أيام الصحوة...الحلقة (3)
نبيل والخطة ب
صرت ألتقي بنبيل عقب الصلوات نتحدّث عند بيتي ربع ساعة أو نصف ساعة ثم نفترق، كنت أتحدّث معه بلطف، وأعتبره " فازة " ثمينة، أخشى أن تسقط فتنكسر.. كنت لا أريد أبداً أن أعود لوحدتي، فحرصت على المحافظة عليه..
كنت أرى وأنا أتحدّث مع نبيل مجموعة المطاوعة/الصحويين الشباب متحلقين هناك في طرف الشارع " عوض، حاتم، طلال.. وغيرهم " وكان نبيل ينظر إلى عينيّ باحثاً فيهما عن ظِلال رغبة في أن أنضمّ إليهم حتى يشرع في عملية الدمج، ولكنّ جداراً بشريا كان أمامه.. صبر عليّ أياماً ثم سألني:
إيش رايك نروح نسلّم عليهم؟
بالطبع كان رفضي صارماً.. مغلّفا بأدب.. هذا ما أذكره، كنت حيياً بشكل مَرَضي..
في اليوم التالي يبدو أنّه أخبرهم بردّي فما كان منهم إلا أن تسنّموا زمام المبادرة، فصاروا يقتربون منّي أنا ونبيل ويتصنّعون العفويّة، وكأنّهم يتحدّثون ويمشون إلى أن حاذونا فرفعوا أصواتهم بالسلام، وغمروا أوجههم بابتسامات غالية على قلبي.. اقتربوا منّا أكثر وصافحونا.. لم يطيلوا الوقوف دقيقة أو اثنتين، ثم أكملوا المسير.. كانوا أذكياء جداً..
في اليوم التالي كانت وقفتهم أطول.. ودمجوني في حديث عابر، سألني " عوض " ما رأيي في اللحية؟ كان سؤالا غريباً إذ أننا جميعاً بلا لحى.. ما زلنا صغاراً على اللحى !
سعدتُ جداً بالسؤال الذي أتاح لي أن أستعرض ثقافتي الكاسيتيّة، فقلت: يقول سعيد بن مسفر ليس للحيّة وزن ثقيل حتى يكافح الرجل لحلقها ! ضحكوا من المقولة.. لا أدري هل أعجبتهم أم أن ذلك الضحك كان من ضمن مخطط الاجتذاب ! شعرت أنا بالزهوّ، وأني أمتلك ثقافة جيّدة، فالمعلومات التي يبحثون عنها عندي منها الكثير !!
تفرّقنا..
دلفت إلى بيتي.. شعرت أنه لا يسعني، أحسست أنّي عظيم، عدت للتوّ من قمّة إيفرست.. كم هو رائع أن تتحدث مع الناس، أن تشعر أنّ اللسان الذي خلقه الله في فمك يمكنه أن يتحرّك وينتج أحرفاً مسموعة ! في الليلة التالية، كنت متشوّفاً لمرورهم.. والحقيقة أنّهم لم يمرّوا، نحن اللذان مررنا بهم، في تلك اللحظة رأيت في عينيّ نبيل صرخة النصر.. لقد استطاع أن يضيفني لمجموعة المطاوعة، لقد نجح في أن يجعلني صحويّاً رسمياً، بعد أن كنت صحويّاً متعاوناً ! بعد أن كنت مستمعاً للأشرطة، الآن بتّ شريطاً متحرّكاً في دنيا الصحوة..
أصبحت صديقاً لأولئك الذين قصّروا ثيابهم، وأطالوا مبادئهم..
مادام أنها أمنية.. فلتكن أمنية كبيرة !
صحراء في قلبي أعشبت، وصارت مروجاً وأنهاراً، كانت لقاءاتي بأصدقاء تلك الحقبة لقاءات مساجد وشوارع وأزقّة وعند عتبات المنازل.. ولكنّها كانت لقاءات توصل روحي إلى الفردوس الأعلى، أحاديث أنقى من ماء السماء، كلّها طهر، وأوجاع أمّة، وأحاديث قدسية..
