أيام الصحوة...الحلقة (4)
إخوان الصفا.. وخلان الوفا
لن أطيل الكلام بذكر كل ولا أكثر من عرفتهم في تلك الحقبة، ولكن هناك أسماء يستحيل أن أتجاوزها، لأنها ساهمت في تشكيل شخصيتي الصحوية.. بعضهم أساتذة ومشايخ، والبعض الآخر زملاء.. لا بد أن أذكر بعضهم وبعض المواقف التي مازالت تحفظها الذاكرة عنهم.. لأرتق بذلك ثغرات سردية لم أستطع أن أنظمها ضمن تسلسل أحداث هذه الذكريات.. سبق وتحدثت عن علي الرميش وخالد حمدي ومحمد رجا وموفق ونبيل.. والآن سآتي على ذكر بعض من تبقّى من الشخصيات ذات البصمة الواضحة:
عوض: لا أستطيع أن أتجاوز هذا الشخص، فقد كان البعض لكثرة تلازمنا ومماشاتنا بعضنا يظننا أشقاء ! حتى أنّ لون ثوبينا (وهذه محض مصادفة) كان كحليّاً ..
وبما أن ذكرى الثياب قد جاءت، فأذكر أن بعض الزملاء كان يعيّرني بعد أن كبرنا بأنّي لم أكن أملك إلا ثوباً واحداً كحلي اللون ! والحقيقة التي حاولت أن أقنعه بها دون جدوى أنّي كنت أملك ثلاثة ثياب كلّها كحلية!! فيظن الناظر أنّي لا أ ملك إلا واحداً !
عوض كان صديق الصحوة الأقرب إلى روحي، يشهد بذلك طريق الجامع الأثري الذي كنّا نذرعه جيئة وذهاباً لصلاة العشاء.. ويشهد لذلك وقوفنا للتحدّث في شوارع الحيّ بالساعات.. كان حَسَن الخط، فلا يترك (طبلون كهرباء) إلا وكتب أسماءنا عليه !
أذكر وقوفنا عند طبلون الكهرباء الكبير الذي بجوار مسجد حنيظل بمعيّة نبيل.. وكتابته لأسمائنا وبعض ذكرياتنا.. عُدت بعد ذلك بسنوات لذلك الطبلون باحثاً عن خط عوض.. عن عبق الماضي.. عن ذكريات أيام الصفاء.. فحزنت كثيراً لأني لم أجدها !
لن أسترسل في الحديث عن عوض، ليس لندرة المواقف التي مازلت أحفظها.. بل لكثرتها، فمن الصعب أن أكتب كل شيء.. والحقيقة أن عوض قد كان كل شيء.. وإلى الآن مازال من يلقاني يسألني عنه ومن يلقاه _ فيما أحسب_ يسأله عنّي.. ومن اللطيف والغريب أني هاتفته قبل شهر من الآن.. فإذا بنبرته تطلّ علي من خلف سماعة الهاتف مترعة بالذكريات..
عبد الرحمن: أخي عبد الرحمن، يصغرني بأربع سنوات، كان _وما زال_ صديقاً وأنيساً وصاحباً وأخاً.. وهو أقرب إنسان إلى نفسي بعد والدتي، نتشابه حد التطابق في الأحاسيس والأفكار والخيالات.. وكأننا توأم ! وبيننا كمّ هائل من الأسرار والنكت والمواقف..
ذات مرّة سمعت القارئ " محمد أيوب " فقلت: أتخيّل دائما هذا القارئ يلبس عمامة ! فقال لي: وأنا والله أتخيّل نفس التخيّل..
اندمج مع الصحويين فكان يذهب معنا إلى المركز الصيفي ويعود، وقد كان رفيقي إلى المسجد قبل أن أتعرّف على أصدقاء الحي..
كنت لا أكلّف نفسي كثيراً في إيقاظه للصلوات وغيرها، فقد ابتكرت طريقة خبيثة لذلك، أفتح " علبة الخلّ " وأقرّبها من أنفه، وما هي إلا ثوانٍ ويستيقظ.. وفي المقابل كان ينتقم لنفسه فيستخدم " الشطّة " لذات الغرض وبنفس الطريقة.. ولكنّي لا أمهله فأحدد موقعه وأنا أتصنّع النوم ثم أخرج قدمي من تحت البطانية بحركة أتصنّع عفويّتها ثم أوجهها إلى ظهره وأرفسه بأقوى ما عندي..
وقد انتقل معي إلى جدّة وفيفاء، فكنّا متلازمين.. وعلاقتي به _ بحكم كونه شقيقي _ لا يمكن حصرها بالصحوة، فهو شعاري ودثاري وما بيننا لا تختصره الحروف.. لا أخلاني الله منه..
