آفة الغرور 2
وعلاجه بمعرفة دلائل الكرامة والإهانة في كتاب الله..كما قال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)}[المؤمنون: ٥٥،٥٦].وقوله سبحانه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٥٥)} [التوبة: ٥٥].
فمن آمن بالله تخلص من هذا الغرور.
ومن غرور العصاة من المؤمنين قولهم: إن الله كريم، وإنا لنرجو عفوه، واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال والتوبة، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين فلا يعملون، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، وكرمه عميم، وأين معاصي العباد في بحار رحمته، وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو مرتبتهم.
فيتركون الطاعات ويخوضون في الفسق والفجور اعتماداً على ذلك، وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى، فإن الإسلام إيمان وأعمال، ولا تزر وازرة وزر أخرى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١)} [النجم: ٣٩-٤١]
فمن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه، ويصير عالماً بتعلم أبيه، وهذا يجمع مع الغرور الجهل والسفه، فالتقوى فرض عين على كل مسلم، فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئاً.
والله كريم، وإنا لنرجو مغفرته ورحمته، هذا كله كلام صحيح مقبول، ولكن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر، مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، واغترت به النفوس.
وقد حول الشيطان الأماني وسماها رجاءً بلا عمل حتى خدع بها كثيراً من الجهال، وقد شرح الله الرجاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)} [البقرة: ٢١٨].
فلا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح، فسنة الله في عباده كل نفس بما كسبت رهينة، فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم؟ {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١)} [الملك: ١٠، ١١].
وموضع الرجاء المحمود في أمرين:
أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة، فقنطه الشيطان من رحمة الله، فيجب هنا أن يقمع القنوط بالرجاء بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه كريم يقبل التوبة من كل مذنب.
فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار على المعصية فهو مغرور.
الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال، ويقتصر على الفرائض، فيرجِّي نفسه نعيم الله تعالى، وما وعد به الصالحين، حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل.
فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة، والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر.
فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء، وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرور.
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل.. فما لا يبعث على العمل فهو تمنٍّ وغرور.. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم.. وسبب إقبالهم على الدنيا.. وسبب إعراضهم عن الله تعالى.. وإهمالهم السعي للآخرة.
وقد كان المسلمون في القرن الأول يواظبون على العبادات، ويبالغون في التقوى والحذر من الشبهات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)} [المؤمنون: ٦٠، ٦١].وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي، وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وعفوه.
فهؤلاء يضعون الطمع موضع الخوف، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر الله لي فهو الكريم المنَّان، فما أجهل هؤلاء بتخويفات القرآن
مختارات