تطويل الطريق
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك ظاهرة علمية لافتة تستحق الوقوف عندها وإجالة البصر كرتين حولها، وهي أن كثيرا من الشباب من ذوي الغيرة المشكورة على الحق والحماسة الصادقة في الدفاع عنه يكون لديهم إلمام حسنٌ بأقوال المخالفين، وترى عندهم تتبُّعا جيد لما يولِّده الضالُّون من المقالات وما يبعثونه من مرقد الانحرافات، وذلك في أبواب كثيرة نحو شبهات التغريب وحجية السنة ونفي الإجماع والاتكاء على الشذوذ الفقهي في تفصيل مذهب متصالح مع العصر، أو بعض مسائل الاعتقاد التي يثار الغبار حولها كتعريف التوحيد ومتى يقع الشرك ومسائل الإيمان وعدالة الصحابة وغير ذلك من الأبواب الشرعية، والإشكال أنه يقابل هذا الاعتناء البالغ في تتبع الأقوال المحدثة تقصير نسبي يتفاوت في معرفة الحق بأدلَّته، ولا شك أنه من الخطورة بمكان تعريض مضغة القلب للضلالات قبل الاستعداد لذلك إذ " القلوب ضعيفة والشُّبَهُ خطَّافة "، لكن لم أُرِدْ الآن التعرضُ لمسألة هذه الخطورة على القلب، وإنما أردت الإشارة من زاويةٍ أخرى لمعنى مختلف، وهو أن الامتلاء بأقوال المخالفين الباطلة قبل معرفة القول الصحيح يفضي إلى تطويل الطريق وتوعيره، وأن معرفة الحق قبل النظر في أقوال المخالفين يختصر الطريق ويمهِّده، وذلك لسببٍ منطقي وهو أن الحق واحد والضلالات لا تتناهى! فإذا عرف المرء الحق معرفة تامة واستيقن منه أدرك أن كلَّ ما خالفه –وإن لم يسمع به بعدُ!- فهو باطل، فالحق والباطل ضدان والضدان لا يجتمعان، وقد أشار لهذا المعنى الشريف عدد من العلماء المحققين، فعلى سبيل المثال قال الشيخ السعدي –في تفسيره العذب-: (إذا تبين الحق بأدلته اليقينية، لم يلزم الإتيان بأجوبة الشبه الواردة عليه، لأنها لا حد لها، ولأنه يعلم بطلانها، للعلم بأن كل ما نافى الحق الواضح، فهو باطل، فيكون حلُّ الشبه من باب التبرع) ولا يقصد الشيخ –بطبيعة الحال- أنه لا يُجاب عن شبهات المبطلين، فللشيخ يد طولى في نقض الضلالات المعاصرة لوقته، وإنما يريد التوكيد على أن معرفة الحق تختصر الطريق في معرفة الحق والباطل معًا، أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد كرر ذكرَ هذا المعنى وأكَّد عليه في غير موضع، فمن ذلك حينما أراد ذكر أولِ الطريق لمعرفة الأقوال الفاسِدة البدعية في تفسير القرآن قال: (التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة.. فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم) فانظر كيف جعل الشيخ هنا معرفةَ الصواب سبيلا لمعرفة الخطأ. وذكرَ الشيخُ في موضع آخر تشبيها طريفا لتعدد الضلالات وكثرتها وتشظِّيها وانشطارها فليست هي منضبطة محددة كانضباط الحق، فطلبُها قبل طلبِ الحقِّ فيه تطويل منهك لسالك الطريق، فقال: (القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء، ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عُرف أنه باطل ودُفِع..)فالأقوال الباطلة هي من باب مالا ينقض الوضوء، أما نواقض الوضوء فهي معدودة يسيرة يأتي عليها طالب العلم في مدة وجيزة، ويدرك بعد ضبطِها أن كلَّ ما سواها لا ينقض الوضوء، فتخيل معي أن إنسانا دخل لباب نواقض الوضوء بصورة مقلوبة طريفة، فصار يحفظ ما لا ينقض الوضوء من جميع الأفعال البشرية، كذلك هي صورة من يتطلب معرفة الأقوال الباطلة قبل أن يعرف الحق ويمتلئ به !
مختارات