أحمد: وكان يكنّي نفسه بأبي خلاّد.. هو من علّمني فضيلة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، رآني في الجامع أقرأ في المصحف فقال لي: هل قرأت الكهف؟ قلت: لا، ولماذا أقرأها؟ فأخبرني أن ذلك سنّة ! نظرت فإذا غالبية الناس مصاحفهم على سورة الكهف، فقرأتها.. كتب الله أجره..
كان ذا شخصيّة ودودة وغضوبة في آن.. متميّزاً جداً في جراءته وفصاحته، وكنت أكنّ لأبيه السبعينيّ احتراماً ويكنّ لي عطفاً.. رحمه الله حيّا وميّتاً.
الشيخ محسن: معلّم تربية إسلامية، على قدر كبير من الحكمة والعلم، هادئ الصفات، قريب بيته من بيتنا، لا يحب الظهور، ذو سمت مهيب.. كنا إذا زرناه أو اجتمعنا به في المسجد نجد لديه فقهاً عميقاً، وهدوءا في الطرح، ونظرة بعيدة.. وعلى قلّة الاجتماعات التي جمعتنا به إلا أنّ بصمة كلماته كان لها أثر علينا جميعاً..
مديني: معلّم في مدرسة التحفيظ، لا أدري لماذا اكتشفناه فجأة ثم نسيناه فجأة ! بيته قريب من مخبز الخالدية.. كان رجلاً خلوقاً، نزوره بعد المغرب، مكثنا نزوره لمدّة شهر أو اثنين ثم وكأنّه تبخّر ! كان يتحفنا مع القهوة بالحلويات، وخاصّة ما يسمّى بــ " ـالغريبة " والتي لم أعهدها عند غيره من قبل..
دائماً نجد عنده من الأحاديث والقصص والتعليقات ما يجعلنا في ذلك الزمن أكثر فهماً لما يدور حولنا..
إبراهيم الهندي: كان في الثالثة الثانويّة، نحيل الجسم، هادئ الصوت والسمت، طيّب القلب، أكنّ له حبّا خاصّاً، هيئته _ وقد التقيته قبل ثمان سنوات تقريبا _ نفس الهيئة الأولى، لم يشذّب ولم يهذّب.. كنا نذهب إلى بيته أنا وعوض، فالتقيت مرّة عنده بشيخ في الثلاثين من عمره طالب علم أتى من خارج تبوك، وكأنّي التقيت كنزاً ثميناً، فصرت أسأله وأسأله وأسأله..
أهداني إبراهيم هذا كتاب " الفرقان بين الحق والباطل " لابن تيمية، وهو من أصعب كتبه، ولا أدري لماذا أهدانيه، ولم أستطع قراءته إلا بعد أن أهدانيه بقرابة العشر سنوات !
عبد الرحمن الحوّاس: أشبّه التزامه في نظرتي تلك الأيام بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أعزّ الله به مطاوعة الخالدية، فقد كان قويّ البنية، ذا شخصيّة مهيبة يرهبها أهل الفساد، يعلم أسرارهم وخباياهم، وكان يذهب إلى الشارع العام مخبّئا عصاه في كُم ثوبه يأمر وينهى، له نظرة صقر، وصوته كان غاية في الجمال.. يلحّن به ألحاناً عاميّة أقرب إلى الشيلات..
أذكر في ليلة بريّة أنّه تحدّانا وكنّا قرابة العشرين فحاولنا اللحاق به، فما أمسكه منّا أحد !
عبد الله عسيري: شاب دمث الخلق، محبوب من الجميع، وكان بيته مفتوح لنا، نقيم فيه الجلسات الأسبوعية، ونتناول عنده الوجبات، ونقيم فيه الحفل الختامي للحلقة.. الخ
هادئ جداً، متوشّح بالغموض.. كثيراً ما كنّا نلتقي في سطح منزله للعب التنس الذي كان ماهراً فيه..
ثم بعد ذلك امتدت علاقتنا، وصرنا زملاء في المعهد العلمي، ثم في الجامعة.. وما بعد الجامعة..
***
وهناك أسماء كثيرة كانت تعكس ظلالها في أرجاء حياتي تلك الأيام.. لا يتسع المجال لذكرها.. عليهم منّي التحية.. ومن الله السلام والرحمة والمغفرة.. كانت أيامهم أجمل الأيام.. وذكرياتهم أنقى الذكريات..