صرت أمكث تحت الشمس بُعيد صلاة الظهر أتحدّث طويلا مع حاتم، ذلك المثقّف بجراح فلسطين، والذي يحدّثني بقلبه وتكاد أدمعه تثعب من أجفانه، فلا أحسّ بالشمس.. لا أحس إلا برغبة في البكاء..
صرت أسير يوميّاً مع عوض وأحمد وعبد الله... إلى المسجد الأثري، وهو بعيد جدّاً عن منازلنا ولا أدري هل كنت أسير إلى ذلك المسجد لأجل الاستمتاع بقراءة الشيخ " محمد عمر " أم لأجل أنس الطريق، وتفاصيل الذهاب، وأحاديث العودة !
هذه مطويّة مكتوبة بخط طلال/ش، يوصينا فيها بالصلاة أو بخلق ما، نسيت، ولكنّي لم أنس بساطتها، وكيف أنّه لم يستصغر نفسه وكتبها وصوّرها ثم وزّعها لنا صبيحة يوم جميل.. فقرأناها ونحن نرى أنّه أصبح من المشاهير بتلك المطويّة !
وكل يوم لنا حكاية.. وبعد كل صلاة لنا لقاء يطول.. ودائماً تطول لقاءاتنا..
وفي ظلام الشارع الذي يقبع فيه بيت " عوض " كنّا واقفين، فقال لي ما هي أمنيتك يا علي؟ قلت: أن أكون مثل صلاح الدين ! ابتسمَ، أو أنّه ضحك.. فغضبتُ، وقلت له: هل تظن أنّ صلاحاً وهو في الرابعة عشر من عمره كان ممتشقاً سيفه، ممتطياً صهوة فرسه؟ لقد كان مثلي ومثلك.. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لماذا تريد منّي أن أكون تافه الأمنيات.. مادام أنّها أمنية.. فلتكن أمنية كبيرة؟
سكت عوض على مضض.. فقد كان متأكداً من أني لن أكون كصلاح، وقد كان صادقاً في تأكّده، وقد كنت صادقاً في شعوري..
وفي خضم تلك اللقاءات، وتلك الأحاديث العابرة، وتلك الذهابات والإيابات التي كنّا نقطعها مشياً على الأقدام، ومن ظلام حي الخالدية، وعتمة الأزقة القديمة ظهر وجه جديد..
رأيته في سيّارة فورد/توباز.. حمراء اللون، يبدو أنّه أكبر منّا جميعاً، مقرون الحاجبين، أبحّ الصوت، أطلّ إلينا من نافذة سيّارته ورمقنا جميعاً، شيء في عينيه قرأ شيئاً في نفسي.. تجاهلتُ عينيه ونفسي معاً..، توجّه إليه الإخوة ببشاشة وفرح، لقد كانوا يعرفونه جيّداً، أمّا أنا فلا أعرفه أبداً.. سمعته يحادثهم بصوته الهامس الجميل، قررت أن أبتعد قليلاً، شيء من مرضي القديم عاد بشكل جزئي، تحرّكت السيارة مبتعدة، عادوا مبتسمين وقالوا لي: أما عرفته؟ قلت: لا.. قالوا هذا " علي الرميش " أبو عمر..
لم أتخيل أن ذاك المارّ والمسلّم علينا سيكون فيما بعد الشخصيّة الأوضح في ذكرياتي عن تلك الأيام.. الشخصية الأكثر توغّلا في دهاليز نفسي..
لا أذكر الآن كيف تعرّفت على " أبي عمر " وكيف صرت أذهب مع زملائي لزيارته في بيته، وكيف نسّقنا معه ليكون أستاذنا في حلقة تكون بعد صلاة الفجر، وأخرى تكون بعد صلاة العصر، لكل حلقة هدفها وطعمها.. كانت الحلقة الفجرية تتسم بالروحانيات، وكأنّها كانت حلقة خاصة، وأما التي كانت بعد صلاة العصر فكنا نركّز فيها على الحفظ أكثر، وكانت عامّة نوعاً ما.. فقد انضم لها بعض الذين لم يكونوا ضمن مجموعتنا..
