيب الأول قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: « إنما نزل أول ما نزل منه (القرآن) سورة من الُمفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا ». فقد حرَّم الله الخمر في العام الثاني من الهجرة أي بعد البعثة بخمسة عشر سنة، وفرض الزكاة في العام الثاني من الهجرة كذلك، وفرض الحجاب في العام السادس من الهجرة بعد تسع عشرة سنة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كلها تكليفات تأخَّر نزولها حتى زكى القلب ولان وتمكَّن منه الحق واستبان. ولشرف القلب جعله الله أداة التعرف عليه ووسيلة الاهتداء إليه، بل إذا غضب الله على عبد كان أقصى عقوبة يُنزلها به أن يحول بينه وبين قلبه، وحيلولته هي أن يحرمه من معرفته وقربه، لذا كان الاهتمام به تعبير عن الاهتمام بالأهم عن المهم وبالأصل عن الفرع.
فائدة
الهدف المشترك: وقد أدرك الشيطان دور القلب ومكانه فلم يضيِّع وقته في معارك جانبية أو مناوشات هامشية، بل صوَّب جهده نحو هدف واحد وغاية ثابتة. قال ابن القيِّم: " ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه ؛ أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصده عن الطريق، وأمدَّه من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق ". فالقلب هو الهدف المشترك بين الملك والشيطان، كلاهما يستهدفه، فهو موضع الصراع، والنقطة الملتهبة، وساحة القتال، وأرض المعركة، ونتيجة هذه المعركة: إما هداية القلب وحياته، وإما قساوته وموته وهلاكه، فواعجبا ممن أخذ نصيحة العدو، وردّ وصية الحبيب، واشترى صداقة الشيطان بعداوة الملائكة، وأعلن الحرب على ما تبقى من إيمانه بالتعاون مع عدوه اللدود، وهي صيحة التعجب التي سبق وأن أطلقها ابن الجوزي حين قال: " كيف طابت نفسك أن تكون ظهيرا لفئة النفس على فئة القلب، وفئة القلب مؤمنة وفئة النفس كافرة؟! "
فائدة
عن الجوارح مختلف وقد يقول قائل: لكن الأعضاء والجوارح كذلك مستهدفة من قبل الملائكة والشياطين، فما الفارق بينها وبين القلب؟! وأقول على لسان أبي حامد الغزالي الذي بيَّن الفارق الجلي في قوله: " العوارض له أكثر، فإن الخواطر له كالسهام، لا تزال تقع فيه، وكالمطر ؛ لا تزال تُمطر عليه ليلا ونهارا لا تنقطع، ولا أنت تقدر على منعها فتمنع، وليس بمنزلة العين التي بين الجفنين، تغمض وتستريح، أو تكون في موضع خال، أو ليل مظلم فتُكفى رؤيتها، أو اللسان الذي هو وراء الحجابين: الأسنان والشفتين، وأنت قادر على منعه وتسكينه، بل القلب غرض للخواطر، لا تقدر على منعها والتحفظ عليها بحال، ولا هي تنقطع عنك بوقت ".
فائدة
طهارته شرط الدخول: والسبب الثالث في أهمية القلب أن طهارته شرط دخول الجنة، لذا ذم الله خبثاء القلوب فقال: ﴿ أُولِئك الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدُّنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظيْمٌ ﴾ [المائدة: 41]، والآية دليل دامغ على أن من لم يطهِّر قلبه فلا بد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولهذا حرَّم الله سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من خبث، قال صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ». ولا يدخلها أحد إلا بعد كمال طيبه وطهره، لأنها دار الطيبين، ولذا يُقال لهم وهم على مشارف الجنة: ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73]. ويُبشَّرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملائكة: ﴿ الّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجنَّةَ بِمَا كُنْتمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32].
فائدة
قال ابن القيِّم: " فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا مَن فيه شيء من الخبث، فمن تطهَّر في الدنيا ولقي الله طاهراً من نجاساته دخلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهر في الدنيا ؛ فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال، وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار من تلك النجاسة، ثم يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهَذَّبون وينقَّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة، ولم توجب لهم دخول النار، حتى إذا هُذِّبوا ونقوا أُذِن لهم في دخول الجنة ". من أجل ذلك جاء الأمر جازما للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]. قال ابن القيِّم: " وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق ".