الاجتماعات الصحوية
دعوني هنا أتحدّث عن اجتماعاتنا وما هي أنواعها:
1_ من أشهر الاجتماعات هي تلك الأحاديث العابرة التي تحدث بعد الصلاة، كنا نقف في آخر المسجد أو خارجه ونتحدّث عن مجريات الأمور، ثم تمتدّ بنا الدقائق لتصل إلى نصف ساعة تقريباً.. فلكثرة هذه الاجتماعات لم أستحسن استثناءها، بل إننا بعد ذلك بسنوات في إسكان جامعة الإمام كنّا نعتبر ذلك ظاهرة سلبيّة، وصار المتميّزون دراسيّا ينقدون من يقف بعد صلاة المغرب أو العشاء للحديث وإزجاء النكت أو الكلام عن مجريات الأمور..
2_ أيضاً هناك اجتماعات شبيهة بهذه ولكنّها تحدث على أرصفة الشوارع، وتحت أضواء أعمدة الإضاءة، وعند عتبات البيوت، وكانت تطول بعض الشيء، وقد ذكرت سابقاً في قصّة انضوائي للشباب المتديّن أن سبب ذلك هو مجموعة من الشباب الذين كانوا يتحدّثون في طرف الحارة التي كنت أسكن فيها.. المقصود أن مثل هذه الاجتماعات لكثرتها ينبغي أن توضع في قائمة أنواع الاجتماعات الشبابية في تلك الأيام..
3_ اجتماعات البيوت وهي نوعان: اجتماع مجدول وهو الذي نكون قد أعلمنا قبله بأن الجلسة الفلانية والتي تحتوي على درس معيّن يلقيه شخص معيّن ستكون في بيت فلان من الناس.. والنوع الآخر: نوع عفوي وهو عبارة عن زيارات متبادلة لتناول القهوة والشاي أو حتى لتناول وجبة ما، ويحدث فيها _ وهذا من المؤكد _ أحاديث متنوعة، وكلام ودّي.. وعادة نكون رسميين نوعاً ما إن كان المزور أحد الكبار، أما إن كانت الزيارات بيننا نحن المتقاربين في الأعمار فيكون اللقاء أشبه باللقاءات الطفولية، وأذكر أننا اجتمعنا أنا وموفّق وأحمد في بيت موفق لنشاهد فيلماً عن الجهاد الأفغاني، ويبدو أننا تحمّسنا مع المشاهدة، فثار بيني وبين أحمد نقاش تافه، فاختلفنا، ثم تصعّدت القضيّة حتى تماسكت الأيدي، وكان جسمي أكبر من عمري بقليل، وجسمه أصغر من عمره بقليل.. فاجتمع القليلان فشكّلا فرقا واضحاً أتاح لي هذا الفرق أن أمسكه وأدور به في المجلس ثم أفتح يدي ليرتطم بالجدار.. ردّ على وجهة نظري بحجج عبارة عن لكمات دامغة.. ومازلنا نتبادل وجهات النظر حتى قررنا أن نغادر بيت موفق ونفترق لأسابيع ! كانت نهاية دراميّة لحوار وطني مثمر !
4_ أيضاً أعتبر السيارة بيئة اجتماع، فقد كنّا بعد الأحيان نجتمع ثلاثة أو أربعة في سيّارة أحدنا ونذرع شوارع تبوك، وليس بالضرورة أن يكون هذا وأنا في المتوسطة، فقد كان أغلبه في المرحلة الثانوية، فكنا نشتري بعض المرطبات أو ننزل إلى بعض المطاعم ثم نعود إلى السيارة و " نفرفر " نستمع في تلك الفرفرة إلى شريط محاضرة أو أناشيد، أو نتحدث _ وهذا الأغلب _ أحاديث متنوعة..
5_ الطلعات البريّة كانت مظهراً من مظاهر تجمّعنا.. وكان توقيتها يوم الأربعاء.. ولا بدّ أن أطيل الكلام عن " طلعات الربوع " هذه.. لعل هذا يأتي لاحقاً..
6_ المراكز الصيفية، كان ملتقى جديداً لنا.. ولا أظن مثل هذا الملتقى تكفيه النبذة المختصرة، لذا سأتحدثّ عنه باستفاضة يسيرة فيما يلي من كلام.
7_ الرحلات التي تأتي خاتمة للمراكز الصيفية، عادة تكون من أربعة أيام إلى أسبوع.. وتكون في منطقة بحريّة أو في الجنوب، أو مكة أو المدينة.. وسآتي في أثناء السرد على ذكر الرحلات التي شاركت فيها وهي:
أ_ رحلة حقل. ب_ رحلة رضوى. ج _ رحلة الطائف. د. رحلة أبها.
8_ التسجيلات الإسلامية.. وسأفصل الحديث عنها لاحقاً.
9_ الإفطار الجماعي.. وسآتي للحديث عنه لاحقاً.