بعد أن تعرفت على أبي عمر صرت كل يوم أكتشف شيئا في شخصيتي وفق ملاحظاته، وتوجيهاته، وتشجيعاته.. كان ما يفتأ أن يذكر ميزة لأحدنا، أو يعلق على موقف حدث، أو يذكرنا بالله.. كان كل يوم يضيف مقدارا تربوياً لشيكّل عجائن أرواحنا الفتيّة..
كان شاباً تخرّج للتوّ من جامعة الإمام، قسم الدعوة، وكنا في إجازة ما قبل تعيينه، فكان نشاطه دافقاً دائباً، قرر أن نجتمع اجتماعين كل أسبوع يكون في بيت أحدنا نقرأ فيه بعض الأحاديث، أو نخصصه لموضوع معيّن يحضّره أحدنا، بالطبع كان اللقاء مترعاً بروح الأخوّة، نأتي إليه طوعاً لا كرها، ونرتشف فيه القهوة والشاي ونأكل الحلوى والمعجّنات.. كان لقاء لذيذاً..
ولأثر هذه الشخصية عليّ وعلى أصدقائي.. ولأنّها شبه متكررة لدى الجيل الصحوي.. ربّما بمقادير مختلفة.. سأفرد لشرحها فصلاً قادماً..
بدأنا نتمدد أفقيّا، ونجذب كل يوم أحد أصدقائنا القدامى ليكون ضمن ركب الصحوة..
وأوّل شخصية علت مسرح خيالي هي شخصيّة صديقي الحميم " موفّق " فصرت أزوره، وأشجّعه ليحضر معي إحدى الجلسات، وكان متحفظاً جداً، وكنت حريصاً على اللقاء الأول.. لأني متأكد أنّ اللقاء الأول سيتكفّل بكل شيء.. وبعد محاولات وخطط حضر موفق إحدى اللقاءات، والتي قرأ فيها أبو عمر آيات من سورة " ق ".. وشرحها لنا، يبدو أن تلك الآيات العظيمة أثرت في قلب موفق، فسألني بعد اللقاء عن تلك الآيات: في أي سورة هي؟ فأخبرته.. فحفظها مباشرة، وصار يتلوها دائماً.. تساءلت في نفسي: ما هو الشيء الذي أحسّ به موفق في هذه السورة ولم أشعر به أنا؟ لعلّ قلبه كان أنظف من قلبي.. هذا ما ظننته ذلك الوقت.. وما أتيقنه الآن.. ولكن الشيء الأهم أنّي صرت بعد ذلك أشعر إذا قرأت سورة " ق " أنها عظيمة..
لم أتعب بعد ذلك في محاولة دمجه معنا، لأنه وبكل بساطة بات هو من يبحث عن تلك اللقاءات ويسأل عن مواعيدها.. صار صديق طفولتي شخصيّة صحويّة بامتياز..
كنت بعد صلاة الفجر وبشكل يومي تقريباً آخذه لنفطر سويّا.. وفي أحد الأيام اعتذر مني، فهو يشعر بنوم شديد.. تركته يمشي خطوتين ثم أدرت جسمي ناحيته بهدوء (وقد كان أكبر مني عمراً وأنا أكبر منه جسماً) وأمسكت بجمجمته وخضضتها خضّاً شديداً ظننت ساعتها أنّ مخّه تحوّل إلى مادّة سائلة عديمة الفائدة ! تركت رأسه.. فإذا به يحدثني أنّه لم يعد يشعر بالنوم مطلقاً.. بالطبع ولصغر سنّي لم أسع لتسجيل براءة لذلك الاختراع.. ومباشرة توجهنا لإحدى المطاعم لنمارس طقوس الإفطار..