فائدة
النجاسة الكبرى قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التوبة: 9] فعبَّر سبحانه وتعالى عن نجاستهم بالمصدر للمبالغة ؛ وكأنهم عين النجاسة لأن خبائث الباطن أولى بالاجتناب وهل أخبث من الشرك؟! فإن خبائث القلب مع خبثها في الحال مهلكات في المآل، ومعنى آخر: هو أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظاهر، فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن ولكنه نجس القلب، وهذا الذي ذهب إليه أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله وقوله، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده
فائدة
كان صلى الله عليه وسلم قد قال: « لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة »، فإن أبا حامد الغزالي [ت: 505] قد تأمل في هذا الحديث تأملا قد يكون بعيدا عن الظاهر لكنه ذو دلالة فقال: " والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها، وهم المقدسون المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات، فلا يلاحظون إلا طيبا، ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيبا طاهرا ".
فائدة
موضع نظر الله: من القلوب قلب كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت، أو كبيت مظلم على سطحه سراج وباطنه ظلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا: « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم ». إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية، وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع نظر الرب، فلا عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن، فاعجب ممن يعتني بمظهره وهندامه الذي هو محل نظر الخلق ؛ فيغسل ثوبه ويعطِّره، وينظِّف بدنه ويطهِّره، ويتزيَّن بما أمكن، لئلا يطَّلع مخلوق على عيب فيه، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق ؛ فيطهِّره ويزيِّنه لئلا يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد غيره. ومعنى آخر من الحديث قاله ابن الجزري: " النَّظَر ها هنا الاخْتِيار والرحمة والعَطْف لأنَّ النظر في الشاهد دليلُ المحبَّة، وتَرْك النظر دليل البُغْض والكراهة ".
فائدة
وتأمَّل ما يلي لتعلم أهمية القلب: إن العمل قد يكون ظاهره العصيان وصاحبه مُثاب، كأن ينطق الرجل بكلمة الكفر مُكرَها وقلبه مطمئن بالإيمان، أو يشرب مُسكِرا بغير رضاه، وفي المقابل قد يكون ظاهر العمل الإحسان وصاحبه في النار، كأن يُقتل المرء في ساحة قتال ليتغنى الناس بشجاعته، ويُنفق ماله في طرق الخير ليُثني الناس على كرمه، ويقرأ القرآن ليلفت إليه أعناق الغير، والقلب في كل هذه الأحوال واقف وحده في قفص الاتهام أو مُسجَّل بأزهى الحروف في لوحة الشرف.
فائدة
مذنب وبرئ!! وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا عُمِلَت الخطيئة في الأرض كان من شهِدها ؛ فكرِهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ». سبحان الله! غائبٌ عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين، وآخر حضر الجريمة بنفسه ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب الذي أنكر فسلِم أو رضي فأثم. وفي الحديث بشارة ونذارة ؛ بشارة لمن اضطر إلى حضور مجلس يُعصى الله فيه ولم يستطع أن ينكره بيده أو بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان ؛ فيقوم القلب بالواجب وينبري للإنكار، ونذارة لرجل أراد الله له الخير فأبى لنفسه إلا الشر، وعصمه من المنكرات فأبى إلا التلطخ بها، وصرف جسده عن مكان الإثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعوقب بمساواته مع مرتكب الجرم.
فائدة
إنه القلب حين يزني!! نعم يزني، ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إلا أن الذي أطلقها هو من وصفه ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ومن رحمته ورأفته بأمّته تحذيره الصريح لها بقوله: « وزنا القلب: التمني ». قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا: " زنا القلب التمني: أي يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة ". إن للقلب كسبا كسب الجوارح وعملا كعملها، والله سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب ثوابا وعقابا، فقال سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [البقرة: 225]. ويشهد لعمل القلب هذا وأن الله يحاسب العبد عليه حديث: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار ». قيل: يا رسول الله!! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: « إنه كان حريصا على قتل صاحبه ». فدخل هذا المسلم النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي ؛ ليس غير.