10_ مكتب الدعوة والإرشاد..
لقاءات مكتب الدعوة والإرشاد
وما زالت إجازة " صدام حسين " تطول وتطول، وكلّما قرب موعد الدراسة جاء قرار بتأجيلها، فقرر مسؤولو مكتب الدعوة والإرشاد بمدينة تبوك مأجورين أن ينشئوا نشاطاً دعويّاً ليستغل شباب تبوك أوقاتهم فيما ينفع، فكان النشاط عبارة عن لقاء يومي في مكتبة مكتب الدعوة والإرشاد الكبيرة، يكون اللقاء يوميّا من الساعة التاسعة والنصف تقريباً، يمكث الشباب في المكتبة للقراءة والاطلاع والبحث، وأيضاً لتداول بعض النقاشات العلمية الهادفة ثم ينتقلون من المكتبة قبل الظهر بساعة أو أكثر إلى مجلس كبير في نفس مقر مكتب الدعوة فيلقي عليهم أحد طلاب العلم درساً تربويّاً ثم نتداول النقاش والأسئلة حول موضوع درسه، ومع أذان الظهر يكون الانصراف..
من النقاشات التي أذكر أنها دارت في مكتبة مكتب الدعوة أننا كنّا متحلّقين حول طاولة وكل منّا ممسك كتاباً يقرأ فيه، فجلس معنا الشيخ عبد الله عفيف _ رحمه الله _ وسألنا عمّا يجري من أحداث (احتلال الكويت...) وهل نظنّ أن لها علاقة بعلامات الساعة وبملاحم آخر الزمان؟ فأبدينا إجابة تقول بإمكانيّة ذلك إمكانيّة كبيرة، والحق أن ذلك ما كان يُتهامس به في المجالس ويقول به البعض.. فابتسم ابتسامته الجميلة والتي يعرفها كل شباب تبوك القدامى وأخذ يؤصل القضيّة ويخبرنا أنّه من الخطأ والخطر تنزيل أحاديث الفتن والملاحم على ما يجري دون الرجوع إلى أهل العلم، لأن في عدم حدوث بعض التفاصيل المنصوص عليها في الأحاديث فتنة للبعض، فالسلامة عدم ممارسة هذا التنزيل إلا من قبل عالم بالشرع والواقع، ثم أخذ يعطينا بعض الفروقات بين ما يجري وبين أحاديث الفتن المقاربة في تفاصيلها لسياق ما يجري من أحداث..
هذا أحد الحوارات الجميلة التي استفدنا منها في لقاءات مكتب الدعوة والإرشاد..
وأذكر أنّ الشيخ متعب الزهراني _ حفظه الله _ ألقى لنا درساً يتحدّث فيه عن غزوة أحد، وفصّل وأسهب، وذكر الحوادث المؤثرة، ثم عقّب بالحِكَم الباهرة.. وأتذكر أن أحد المداخلات جاءت من أحد طلاب العلم يقول فيها أن ما حدث في غزوة أحد ليس بهزيمة، فطلب الشيخ متعب من " أحمد رفّاع " وهو من أميز طلاب العلم في تبوك ذلك الحين أن يتلو علينا بعض الآيات من سورة آل عمران التي أثبت بها أن القرآن يذكر أنها كانت مصيبة وأنّها من عند أنفس الصحابة وأنّه حدث فيها قتل، مما يستفاد منه أنّها هزيمة، إضافة لشجّ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكسار ثنيّته إلى غير ذلك من الدلائل على كون غزوة أحد هزيمة عسكرية، وإن كان في طيّها انتصارات تربويّة ودروس إيمانيّة عميقة، فلا داعي للخجل من ذكر ذلك..
في مثل هذه الأجواء كانت الآراء تتلاقح، ويتم الاستماع للآخر، وإبداء وجهات النظر بكل حريّة وأريحية، ولا تبقى إلا الحجّة والدليل.. بهذا كانوا يربوننا، وبهذا كنّا ننمو وننضج..
لقاءات مكتب الدعوة والإرشاد في تلك الأيام كانت يوميّة واستمرّت قرابة الشهر، فكانت بمثابة إخراج لنا من قمقم الخالدية، اكتشفنا بتلك اللقاءات أن هناك آخرين مثلنا في الأعمار ومثلنا في المبادئ يقطنون في العزيزية والسلطانة والمهرجان وغير ذلك من أحياء تبوك، سعدنا بهم كثيراً، وعقدت صداقات مع بعضهم كانت متينة إلى حد ما..