وكل يوم يُضاف شخص لمجموعتنا، وصارت الخالدية عبارة عن أكوام من الشباب أصحاب الثياب القصيرة، وكانت مساجد الخالدية عبارة عن تجمّعات شبابية لأحاديث عابرة بعد الصلوات..
في تلك الأيام قرر أبو عمر أن ينشئ نظاماً جديداً حتى تستوعب تلك الجلسات الأسبوعية هذه الجموع المتزايدة ففصلنا إلى مجموعتين، مجموعةَ غرب الخالدية وشرقها..
صارت الجلسات أقل جاذبية لأكثرنا، لأنّ بعض أصحاب كل منا سيكون ضمن الجهة الأخرى من الخالدية ! حاولنا أن نثني أبا عمر عن قراره ولكنّه كان مصرّا على رأيه، لأن العدد بات ملفتاً للنظر.. ولا بد من التقسيم !
رضخنا لذلك التقسيم.. وشرعنا في تنفيذه بدون خارطة طريق !
حيّ على الصلاة
بيوت الله.. المساجد.. كانت المكان الأقدس والأطهر والذي جعل لكلمات ونصائح وأحاديث صُحبتي وإخوتي طعماً كلّه حلاوة وطهر..
لا زلت أذكر إحساس قدميّ بزل مساجد ذلك الزمن، وأصوات المراوح، وهمهماتنا الهامسة احتراماً لمكان معمور بالملائكة..
أذكر رائحة (الندّ) الذي يثبّته المؤذنون كبار السن في ثقوب تكون قريبة من المنبر.. وكأني الآن أرى خيط الدخان المنبعث من الندّ.. وأرى في سقف المسجد دوائر دخانيّة عبقة..
ولروحانيّة وأهمية هذه الأماكن الطاهرة في حياتي، بل وفي حياة كل مسلم، فسوف أتحدث قليلاً عن أهم المساجد الذي ضمّت ذكرياتي الأولى في تبوك:
مسجد حنيظل: أوّل مسجد جمعني بهذه المجموعة المباركة مسجد الخالدية الغربي.. والذي كنّا نسميه مسجد " حنيظل " باسم إمام المسجد _ رحمه الله _.. كان إماماً من الطراز القديم، قراءته على مقام الإخبات كما يقال.. رجل تشكّل بالمحراب وتشكل المحراب به.. قديم قدم زوايا المسجد.. لا أذكر أني سمعت صوته في غير تكبير للصلاة أو قراءة..
كان المسجد مليئاً بالمراوح (الجلّاسي) الموزّعة في مقدّمة المسجد غير مراوح السقف، وأتذكر كيف أنّي كنت في الصلاة أرقب التفات المروحة لي لتخفف بهوائها عني شيئا من حرّ القيظ..
كنّا نجتمع في مسجد حنيظل للصلوات، وبعد الصلوات للحديث.. وأهم صلاة نؤديها في مسجد حنيظل هي صلاة الفجر، أما بقية الصلوات فكنّا نفضل أداءها في المساجد الأكثر بُعدا.. وأهم هذه المساجد البعيدة مسجد النور..
مسجد النور: كان ومازال على اسمه، مضيئاً بالذكريات، إمامه في ذلك الزمن الشيخ " يحيى دحباش " حسن الصوت، هادئ السمت، يلقي كلمة توجيهيّة بعد كل صلاة عصر..
كان يصلي علي الرميش في تلك الأيام إماما نائباً لمسجد النور لسفر الشيخ يحيى دحباش..
كان صوت علي الرميش عبر مكبّر الصوت إذا شرع في الفاتحة يملأ شوارع الخالدية شعاعاً خالداً.. ببحّته التي تجعل القراءة وكأنها نزلت للتو من سحابة طاهرة..
