" صفاء الافتقار" !
كل الذي بين الإنسان وغايته: ضوء يقين، أو ظلمة وسوسة..الكثيرون يقعون في الثانية لأنها أقرب إلى ضعفهم البشري ونقصهم الإنساني فيتعثرون ولا يصلون.
والقليل هو الذي فقه المسألة، وجاوز بسراج اليقين ظلمة الوسوسة الموهومة؛ لأن المنطق يقضي أن أثق في
عطاء من لا تنفد خزائنه، ويستحي- إي والله يستحي!- أن يرد عبده اللائذ به خائبًا صفر اليدين، وأن أُكَذِّب الذي لا شاغل له إلا أن يحبطني ويؤيسني " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " !!
فتأتي المحنة لتعرية القلب من " شوائب الاعتماد " إلى " صفاء الافتقار "، ويتهاوى الكل القريب والبعيد: " إلى مَن تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ " !
ويبقى باب الرب مفتوحًا فسيحًا زاخرًا بالعطاء الذي لا يُحدُّ والكرمِ الذي لا يوصف!
ودائمًا يهرول السؤال في الصدر: كيف!؟ وهذا الكيف لا يليق بالرب تبارك اسمه، فالمسألة عنده هينة لا عناء فيها!: هو علي هَيِّن..!
كيف؟!
كن فيكون!
تضعف، أو يصيبك القلق، أو تتوتر، لا بأس فأنت إنسان! ولكن بركة الضعف والقلق والتوتر والغم- نعم بركته!- أن يحملوك على سجدةٍ تهيئك لتلقي " كنزك " !
فيكون القلق والتوتر والضعف والغم العارم دوافع للفرار إلى بابه واللياذ به، وبث الشكوى وبذل النجوى! ويتطهر الإنسان من الشوائب، ويزيد البث ساخنًا كاويًا، فتعظم المطهرة..وتعرض العقبات، ويشتد الألم، وتُبنى السدود، وهو على حاله وسِيرته الأولى صبرًا ويقينًا وثباتًا!
لا يغادر، ولا يشك، ولا يرتاب!
ولكنه تعب!..
تعبت ياربِّ! تعبت!
حتى صار في رداء الاضطرار.. " أمَّن يجيبُ المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله قليلًا ما تذكرون " !
نعم.. قليلًا ما نتذكر، فالمحنة تُنسي سوابقَ الكرم، والهم يشغل عن منازل العطاء، والشيطان يهمس بوسواسه المظلم..ولكن مع الأذى والألم والتعب..يصرخ الصادق باسطًا يده يارب!!
إيه يا أيها الصبور!
بُدِئَت طريق الكليم بنار!
وتقلَّبَتْ حياته منذ البدء في موج المحن، صغيرًا في التابوت، وكبيرًا في طرقات الخوف، وآلام الغربة: رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير!
فخرج منها خائفًا يترقب!
وفي سنين البذل والتعب:
" ولبثت سنين في أهل مدين " ! ثم...؟! " ثم جئتَ على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي " !
وبعد هذه الكُلُوم/الجراح، صار كليمًا!
وهكذا الصادق في تمحيصه!
حتى إذا تعب! جاء الفرج! وتكون هذه نهاية التمحيص التي تهيئ لبداية رحلة الشكر! فمثل هذا لن ينصرف مرة أخرى..لقد تربى!
ولن يضعف مرة أخرى..لقد عاين!
ولن يتكاسل مرة أخرى..لقد ذاق!
وهنا تأتي الهدية مرتين: هدية التصفية، وهدية الوصول إلى الغاية!
مختارات