ذات إحدى أيام مكتب الدعوة سمعت " أحمد رفّاع " وبصوته الفصيح الذي كان يحرص فيه على تحريك آخر الكلمات ! يخبرنا أن علينا جميعاً _ وكنشاط إضافي لذلك البرنامج _ حفظ سورة الأنفال، وعلينا تجزيئها إلى أقسام ليسهل علينا حفظها.. الذي استغربته أن أحد شباب الخالدية قلّد بطريقة ساخرة متذمرة صوت أحمد رفاع.. استبشعت تلك الطريقة، وتساءلت: كيف يمكن لملتزم أن يتذمّر من شخص يدعوه لحفظ شيء من كتاب الله.. مرّت الأيام فسقط ذلك المتذمّر في هوّة ما كنّا نسميه بالانتكاسة !
من أجمل شخصيات مكتب الدعوة والإرشاد والتي جذبتني جدّاً مع أني لم أتحدث معه ! شاب حديث التخرّج من الثانوية اسمه " محمد عفيف " وقد كان فيما يبدو تلك الأيام الصديق الحميم لأحمد رفّاع.. كان مظهره أكثر من رائع في عيني، ثوبه شديد القصر، وكان شعره يضرب إلى منكبيه، وكان صوته فيه غنّة أحببتها.. وكان صغير الجسم.. نحيلاً.. أكاد أقول نحيلاً جداً.. كان بهيّاً، وضيئاً، شعرت أن الإيمان يقطر منه..
أخبرونا بعد أسابيع أن هناك رحلة وداعيّة لذلك العمل، وهي عبارة عن لقاء سيتم في إحدى مزارع تبوك، من الفجر إلى المغرب.. شعرت برهبة شديدة، فلم يسبق لي أن خرجت في مثل هذه الرحلات..
في اليوم المعلوم خرجنا.. وكان أول عمل عملناه هو أن تحلّقنا في مجموعات متجاورة نقرأ شيئا من القرآن.. مكثنا ساعة أو أقل على ذلك الوضع، ثم انتهى وقت الحلقة، وجاء وقت الإفطار، وبعد ذلك كان هناك وقت حرّ لمدّة نصف ساعة تقريباً حدثت فيه بعض المصارعات التي كنت فيها مشاهداً لا مشاركاً لصغر سنّي.. الذي أبهرني وزادني إعجاباً بمحمد عفيف هو أنّ أحد عتاولة الشباب ضخم الجثّة فارع الطول تقدّم ينادي بالمصارعة، فخرج له محمد عفيف فضحكنا لتفاوت المقاسات، ولتباين الصفات، ولكنّه امتشقه وثبّته بيديه وكأنّه يمسكه بكلاليب لا بأيادي، ثم عصره وهصره ثم رفعه ووضعه.. فارتجّت المزرعة ورجفت !! ضحكنا كثيراً لنهاية ذلك المصارع.. وتعجبنا أكثر لقوّة ذلك النحيل !
اجتمعنا بعد تلك المدّة الحُـرّة واستمعنا لدرس عن العلمانية.. وأستغرب الآن كيف لشاب حديث العهد بالتخرّج من الجامعة أن يتحدث بتفصيل دقيق عن العلمانية ذلك الوقت ! قبل ربع قرن تقريباً ! في زمن لم تكن فيه محركات بحث ولا سهولة مراجع.. الخ
تناقشنا.. لعبنا.. صلينا.. تغدينا..
مما أذكره أننا صلينا صلاة الغائب لا أدري على من ! وأن أحد الإخوة وكان طالباً في الثانوية أو في بداية المرحلة الجامعية قال لإمامنا وقد كان خريّجاً جامعياً أن من السنّة أن تكون الصلاة في ثلاثة صفوف.. فقال إمامنا: من عَلِمَ حجّة على من لم يعلم.. وبغض النظر عن صوابيّة هذا الرأي أو خطئه: فقد أعطانا إمامنا درساً في الرضوخ لقول صاحب الحجّة مهما كان..
أذكر أن أحدهم قال لي على الغداء، هل تعرف قصّة يوسف عليه السلام؟ فسعدت بهذا السؤال وأجبت بالإيجاب، فطلب منّي سردها.. فشرعت في قصّ القصّة، ولم أدرك إلا بعد دقائق أن مقصوده هو صرفي عن الأكل.. وبعد ذلك علمت أن مثل هذا السؤال كان مِزحة منتشرة بين الشباب..
مضى ذلك اليوم الرائع وبقي بصمة مميزة في ذاكرتي.. كأوّل " طلعة " أو رحلة شبابيّة في حياتي.. ستتبعها عشرات بل مئات الطلعات..
من الأسماء التي تعرّفت عليها في تلك التجربة الثريّة: متعب الزهراني، عبد الله عفيف، محمد عفيف، أحمد رفاع، يوسف عزّو، شوقي، بركات، وغيرهم كثير..