ومن ذكريات مسجد النور الجميلة: أنّ الأخ " خالد حمّدي " حضر في إحدى الإجازات وهو طالب هندسة في جامعة الملك سعود، فاقترح علينا أن نلتقي في مسجد النور عقب صلاة الفجر لتلاوة القرآن ومدارسته، كان صوته بقراءة القرآن عذباً، يقلّد الشيخ أحمد العجمي.. وكانت طريقته في الكلام جذابة جداً، وجُل نصائحه لنا كانت حول الصلاة والاهتمام بها وإقامة أركانها وخشوعها.. كان خالد حُمدي شاباً كأنه لا يعرف في الحياة غير الصلاة..
فكنا نجتمع بعد الصلاة لنتلو القرآن، فيصحح لنا تلاوتنا هو والأستاذ علي الرميش.. فإذا ما تسللت خيوط الشمس من نوافذ المسجد قمنا فاستقبل كل منا سارية من سواريه العتيقة وركعنا ركعتي الضحى.. ثم انصرفنا..
من الشخصيات التي تعرّفت عليها في مسجد النور، ثم زادت مع الأيام وضوحاً وبروزاً.. " محمد رجا " هذا الشخص الذي يشعر كل شخص يلتقيه أنّه أهم شخصيّة في حياته.. نحيل الجسم.. مهتماً بهندامه.. كأنّ الله خلقه مبتسماً.. فلا تكاد تغادر البسمة محيّاه.. شديد التواضع..
والذي أظنّه أنّه هو من لقّبني بـــ " مؤذن المسجد الأقصى " ذلك اللقب الذي صرت أمهر به رسائلي.. والذي جعلني أظن ذلك أني لا أذكر أني التقيته إلا ويسألني: كيف حالك يا مؤذن المسجد الأقصى؟
محمد رجا شخصية متميّزة جداً تستحق الإسهاب ليقتدي بها جمهور الشباب..
في إحدى الشقق التي جمعتني به في بعض الأنشطة لاحظت أنّه لا ينام حتى يقرأ في كتاب كبير جداً قريباً من الساعة.. فسألته عن ذلك الكتاب فإذا به صحيح البخاري.. كان مدمن قراءة وتأمل صحيح البخاري..
بعد شهر تقريباً أتاني وأهداني تلك النسخة من صحيح البخاري (وما زلت محتفظاً بها).. فقد اشترى نسخة أكثر ضبطاً منها..
وفي جامعة الإمام كنت في الفصل (الترم) الأول وكان في الفصل الأخير.. فعلم أني قد تأخرتُ في تسلّم غرفة السكن لنقص في أوراقي فمضى معي تحت أشعة الشمس المحرقة، ومازال حتى أدخلني على مكتب عميد الإسكان الدكتور الصالحي حفظه الله، ثم شفع لي شفاعة حسنة، فتقبّلها الدكتور بقبول حسن.. وما خرجت حتى أعطيت ورقة تفيد قبولي ساكناً.. فلما خرجنا وتحت أشعة الشمس.. ما زلت أذكر هذا جيدا، أمسك بيدي وقال هامساً: يا علي.. أرجوك، لا تخبر أحداً بشيء.. يقصد ألا أخبر أحداً بسعيه، ووقوفه معي.. وأظنّ أن عشرين سنة من الكتمان كافية جداً.. أما الآن فسوف أفشي بسرّك يا محمد رجا.. ليتعلم الجيل الجديد شيئا اسمه " عمل السر "..
لن أسهب أكثر من ذلك.. فالحديث عن المساجد لا عن الأشخاص..
مسجد أبو صليع: مسجد موغل في القدم.. أدراج المصاحف من نوعيّة لم أرها في غيره، ذات أبواب خشبيّة تنوء بالسنين..
عُقدت فيه لنا حلقتان إحداهما بعد العصر.. وكانت لنا ولأبناء الحي.. والأخرى كانت بعد الفجر كانت لنا نحن فقط.. وأعني بنحن: الصحويين الجدد..
للمسجد باحة مطلّة على السماء.. إذا صليت فيها صلاة المغرب تشعر أن الملائكة تؤمّن معك.. أما إذا أسفرت السماء بُعيد الفجر وأنت فيها.. فأنت تشعر أنّك تحوّلت إلى ملاك طاهر.. حقيقي..