فائدة
الظاهر والباطن!! نعم.. صورة القلب هي الأصل، فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيا، وإن خالف الظاهر الباطن كان ما في القلب مزيفا، وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند الله، أما الناس فإنهم مكلَّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه والله يتولى السرائر، ومن هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة إلى الناس بإسلام الناطق بها، في حين أن الله وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن، وقد نطقت ألسنة المنافقين بالشهادتين، فعصمت دماءهم في الدنيا، لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك الأسفل من النار بما حوت قلوبهم. واسمعوا إلى ارتباط الظاهر بالباطن في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ﴾ [آل عمران: 31]، فإن حب الله في القلب يورث اتباع الجوارح ولا بد ؛ وإلا كان ادعاء وكذبا وزورا.
فائدة
النافع الوحيد: قال عز وجل: ﴿ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنوْنٌ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليْمٍ ﴾ [الشعراء: 88-89]. فلا القول ينفع، ولا العمل يشفع، بل سلامة القلب هي أصل كل نجاة ؛ كما أن فساده أصل كل بلية، لكن ما هو القلب السليم؟! والجواب: هو القلب الذي سلم من كل شيء إلا من عبوديته لربه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر ؛ فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يُمدح به ". وتأمل كيف جعل الله المال والبنون بمعنى الغنى، كأن المعنى: يوم لا ينفع أحد غناه إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ؛ لأن غنى الرجل الحقيقي هو في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه فى دنياه بماله وولده، وعلى هذا يكون من معاني القلب السليم أي من فتنة المال والبنين. لكن تلميذا نجيبا من تلامذة ابن تيمية أفاض في شرح معنى القلب السليم ؛ يبغي بذلك إزالة أي لبس أو غموض حتى يسهل الوصول إلى المراد
فائدة
فقال الإمام ابن القيِّم [ت: 751]: " والقلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله، فهذا القلب السليم فى جنة معجلة فى الدنيا، وفى جنة فى البرزخ، وفى جنة يوم المعاد، ولا يتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والاخلاص، وهذه الخمسة حجب عن الله "
فائدة
آية سورة ق: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 32-33]. وتأمل قوله تعالى في الشعراء: ﴿ أَتَى ﴾، وفي ق: ﴿ جَاءَ ﴾، وكأن المعنى الذي يريد أن يوصله لك ربك: ائتني بقلب سليم وجئني بقلب منيب تنجُ من عذابي وتنل رضائي، فأنت يا أخي وحدك الذي تملك أن تأتي بهذا القلب وليس أحد غيرك. وفي المقابل قد يدخل عبد النار بسبب قلب كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]. بل إن حال العبد في قبره ما هو إلا انعكاس لحال قلبه في الدنيا كما قرَّر ذلك ابن القيم وهو يزيدنا في كتابه زاد المعاد: " فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلاقا
فائدة
بيت الإيمان والتقوى: قال خبير القلوب وكاتم سر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيتُ أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدَّثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرِّجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السُّنة، وحدَّثنا عن رفعها قال: « ينام الرجل النوْمة فتُقْبَض الأمانة من قلبه،.. ». والأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة التي جاءت في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، وهي عين الإيمان، فالأمانة هنا هي الإيمان، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الإيمان نزل أول ما نزل في القلب تعبيرا عن الفطرة السوية التي يولد بها العبد، ثم يزيد الإيمان بعد ذلك اكتسابا بتعلم القرآن والسنّة، وتأتي أهمية الأمانة من أنها إذا تمكنت من قلب العبد ؛ قام بأداء ما أُمِر به واجتنب ما نُهِي عنه في بكل طواعية وتسليم. وفي الشطر الثاني من الحديث أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الإيمان يُنزع أول ما يُنزع كذلك من القلب، فمن القلب الزيادة ومنه النقصان، وفيه نشأة الخير ومولد الشر، ولو لم يكن للقلب من فضل إلا أنه وعاء الإيمان لكفاه وفضل عليه. والقلب كذلك هو وعاء التقوى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « التقوى ها هنا »، وأشار إلى صدره، علامة على أن مكان التقوى هو القلب، والقلب وحده، فليست التقوى نبرة خشوع أو دمعة عين أو إطالة سجدة أو غير ذلك من المظاهر الفارغة من الروحانية والخشوع، إنما هي سر قلبي مستودع في القلب لا يطلع عليه أحد إلا الله.
فائدة
هشاشة المصاب: قال ابن القيِّم: " ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح من يسير الحر والبرد والحركة ونحو ذلك، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته ". فمريض القلب أي نفحة هواء أو هبة تراب تصيبه في مقتل، وأي شهوة عابرة أو زلة تتسبب في فتنته، وأعرى فخ للشيطان يسقط فيه، وأسهل مكيدة لعدوه يسارع إليها، والسبب في ذلك كله ضعف قلبه وانهيار أجهزة المناعة لديه.