قبل أن أنهي الحديث عن هذه التجربة التي انتهت تقريباً بعد تلك الرحلة.. سأتحدّث عن وجه غريب، رأيته ذات يوم وأنا خارج من أسوار مكتب الدعوة وأذان الظهر يصدح من مآذن تبوك.. كان وجهاً مضيئاً بالفعل، يكاد الناظر إليه يرى النور بجلاء.. وكان شخصاً طويلا، بل فارع الطول، وسيماً ذا لحية هادئة، وابتسامة غريبة، ونظراته تتسلل إلى أعماق الماريّن بقربه.. سلّم عليه من كان معي وسلمت عليه..
ركبنا سيارتنا التي جئنا بها، قلت وقد ظننته الشيخ محمود عباس المحروقي إمام مسجد أبي بكر.. من هذا الشخص؟ فقال لي أحد من كان معنا في السيارة: إنّه صالح ضاري ! سألته: ولماذا لا يشاركنا جلساتنا في مكتب الدعوة والإرشاد؟ فقال صاحبي: لقد عاد للتوّ من أفغانستان !
تحرّكت سيّارتنا وأنا أشعر انّها باتت مليئة بعبق ذلك الإنسان..
صالح ضاري
بعد أسابيع وفي جلسة عابرة في بيت علي الرميش سعدت كثيراً عندما كان أحد الحضور هو تلك الشخصية النافذة جداً، والهادئة جداً، والمبتسمة دائماً " صالح ضاري "..
شاب في الثانية أو الثالثة والعشرين من عُمره، دائم السفر إلى أفغانستان للجهاد ضد الروس، من أسرة ثريّة بالنظر إلى مقاييس ذلك الزمن، يسكن في حي المنشيّة وهو في الجهة الشرقيّة من حي الخالديّة..
كان أي شيء يقوله صالح في تلك الجلسة بالنسبة لي مهم، مع أنّه عفوي الكلمات، لا يحرص على الفصحى، بل لا يتحدّث الفصحى، كان ثوبه ناصع البياض وشماغه متقن الكيّ، كان مطوّعاً شديد الأناقة..
حدث التعارف في بيت علي الرميش، وبعد ذلك تتالت الجلسات التي جمعتني به، سواء كانت جلسات تحتوي على قراءة قرآن، أو جلسات ذكر، أو حتى جلسات عابرة نتحدث فيها بعفوية..
في صوته ضخامة وشهامة أهل الجوف، وفي كلامه رونق وحرارة شباب الجهاد، وفي طباعه لطف ومرح شباب تبوك.. كان ساخن الإيمان _ أحسبه _ كأن قلبه بركان من الغيرة والحرقة على الإسلام والمسلمين..
ذات يوم ركبنا معه في سيّارته الهايلوكس الجديدة، وكنّا في طريق قديم عن يسارنا حي المنتزه وعن يميننا حارة الشيخ.. فطلب منّا أن ننشد، الجميع وجم، كانت أصواتنا لا تؤهلنا للإنشاد، ولكنّه أصرّ، فزعمت المجموعة التي كانت معنا أني حسن الصوت ! فعزم عليّ إلا أن أنشد فأنشدت بصوت أعلم أنّه عاديّ جدّاً..
مؤامرة تدور على الشبابِ
ليعرض عن معانقة الحرابِ
مؤامرة مراميها عظام
تدبّرها شياطين الخرابِ...الخ
النشيد لمن لا يعلم ضمن شريط الدمام 1 بصوت الشيخ سعد الغامدي.. وكلمات الشيخ سلمان العودة كما أعلم.. والغريب أن هذه المؤامرة مازالت تحاك وتدبّر وتنفّذ والله المستعان !
كان النشيد بالنسبة صالح ضاري جميلاً كما عبّر لي، كنت أظن أن صوتي أعجبه، والآن تبيّن لي أن الكلمات لامست همّه الأول والأخير: الجهاد في سبيل الله..
من غرائب هذا الشاب أني لا أذكر أبداً تذمرا منه أو تسخّطاً أو تجهّماً أبداً أبداً.. كان المبتسم في أحلك الظروف.. وكنت أرى وأنا راكب معه بعض ما يكدّر الخاطر من مطبّ مفاجئ، أو صبية عابثين، أو مارّ يجبره على تهدئة السرعة.. فكان يقابل كل تلك الأمور بابتسامة.. فكنت أتعجّب لهذا الخلق العظيم..