المسجد الأثري: ويسمونه مسجد الرسول.. وإمامه الشيخ " محمد عمر " حفظه الله وأطال في عمره، كنّا نقصده لصلاة العشاء، كان بعيداً نوعاً ما، فكنا نتحرّك مشيا على الأقدام قبيل أذان العشاء بخمس أو عشر دقائق حتى نصل إليه..
كانت رائحته رائحة الزمن الغابر.. سواريه تكاد تنطق بأسماء أولئك الذين وارتهم المقبرة المجاورة له.. كان المسجد عظيماً.. وكبيراً.. وكانت أحاديثنا ونحن سائرين إليه متنوعة.. وجميلة.. ومضحكة..
هذه المساجد الأربعة أهم المساجد التي احتضنت أيامنا الأولى.. هناك ولا شك مساجد أكثر شهرة في تبوك كمسجد أبي بكر الصديق وإمامه الشيخ محمود عباس المحروقي.. ومسجد الملك عبد العزيز.. ولكن هذه المساجد كانت انطلاقتنا.. وحملت كمّا من الذكريات.. وكمّا أكثر من النور الخاص الذي مازال يقوى ويخبو في ذاكرتي..
أبو عمر
لو قيل لي اذكر أهم خمس شخصيات تربوية في حياتك؟ لكان اسم " علي الرميش.. أبو عمر " ضمن هذه الأسماء ولا شك..
كان لأبي عمر حضور طاغ وملفت، وكنّا نعتبره الشيخ والأخ الأكبر والصديق.. نأخذ منه كل شيء..
كان شخصيّة ذات كاريزما غريبة، حتى الشباب غير الملتزمين في الخالدية يهابونه ويوقرونه، ويتمنّون أن يمنّ عليهم بجلسة خاصة، ويسعدون إن وقف وسلّم عليهم.. وكنّا نشعر بتميّزنا إن كنّا بمعيّته..
كان أستاذاً في فن التربية بالمواقف، زرع في نفوسنا الكثير من القيم والأخلاق بتصرّفات عفوية منه ! كانت المواقف التربوية تتأتّى له بعفويّته، ما لا يمكن أن تحدث لغيره إلا بتخطيط وتفكير.. وسأمد رواق الكلام هنا لأدوّن بذكره كلمات عرفان له وإن كان أقل من أن ترقى لمكانته في نفسي، ثم لتكون عيّنة مصغرة يستفيد منها ممارسو التربية، والأهم من هذا كلّه أنها إحدى تجليات الصحوة التي عشتها.. علي الرميش كان إحدى الصفحات المهمّة في صحوتي.. لا يمكن نزعها، ولا تجاهلها..
في مسجد " أبو صليع " كانت تجمعنا حلقة نقرأ فيها القرآن بعد صلاة الفجر معه، ذلك اليوم لم يكن عاديّا..
اجتمعنا بعد أن مكثنا فرادى نراجع حفظنا، التأمت الحلقة بجلوس أبي عمر في طرفها.. انتظرنا كلمة منه، أو توجيهاً، أو أن يبدأ بالتسميع فإذا به يخرق القاعدة، ويقرأ من حفظه بصوته الشجيّ آيات من سورة الأعراف: " ونادى أصحابُ الجنة أصحابَ النار.. " قطّع قلوبنا في ذلك الصباح.. وبكى وأبكى.. فُجعنا بالقرآن، أحسسنا بأن القرآن يمكنه أن يجعلك تشهق بعنف.. وبعد دقائق من القراءة والتي أتت بدون تنسيق وبلا تخطيط فيما يبدو.. قام أبو عمر مؤذنا لنا بالانصراف.. وانتهت حلقة ذلك اليوم بدون تسميع، وبلا توجيه.. ولا غرابة فقد سكب في قلوبنا أنقى وأرقى موعظة.. سكب كلام الله وانصرف..
