تأليف الرجال!
في القرن الخامس كان هناك عالم معتزلي اسمه محمد بن جرير الضبي، وكنيته أبو مضر، وكان يلقب بـ(فريد العصر)؛ هذا الرجل أقام بمدينة (خوارزم) مدة من الزمن، وتخرَّج عليه زمن مكوثه جماعةٌ من أكابر أهلها، لاسيما في علم اللغة والنحو، وهذا الضبي هو الذي أدخل مذهب المعتزلة في تلك النواحي من بلاد خوارزم، وممن تخرج على العالمِ أبي مضر تلميذَه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (538هـ) صاحب تفسير (الكشاف) الذائع، وكان الزمخشريُّ شديدَ التأثر بشيخه الضبِّي ذاكرًا لجميله معترفا بفضله وأثرَه عليه، وتشير بعض المصادر التاريخية أنه إنما أخذ منه بدعة الاعتزال التي حشى بها تفسيرَه، والتي أنهك من بعده بعض العلماء في التحشية عليه واستخراجها كما عبّر بعضهم "بالمناقيش"! المرادُ أن الزمخشريَّ كان منجذبا لشيخه أبي مضر الضبّي متأثرًا به للغاية، واستبدَّ به الحزن بعد رحيله، ومما يوضَّح ذلك التأثر البالغ بيتان رقيقان رثاه بهما بعد موته، وقد أجاد الزمخشري فيهما تصوير جانب الأثر "الضبِّي" عليه:
وقائلةٍ ما هذه الدرر التي... تساقطها عيناك سمطين سمطين؟
فقلت: هو الدرّ الذي قد حشا به... أبو مضر سمعي..تساقطَ من عيني!
قال ياقوت الحموي في معجم الأدباء عن أبي مضرٍ هذا:
(ولست أعرف له مع نباهة قدره وشيوع فكره مصنفا مذكورا ولا تأليفا مأثورا إلا كتابا يشتمل على نتف وأشعار وحكايات وأخبار سماه «زاد الراكب»)
فانظر كيف استطاعت يراعةُ التلميذ أن ترقم كتابا –على ما فيه من شطط- معدودا من عيون التفاسير، وتعثَّرَ قلمُ الشيخ، فلم يترك وراءه إلا كتاب مختارات وحكايات! وما يقال عن شيخ الزمخشري هذا يُقال عن معاصرين مؤثرين كأمين الخولي المصري وعبدالحميد بن باديس الجزائري على سبيل المثال!
فمن عبارات ابن باديس الشائعة والتي تلخص هذه الفكرة المقصودة هنا: (شُغلنا بتأليف الرجال عن تأليف الكتب).
فهذه المجال مجال صناعة الرجال وتأليف الطاقات في الناس بغير التأليف والتصنيف من أعظم الجوانب التي تنهض بها الأمم وتستضيء بها الأجيال
وربَّ رجلٍ فاضلٍ منحه الله طاقةً هائلة في التأليف والتصنيف والكتابة بين جدران مكتبته المنزوية، لكنه لا ينهض بعشرِ ما نهض به ابنُ باديس، وربَّ رجلٍ فاضلٍ لا يترك وراءه إلا كتاب مختارات وحكايات، وفي أحدِ طلابه طاقةٌ كتابية هائلة تقارب طاقةَ محمود بن عمر الزمخشري! والموفَّق من بحث في ملكاتِه جيدا عن جوانب قوَّته فلزمَها، ولم يحمل نفسه على ما لم تتهيأ له!
مختارات