ذات يوم صليت معه في مسجد حي المنشية صلاة المغرب أنا وبعض الشباب، ففرح كثيراً وسألنا عن صاحبنا " خالد زهيان " فقلنا له إنّه مريض، فانطلق مشياً، ونحن معه نكاد نركض لفارق الطول بيننا، وذهب وطرق الباب على صاحبنا وسلّم عليه ودعا له، ثم صلينا العشاء في إحدى المساجد وأرجعنا إلى بيتونا مشياً وعاد هو إلى بيته..
في آخر أيامه في السعودية ركبت معه، وسمعت قارئاً يصدح بآيات الله من جهاز مسجّل سيّارته، فطلبته الشريط، فأعطاني إيّاه إعارة، وشدّد على كونه إعارة..
مرّت الأيام ثم جاءني خبر ذهابه إلى أفغانستان قبل أن أعيد له الشريط، فكان ذلك الشريط حسرة في قلبي.. فما كان منّي إلا أن اهتبلت فرصة سفر أحدهم إلى أفغانستان فسطّرت رسالة بُحتُ فيها له بمشاعري، ثم ذكرت له قصة الشريط وأنّي متأثم جدّاً من عدم إعادتي له.. بعد أشهر جاءتني رسالة منه، كانت غاية في الرقّة والجمال.. همس في أذني فيها بهمس طلب مني ألا أخبر به أحداً !.. ثم أخبرني أنّه لن يسامحني على ذلك الشريط أبداً.. إلا بشرط، وهو أن أدعو له بالشهادة في سبيل الله..
رفعت يدي ودعوت له بالشهادة لأتخلّص من إثم ذلك الشريط..
بعد أشهر كنت على موعد مع خبر محرق ! خبر فجعني.. لقد استشهد حبيبي صالح ضاري " حيدرة ".. لقد مات.. لقد فارقني إلى الأبد..
شعرت بنكهة الموت تحيط بي.. صارت ابتسامته كالسور يحيط بأحاسيسي كلّها.. صرت أسمع صوته في دهاليز حياتي..
مات صالح !
هكذا بسرعة؟
هل أنا السبب في موته؟
حزنت كثيرا.. وبكيت على فراقه.. وخشيت تلك الأيام أن دعوتي له هي السبب في فراقي له !
رأيته بعد ذلك في أحد أفلام الفيديو القادمة من أفغانستان شهيداً بإذن الله.. وهو رافع سبّابته، مبتسم (كعادته في الحياة) ، جسده غض طري مع أنّه مكث أسبوعا على سفح جبل مكشوف لا يستطيع الإخوة هناك أن يأخذوه هو ورفاقه.. وبعد أسبوع ذهبوا إليهم فوجدوهم كما هم بين صرعى الروس وقد اسودّت أجساد هؤلاء الجيف.. أما صالح فقد أُخبرت أنّ رائحة المسك كانت تنبعث من جسده الطاهر.. رحمه الله، وأسكنه فسيح جنّاته..
الأحلام والمُنى.. بين الأسماء والكُنى
سألني نبيل: ما هي كُنيتك؟
فقلت له: وما هي الكُنية؟
فقال: الكنية هي أن تسبق اسمك بـــ " أبو ": أبو معاذ، أبو البراء، أبو عمر...الخ
قلت له: ولكن ليس عندي لا معاذ ولا البراء ولا عمر ! فقال: ولو، فهذا أمر مستحب، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُكنّي.. وهذا علي الرميش كُنيته أبو عمر وليس لديه ابن.. وأخذ يسرد الحجج على ضرورة الكنية..
قلت له أمهلني..
فقال لي: على أي حال المتعارف عليه أن أي شخص اسمه عليّ تكون كُنيته أبا حسين، كما أن صاحب اسم إبراهيم تكون كُنيته أبا خليل.. فأنت أبو حسين إلى أن تحدد لك كُنية تراها..
فصار بعدها هو وعلي الرميش وبعض الإخوان يكنونني بأبي حُسين..
كانت هذه الكُنية سبب مسارعتي في تكنيتي لنفسي، لأنّي لم أكن أفضّل هذا الاسم ! ففكرت مليّاً ثم أعلنت للجميع أنّي: أبا القاسم ! فهي أفضل كنية لأفضل رجل في التاريخ ! أليست كنية نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
عندما أعلنت عن هذه الكُنية كنّا في بيت " مفلح ".. في حي " أم درمان " وقبل أن ننصرف أمسكني عند باب الشارع " خالد حُمّدي " وأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التكنّي بكنيته فقال: " تسّموا باسمي، ولا تكنّوا بكُنيتي " فيجب عليّ تغيير الكُنية ! (لاحظ السريّة في النصحية، وعدم إرادة التشبّع بالعلم أمام الأقران).