فائدة
السرطان: أصعب المرض عدم معرفة المرض، وأصعب منه عدم معرفة أنك مريض، وأصعب وأصعب أن ترفض الاستماع إلى وصية الطبيب، وهذه ثلاثتها تجتمع في أمراض القلوب، فمرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه ؛ لذلك يغفل عنه، وأمراض القلوب هي سرطان الروح، وخطورتها في أنها كالمرض الخبيث تتسلل إليك دون أن تشعر، فلا ارتفاع حرارة ولا ضغط مرتفع ولا نزيف يؤلم أو جرح ينذر، لذا يمرض فيها الطب ولا ينفع. قال لنا ابن القيِّم [ت: 751] بعد أن زرناه في عيادته الربانية: " وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألّم بورود القبيح عليه، وتألّم بجهله بالحق بحسب حياته، وما لجرح بميت إيلام ". ومما يجعل مرض القلب أخطر من مرض البدن بكثير أن مرض القلب عذابه دائم بعد الموت لا ينقضي ؛ بعكس مرض البدن الذي يُتخَلَّص منه بالموت، مما يجعل الاهتمام بأمراض القلوب أوجب والسعي في علاجها أدعى. إن ما يصيب البدن من أسقام في هذه الحياة يؤجر عليه الإنسان، أما ما يصيب القلب من أمراض فهو الإثم كله والهلاك كله في الحياة وبعد الممات، إنك إذا دخلت معركة فقتلك العدو الظاهر وسلبك حياتك لمتّ شهيدا، أما إذا غلبك العدو الباطن بأسلحة الشهوات والشبهات لمتّ حينئذ طريدا، وشتان عند الله ما بين شهيد وطريد، شتان شتان.
فائدة
وحده مالك دوائه: قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ [الحج: 15] هذه الآية تصف حال نفر من المنافقين امتلأت قلوبهم غيظا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علوه ونصره، فقال الله لهم: إن الله ناصر رسوله في الدنيا والأخرة ؛ فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله لن يفعل ويغيظه أن يظفر نبينا بموعود الله له ؛ فليستقص وسعه وليستفرغ جهده في إزالة ما في قلبه من غيظ بأن يفعل أقصى ما يستطيع فعله، ولو كان ذلك أن يفعل من بلغ منه الغيط كل مبلغ حتى مدَّ حبلا إلى سماء بيته فشنق به نفسه، فإنه وإن فعل ذلك فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من غيظ، كلا والله فلن يذهب غيظه ولن يزول مرضه إلا أن يشاء الله، فالله وحده هو شافي الصدور ورافع وحر القلوب.
فائدة
* إذا كنت تعاني الكآبة والحزن واليأس والجزع، فهل تملك قوى الأرض جميعا أن تغيِّر من ذلك مثقال ذرة؟! * إذا حيزت لك الدنيا بحذافيرها وصارت تحت أقدامك ؛ لكن امتلأ قلبك كمدا وغما فهل تهنأ من دنياك بشيء؟! * إذا غرق قلب في الشك والشبهات والزيغ والرِّيَب ؛ فهل يملك نزع ذلك المرض من صدرك أحد من أهل الدنيا ما لم يشأ ربك؟! * إذا رأيت نعيم الدنيا مقبلا على غيرك ومُعرِضا عنك، فممدت عينيك حسدا ولسانك حقدا وقلبك غلا، فهل يملك تطهيرك مما أنت فيه أحد غير الله؟! * إذا أحب قلبك شهوة وأُشرِبها ومال إلى خطيئة وعشقها، فهل يملك أن يعدل قلبك المنكوس ويحيي فطرتك السليمة أحد سوى خالقه؟! * إذا كره قلبك طاعة واستثقلها وملَّ المداومة عليها حتى كاد أن ينقطع، فهل يملك أحد أن يحبِّبك فيها ويدنيك منها سوى الذي حبب إلينا الإيمان وزيَّنه في قلوبنا؟! هذا ما أدركه مطرف بن عبد الله [ت: 95] حين انخلع من رؤية عمله واعترف بقمة عجزه وغاية ضعفه وردَّ الفضل كل الفضل إلى الله وحده حين قال: " لو أُخرِج قلبي فجُعِل في يدي هذه في اليسار، وجيء بالخير فجُعِل في هذه اليمنى، ثم قُرِّبت من الأخرى ما استطعت أن أولج في قلبي شيئا حتى يكون الله عز وجل يضعه ".
