آفة الغرور 1
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)} [فاطر: ٥].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (٨)} [الانفطار: ٦ - ٨].
الغرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان.
فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور.
وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون، وإن اختلفت أصناف غرورهم، واختلفت درجات غرورهم، وأظهرها وأشدها غرور الكفار والعصاة والفساق:
فالكفار: منهم من غرته الحياة الدنيا، ومنهم من غره بالله الغرور.
فالذين غرتهم الحياة الدنيا قالوا: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذن خير فلا بدَّ من إيثارها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)} [البقرة: ٨٦].
وعلاج هذا الغرور بأمرين:
أحدهما: الإيمان بالله وتصديقه فيما قال عن الدنيا والآخرة: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)} [الشورى: ٣٦].
وقوله سبحانه: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (٤)}... [الضحى: ٤].
الثاني: البرهان، فالدنيا نقد، والآخرة نسيئة، هذا صحيح، واللبس جاء من كون النقد خير من النسيئة، فليس الأمر كذلك، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير، وإن كان أقل منها فالنسيئة خير، والكافر المغرورلا يعلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم
لذا يركن إلى شهوات الدنيا ولذاتها مع أنها مشوبة بالأمراض والآفات والأكدار.
والمسلمون إذا ضيعوا أوامر الله تعالى، وهجروا الأعمال الصالحة، ولابسوا الشهوات والمعاصي، فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، لكن أمرهم أخف؛ لأن أصل الإيمان يعصمهم من عقاب الأبد، فيخرجون من النار بعد تطهيرهم من المعاصي.
ولكنهم من المغرورين، فإنهم اعترفوا أن الآخرة خير من الدنيا، ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها، ومجرد الإيمان بلا عمل لا يكفي للفوز بالجنة، فوعد الله للمؤمنين بالمغفرة ودخول الجنة كله منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً، فهو مركب منهما لا بالإيمان وحده كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧)} [الكهف: ١٠٧].
وغرور الكفار والعصاة بالله ألوان وأشكال.
ومنه قول بعضهم في أنفسهم وألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا، ونحن أوفر حظاً فيه، وأسعد حالاً كما قال سبحانه عن الكافر الذي يحاور صاحبه المؤمن قائلاً: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦)} [الكهف: ٣٤ - ٣٦].
وسبب هذا الغرور، أن الكفار والعصاة ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعيم الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم في الدنيا فيقيسون عليه عذاب الآخرة، وأنه لا يصيبهم كما قال سبحانه: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)} [سبأ: ٣٥].
وقال عنهم: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)} [المجادلة: ٨].
ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم شعث فقراء فيزدرونهم ويحتقرونهم فيقولون: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)} [الأنعام: ٥٣].
ويقولون: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}
وقد نشأ هذا الغرور من ظن الإنسان أنه كريم عند الله ومحبوب له، وإلا لما أحسن إليه، فيقول قد أحسن الله إلينا في الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن في الحاضر والمستقبل.
واللبس حصل تحت ظنه أن كل محسن محب، بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل ما أعطاه من الأموال والشهوات، وما علم أن الذي يبغضه الله يهمله ليعيش كيفما يريد، والذي يحبه يشغله بطاعته وعبادته.
فيظن هذا العبد المهمل حين يتركه ربه يتمتع بشهواته ولذاته أنه عند سيده محبوب كريم، وذلك محض الغرور، وهكذا نعيم الدنيا ولذاتها مهلكات ومبعدات عن الله، ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم، والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله، وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (١٦)} [الفجر: ١٥، ١٦].
فأجاب الله عن ذلك بقوله: {كَلَّا} [الفجر: ١٧].
أي ليس كما قال، إنما هو ابتلاء من الله، فليس الإعطاء دليل كرامة من الله، ولا المنع دليل إهانة، ولكن الكريم من أكرمه الله بطاعته غنياً كان أو فقيراً، والمهان من أهانه الله بمعصيته غنياً كان أو فقيراً ومنشأ هذا الغرور الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
مختارات