كان من المتعارف عليه أن تكون الكُنية باسم صحابي جليل ما أمكن ذلك، وإلا فتكون باسم من الأسماء القديمة، ولعلّ هذا الاتفاق الضمني لعقد صلة روحانيّة بين الجيل الحديث وأولئك الرجال..
حاولت أن أحصر كُنى الشباب حتى لا آتي بكُنية مكررة، فلابد أن تكون الكُنية إضافة تميّزك عن غيرك..
سألت عن طلحة؟ فقيل أحمد رفّاع أبو طلحة..
سألت عن الزبير؟ فقيل: عبد الرحمن الشهري أبو الزبير..
وما زلت أسأل ويسدّون الطريق في وجهي إلى أن سألت عن: ذرّ !
_ هل هناك من كُنيته أبو ذرّ؟
فجاء الجواب بالنفي..
فكنيت نفسي بأبي ذرّ.. لم أر الترحاب بهذه الكُنية من بعض الزملاء..
صبرت أياماً على هذه الكُنية التي لم تكن لامعة كما يجب.. فاسم ذرّ وإن ناسب العصور القديمة إلا أنّه سيكون غريباً في زمننا.. خاصّة بين الأهل والأقارب.. لأن الكُنية كانت تنتشر طوعاً أو كرهاً.. ولن يعلم كل من حولك بأن هناك صحابياً جليلاً يكنى بأبي ذرّ..
كانت هناك كُنية رابعة نسيتها الآن..
ثم تركتها وقررت أن أكون بلا كُنية..
وفي إحدى الليالي بُعيد صلاة المغرب كنت واقفاً عند بيت أحمد (أبي خلاّد) ولا أدري لماذا أصرّ عليّ أن أتكنّى هو وخالد زهيّان.. فقلت لهما كنياني: فكانت كُنيتي تلك الليلة: " أبو مصعب "..
شعرت بجمال الاسم، وبفرادته..
صرت وبكل اعتزاز أعرّف لنفسي بــ: علي جابر الفيفي/ أبو مصعب..
صارت الكتب في مكتبتي ممهورة بهذه الكُنية.. ورسائلي أختمها بأبي مصعب.. استمرّت هذه الكنية معي بقيّة المتوسطة والثانوية وثلاث سنوات جامعيّة.. ثم جاءتني " بشرى " فصرت أبا بشرى..
هذه القصة الطريفة تبيّن كيف أن الكُنية كانت لدى جيلنا ضرورة ! وبأنّها غدت شقيقة الاسم، لا يذكر الاسم بدونها ! كنّا صغاراً ننادي بعضنا بأبي عبد الرحمن وأبي عبد الله وأبي عبيدة..
ولعلّها مزيج من محاولة اختفاء لمجاهدين ودعاة في مناطق ساخنة، ومحاولة استخفاء لدى بعض محبّي التزهّد وخمول الذِكر من المؤلّفين والكتّاب، ومحاولة خفاء في تسريب محبّة القدوات القديمة إلى قلوب الناشئة من بعض التربويين..
التقيت في الجامعة شاباً يكنّى بأبي بصير، فمكثت سنين عدداً تتجاوز الخمس حتماً، لا أعلم أن اسمه عبد الرحمن !
كنا في جلسات التعارف في المراكز الصيفية أو في بداية الفصول الدراسية في الجامعة نذكر قبل أو بعد ذكر الاسم الكُنية، ولا نحبّذ أن ننادى بغيرها..
نبشت الصحوة الأسماء العتيقة ثم نفخت فيها الحياة، وجعلتها تعود لتسير في أزقّة الأحياء القديمة، وتطلّ من أروقة المباني العتيقة، ومن أغرب الكُنى التي سمعتها في ذلك الزمن " محذورة " وقد تكنّى بهذا الاسم أحد الأصدقاء، ومازال عندي كتاب مهدى منه وموقّع بأبي محذورة !
وقد كان من شبه المتعارف عليه _ وإن كنّا ننقده _ أن هذه الكنى تختفي مع أوّل مولود يأتي لأحدنا، فأبو عبد الرحمن يصير أبا يزن، وأبو عبد الله يغدو أبا فيصل، وحتى أبو مصعب بات أبا باسل.. وهكذا.. ومع ذلك فهناك من صمد وسمّى ابنه بمعاذ أو البراء أو صهيب..
الكُنى ثقافة صحويّة بامتياز، واجهها بعض أهالي الصحويين بشيء من السخرية، ولكنّا كنا نرفع رؤوسنا بها، ونشمخ بأنوفنا، ونتيه على أقراننا.. كانت كنى في الظاهر، ومحاولة تمثّل واقتداء بشخصيات عظيمة في الباطن.. ننجح في ذلك التمثّل ونفشل.. بنسب متفاوتة.
مختارات