فائدة
إلى كل مريض: يستطيع الإنسان أن يحرِّك رجله إن أراد أو يهوي بيده أو يرفعها، لكن هل يستطيع أن يفعل ذلك مع قلبه؟! كلا والله.. فكيف تتعامل مع قلب لا سلطان لك عليه بل لا سلطان عليه إلا لله، ولا معرفة لك بأسراره وكنهه بل لا يعرف ذلك إلا الله؟! ألا فليعلم كل من أراد علاج قلبه اليوم دون الاستعانة بربه أنه لن يزداد إلا مرضا، ألا وقل لطالبي الشفاء من عند غير الله: يا عظم خسرانكم، ألا قل للواقفين بغير بابه: يا طول هوانكم، ألا قل للمؤمِّلين لغير فضله: يا خيبة آملكم، ألا قل للعاملين عند غيره: يا ضلال سعيكم. من الذي يستطيع أن يحول بينك وبين الدواء، ويمنع عنك الطاعة؟! ومن الذي يُبدِّل الأمن خوفا والجبن جرأة؟! ومن الذي يقلب الكره حبا والحب كرها؟! أخي.. دواؤك عنده فلا تلتمسه عند غيره، وشفاؤك بيده فلا تُتعِب الأطباء معك، وإن من شيء إلا عنده خزائنه ؛ وأنت تائه على أبواب الفقراء تتسول!!
فائدة
الانقلاب: القلب هو أرق أعضاء الجسم وأسرعها تأثرا بما يحيط به ويغشاه، ومن رقته أن تؤثِّر فيه أدنى خاطرة وأقل هاجس، وأثر القليل عليه كثير، فالآفات إليه أسرع، وهو إلى الانفلات أدنى، ومن الانقلاب أقرب، فإن قلب المرء وإن صفا زمنا، وثبت على الإيمان فترة، واستلذ بحلاوته حينا، فإنه معرّض للانتكاسة، وهذه هي طبيعة القلب ومنها اشتُقَّ اسمه، قال القرطبي وهو يشرح معنى كلمة القلب: " وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته، وقلبت الإناء: رددته على وجهه، ثم نُقِل هذا اللفظ فسُمِّي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر إليه ولترددها عليه كما قيل: ما سُمِّي القلب إلا من تقلُّبه... فاحذر على القلب من قلب وتحول " قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما سُمِّي القلب من تَقَلُّبِه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يُقلِّبها الريح ظهرا لبطن »، وإن القلب شديد التقلب سريع التحول، ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا فيقول: « لقلب ابن آدم أسرع انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانًا ».
فائدة
إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من الإيمان التي يجدها بعد أعظم العبادات قدرًا، وعقب أكثر المواسم خيرا وفضلا ؛ أمر مستحيل ؛ لشدة انشغال القلب بالدنيا وملذاتها، وما يعتريه فيها من أفراح وأتراح، بل وتعرّضها لغزوات الشيطان المتلاحقة، وتلاعب اليهود بالعورات، وعزفهم على وتر الأهواء، ومع ذلك أريد أن أطمئنك وأُخوِّفك في الوقت ذاته ما دام تقليب القلوب بيد الله وحده. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرِّفه حيث يشاء »، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك ». أخي.. لقد صليت اليوم خمس صلوات فأجبني صادقا: كم مرة دعوت بهذا الدعاء؟! مع أنك أحوج إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتن اليوم أعم وأطغى، والقلب أضعف وأوهن، فاحرص على ما بينك وبين الله، وصِل ما انقطع من حبالك معه حتى يثبِّتك على مرضاته اليوم ويهديك
فائدة
لموت القلب علامات تختلف من شخص إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى ؛ فإن أبرز علامات موت قلب العلماء وأشهرها هي ما عرفناه من مالك بن دينار [ت: 130] الذي قال: " سألتُ الحسن [ت: 110]: ما عقوبة العالم؟ قال: موت القلب. قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة ". وسمَّاهم ربيعة الرأي [ت: 133] بالسفلة وسفلة السفلة، فقد روى مالك بن أنس [ت: 179]: " قال لي أستاذي ربيعة الرأي: يا مالك! من السفلة؟ قلت: من أكل بدينه، فقال: فمن سفلة السفلة؟ قال: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه ".