ومما أذكره لأبي عمر من المواقف التربوية.. (مواقف وليس كلمات) أننا كنا بعد صلاة العصر نسمّع بين يديه وفجأة نهض وعلامات الجدية في وجهه وقال لي: أريدك يا علي ! خرج من المسجد وخرجتُ خلفه وفي عقلي دوامة من الأسئلة عن ماهية هذا الأمر الذي يريد أن يحدثني عنه، ما هو الشيء الذي أخرجه من الحلقة، لا بد أن يكون كبيراً، هل سمع عنّي شيئا ! هل بدر مني تصرف مسيء.. ولما خرجنا من المسجد وقف قُبالتي وقال لي: يا عليّ.. عليك بالقراءة.. اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ..
نظرت إليه باستغراب وقلت: بس؟ قال: بس.. ثم عاد إلى المسجد وعدت خلفه وأكمل الحلقة..
من الذي أخبره أن هذه الطريقة هي الوحيدة التي ستجعل ذلك الموقف محفوراً في ذاكرتي ربع قرن !
وهم الآن ينقلون لنا نظريات تربوية متطوّرة مفادها أن أي معلومة تريدها أن لا تُنسى قدّمها بطريقة غير معتادة ! من علّم هذا المربّي الفاضل هذه النظريات في الوقت الذي لم يكن هناك دورات تطويرية ولا حتى أظن الكثير من كتب التربية قد ترجم !
هكذا أخرجني من الجوّ الذي كنت فيه ليهمس في أذني بوصيّة ذهبيّة، أثّرت في كثيراً.. كثيراً..
مكث مدّة في المستشفى مرقّداً فكتبتُ له رسالة ختمتها ببيت شعري حفظته من إحدى الأشرطة:
قد سئمناها حياة مرّة ومللناهُ وجوداً كالعدمْ..
زرته اليوم الثاني، فكان أوّل ما ابتدرني به هو أن ذكر ذلك البيت وهو مبتسم ! كأنّه يريد أن يقول لي: إن كل ما تكتبه مهمّ بالنسبة لي.. خرجت من عنده وأنا أكاد أطير فرحاً، كيف لأستاذي وهو الشخصية ذات العلاقات الكبيرة، والتي تغصّ غرفته في المستشفى بالزائرين، كيف له أن يحفظ بيتاً عابراً كتبتُه في آخر رسالة عابرة ! لا بدّ وأني مهم.. لابد وأن لي مكانة عنده..
كان مرهفاً، لا يدع الملاحظات اليسيرة تمرّ مرور الكرام، سمعني مرّة أثني على عطر يضعه.. فاهتبل الفرصة وأهداني قارورة ورد طائفي، ولم أكن وقتها أعلم ما هو الورد الطائفي، فقمت بعد الوجبة لأطيّب الزملاء وكنت كريماً في تطييبي لهم لظنّي أن القارورة لا يتجاوز سعرها العشرين ريالاً.. ولعلّه رأى ذلك الكرم، وأحب أن يعلمني أن الهديّة ليست بذلك الرخص فقال لي وبأسلوب لطيف مقبول: هل تعلم أن هذا العطر بثلاثمئة ريـال ! فغرتُ.. لم أكن أظن أني أستحق شيئا بهذه القيمة..
بعدها صرت أعشق العطور أولا، وأحب الغالي منها ثانياً، وأحب أن أهدي العطور ثالثاً.. وأحب الورد الطائفي أولا وثانيا وثالثا..
أركبني في سيّارته عقب صلاة العشاء ليوصلني إلى بيتي وليهمس لي بكلمة ظل صداها يرن سنيناً قال لي: أين يا عليّ النور الذي كنت أراه في وجهك أول أيام استقامتك؟ سألني هذا السؤال ثم جعل إجابته مكبوتة في نفسي.. جعل إجابته استفسارات تتوالى في فؤادي.. جعلني أوقن أن وجهي مرآة صادقة لما في نفسي.. صرت خائفاً من هذا الرب الذي يستطيع أن يفضح سريرتي في أي لحظة.. أجبته بالصمت.. ولم يلحّ علي أن أجيبه أبداً أبداً.. لأنه كان يريد هذا الصمت..