فائدة
رسالة تحذير: قال صلى الله عليه وسلم: « أول ما يُرْفع من الناس الخشوع ». وهو إشارة إلى أن علم القلوب سيضمحل وسط طغيان علوم الدنيا، وأن أسراره ستضيع وبركاته ستذهب وسط الزحام، وهو أول فساد يمس الأرض بعد رسول الله، ليكون علامة على خبث الباطن، ومخالفة السر العلن، وعندها فساد كل شيء: تذبل القلوب لموت الأرواح فيها، وتقرأ الألسنة العربية القرآن وكأنها أعجمية، فلا فهم ولا تدبر ولا امتثال، وتنشغل الأمّة –إن انشغلت- بمظهر العبادة دون جوهرها، وتهتم بأركانها دون مقاصدها، ويكثر البهرج الزائف وإن اتَّشح بوشاح القرآن. قال صلى الله عليه وسلم: " أكثر منافقي أمّتي قرَّاؤها ". وإذا فشا النفاق في أمّة رأيتَ العجب العجاب، ليس في زماننا فحسب، بل وفي زمان من هم أزكى منا وأطهر، وليس بين العوام بل بين حفظة كتاب الله.
فائدة
أعمال القلوب أولى وأغلى: لعمل القلب المكانة العظمى والمنزلة الأسمى في دولة الإيمان، لذا ذكر العلماء أن عمل القلب أهم من عمل الجوارح، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميِّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟! وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت ". وقال في موضع آخر: " فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح ".
فائدة
عليه مدار الأجر وتفاوته: فتتفاوت الأجور في كل عمل حسب محتوى القلوب، ففي الصلاة: قد يصلي الرجلان في صف واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والأرض، وقد ينفق الأخوان مبلغا واحدا فينال أحدهما أجرا واحدا بينما الآخر ينال سبعمائه أجر أو أكثر، وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر أحدهما عن الآخر أضعافا مضاعفة، بل حتى في الجهاد ؛ ففي غزوة مؤتة لما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم أخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: « لقد رُفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عمَّ هذا؟! فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بن رواحة بعض التردد ثم مضى ». لحظة واحدة من عمل القلب كانت سببا في تأخر ابن رواحة، ولمحة من طرْف العين أنزلته دون صاحبيه، ليحوز شهادة دون شهادة، وفوزا دون فوز، وهذ كله من عمل لحظة!! لكنها لحظة قلبية، لكن كيف بمن غرق قلبه الأيام والأعوام في غفلات متتابعات وسكرات متلازمات؟! تُرى كم يتأخر في الجنة ؛ هذا إن دخلها!!
فائدة
العلم الحقيقي: وهو علم القلوب، وقد فهم سلفنا الصالح أهمية هذا علم القلوب على سائر العلوم، فقال عنه أبو حامد الغزالي: " وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة "، وقال عمرو بن قيس الملائي: " حديث أُرقِّق به قلبي، وأتبلَّغ به إلى ربي، أحب إليَّ من خمسين قضية من قضايا شُرَيح "، بل لما قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟! قال عبدالوهاب الوراق. قيل له: إنه ليس له اتساع في العلم قال: إنه رجل صالح مثله يُوفَّق لإصابة الحق، وسُئل كذلك عن معروف الكرخي ؛ فقال: كان معه أصل العلم: خشية الله. واستُفتي الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: " وهل رأيت فقيها قط؟! الفقيه القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا
فائدة
قلب يقلب المعركة: قد يدخل قلبٌ المعركة فيقلب الهزيمة الساحقة نصرا مبينا خاصة إن كان من نوع قلب أبي طلحة رضي الله تعالى عنه الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم: « صوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل ». صوته فحسب بألف فكيف بسيفه؟! وهل بلغ هذا إلا بقلبه وما يحويه قلبه؟ وهل هذا إلا نتاج شجاعته وإقدامه وثباته وإيمانه وهي كلها أعمال قلوب؟! رحمة الله عليه وكأنه يشرح بفعله معنى قول ابن الجوزي: " الشجاع يلبس القلب على الدرع، والجبان يلبس الدرع على القلب ".
فائدة
مستودع الأخلاق والمشاعر: إن قلب المرء هو الذي يتحكم في أخلاقه ويكظم انفعالاته ويضبط سلوكه ويهذِّب الشارد من طباعه، وهل تسكن أخلاق الأمانة والوفاء والصبر والحلم والرحمة والعفو والصدق والعدل بيتا غير القلب؟! ولذا قال الأحنف بن قيس: ولربما ضحك الحليم من الأذى ** وفؤاده من حرِّه يتأوَّه ولربما شكل الحليم لسانه ** حذر الجواب وإنه لمُفوَّه فحُسْن الخلق من حياة القلب، وسوء الخلق من مرض القلب أو موته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولذا فقد كان قلبه أعمر القلوب بالحياة حتى أيقظ قلوب كل من كان حوله في حياته وبعد رحيله.
فائدة
بين الموت والحياة: قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122] وهذا مثل ضربه الله للذي هداه بعد الضلالة وشبَّهه بأنه كان كالميت الذي أحياه الله، وجعل له نورا يمشي به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين أبيضهم وأسودهم وجميلهم وقبيحهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف، ويسير فلا يتعثَّر أو ينكب على وجهه، ويعرف طريقه بل يساعد غيره على معرفة طريقه: يرشد العميان ويهدي الحيران، أهذا مثله مثل من بقي على الضلالة المتخبط في الظلمة لا ينفك منها ولا يتخلص؟! ولكي تفهمه الفارق جيدا بين الفريقين وترى التناقض الكبير والبون الشاسع بين طريقين، فاسمع ما قاله زيد بن أسلم والإمام السُّدِّي في تفسير هذه الآية: " ﴿ فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾: عمر رضي الله عنه، ﴿ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾: أبو جهل لعنه الله ". إنه الفارق بين السماء والأرض، لكن الصحيح أنها عامة في كل مسلم وكافر، أو ضال ومهتدي
فائدة
قال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار، فقال في الإنكار: ﴿ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: 22]، وقال في الحميّة: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ﴾ [الفتح: 26]، وقال في الانصراف: ﴿ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 127]، وقال في القساوة: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وقال: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ [البقرة: 74]، وقال في الموت: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [الأنعام: 122]، وقال: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 36]، وقال في الرين: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، وقال في المرض: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ [البقرة: 10]، وقال في الضيق: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ [الأنعام: 125]، وقال في الطبع: ﴿ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 87]، وقال: ﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [النساء: 155]، وقال في الختم: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [البقرة: 7] ". وفي مقابل وصف: ميت ؛ أطلق الله على كل من قُتِل جهادا في سبيله لفظ: حي، بل حرَّم علينا أن نطلق عليهم لقب أموات، وما ذلك إلا لحياة قلبه، فقال: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [آل عمران: 154] فنهانا سبحانه أن نطلق على الشهيد كلمة: ميت، فهو حي في حياته وبعد رحيله، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلحة بن عبيد الله وهو حي: « طلحة ممن قضى نحبه »، فالحي حي في حياته وبعد مماته، وميت القلب ميت في حياته وبعد موته، وحياة قلب الشهيد توحي بها معنى كلمة شهيد والتي تعني أنه شهد على الغيب حتى صار عنده شهادة، ولأنه رأى بقلبه ما لا يراه الناس إلا بعد موتهم ؛ فأقدم على التضحية بأغلى ما يملك ؛ كوفئ باستمرار إطلاق صفة الحياة عليه حتى بعد الموت.
فائدة
قال أبو حامد الغزالي: " القلب خزانة كل جوهر للعبد نفيس، وكل معنى خطير، أولها العقل، وأجلُّها معرفة الله تعالى التي هي سبب سعادة الدارين، ثم البصائر التي بها التقدُّم والوجاهة عند الله تعالى، ثم النية الخالصة في الطاعات التي بها يتعلَّق ثواب الأبد، ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف العبد، وسائر الأخلاق الشريفة الخصال الحميدة التي بها يحصل تفاضل الرجال، وحُقَّ لهذه الخزانة أن تُحفظ وتصان عن الأدناس والآفات، وتُحرس وتُحرز من السُرَّاق والقُطَّاع، وتُكرم وتُجَلُّ بضروب الكرامات، لئلا يلحق تلك الجواهر العزيزة دنس، ولا يظفر بها -والعياذ بالله- عدو "