هذه بعض المواقف التي ما زالت محفورة في ذاكرتي عن هذا المربي، والذي لن أوفيه الشكر بالكلمات، ولكن قصدت أن أعمّق الصورة أكثر ليعلم القارئ شيئا من سحر تلك الأيام، ومن جمالتها وجلالها، وليعلم أيضاً أن أهل فضل وطهر ونزاهة هم من كانوا يشكّلون وعي أبناء الصحوة المباركة.
استريو غازي مرة أخرى
ذكرت أني ذهبت وأنا في السادس الابتدائي لشراء شريط غناء مع ابن عمّي للمطرب محمد عبده.. ذهبت إلى استريو غازي.. الآن سيكون لي قصة جميلة مع هذا الاستريو..
كنا في مدّة من المدد نذهب ليلياً أنا و " موفق " للصلاة في مسجد النور، وفي طريق ذهابنا وعودتنا كنا نمر باستريو غازي، علمتنا الصحوة عبر خطبها وكلماتها وتوجيهاتها بأن الإنسان لا ينبغي أن يقتصر في دخول الجنّة على ذاته، بل لا بد أن يسعى إلى أن يدخل الجميع معه، وعلمتنا أيضا أن الغناء حرام، هاتان القضيّتان جعلتانا أنا وموفق نخطط لمناصحة العامل في ذلك الاستريو.. وبعد تفكير ليس بالطويل اكتملت الخطة واتضحت..
أنا ولأن لديّ مجموعة كبيرة من الأشرطة كان عليّ أن أجمع شريطين أو ثلاثة ومطوية أو كتيّباً كلها إيمانيّة وعظية وأغلّفها بتغليف جميل، ثم أكتب كلمات رقيقة في رسالة ناصحة.. هذا كل ما عليّ، أما موفق فعليه أن يحمل تلك الأشياء ويذهب بها إلى ذلك العامل ويناصحه شفهيّا ثم يسلّمه الهدية..
صرنا نذهب قُبيل أذان العشاء بوقت كاف، حتى نصل إليه قبل أن يغلق المحلّ فيدلف موفق وكنت أنتظره في الخارج لثلاث أو خمس دقائق ثم يعود إلي ويخبرني بما جرى من حديث..
كنا ندعو الله دائماً أن يتمم عملنا وأن يغلق ذلك الاستريو..
لم يدُر في عقولنا أن نفجر أو نحرق ذلك المحل ! فقط كنا ننصح بهذه الطريقة المتواضعة..
كررنا ذلك العمل مرتين أو ثلاث مرات لم أعد أذكر، وبحسب ما ينقله لي موفق فإن وتيرة الرفض لدى عامل المحل اليمني خفتت وصار يقدّر هذا الشخص الذي يكلّمه بأسلوب جميل.. بعد أسابيع استغربنا ! فقد صرنا نمر من استريو غازي فنجده مقفلاً.. ارتفعت فوق رؤوسنا علامات التعجب !! هل من الممكن أن نكون نحن السبب؟
أنا كنت غير متفائل.. كنت شبه متأكد أن العامل ينعم بإجازة ما.. وسيعود للعمل ولفتح الاستريو، لأني لم أكن أظن أن الله سيهدي رجلاً على يديّ، كنت أعتقد أن ما فعلناه أقل بكثير من أن يغيّر، كنت أفعل ذلك لمجرد الإعذار والنصح فقط لا غير..
بعد شهر أو أكثر جاءني موفق متهللاً.. وأخبرني أنّه رأى ذلك العامل يعمل في الشارع العام في محل آخر ليس له علاقة بالغناء.. لم أصدّق، شعرت أن الدنيا لا تتسع لي، هل يعقل أن خططنا قد أثمرت، وأن تلك الأشرطة والكلمات والنصائح لم تذهب هدراً.. أحسست أني أستطيع أن أعمل شيئا بأمور غاية في البساطة والعاديّة..
مختارات