أيام الصحوة...الحلقة (2)
حرب الخليج الثانية
أعلن في وسائل الإعلام نبأ احتلال صدّام حسين للكويت، كان ذلك عام 1411ه، في بداية العام الدراسي، وكنت في السنة الثانية في متوسطة الأبناء الثالثة في تبوك بالمدينة العسكرية وأسكن في حي الخالدية..
عرفنا ونحن صغاراً _جرّاء هذه الاحتلال _ أشياء أكبر من أعمارنا وعقولنا مثل:
مصطلح الغازات السامة، تلك التي كان يهدد بها صدام حسين، فتنخلع لها قلوبنا جميعاً، وقد نشأ عن ذلك كثرة التثقيف بخطورتها، ثم نُشرت صور ضحايا " حلبجة " من الأكراد والذين انتفخت أجسادهم جرّاء تعرّضهم لتلك الغازات، فصار بيتنا (وبيوت الجميع تقريباً) ملطّخا بالسمنت والجبس من كل مكان، لسد الثغرات التي من المحتمل أن تتسلل الغازات من خلالها ! وترى المناشف المبللة معترضة تحت الأبواب لتمنع تلك الغازات التي سيستهدف بها صدام حي الخالدية في تبوك، وكأنّه الحي اللاتيني في باريس أو وادي السيلكون بأمريكا ! لم نكن نعي أن صدام لو أرسل صاروخاً فلن يرسله لحي منسي من أحياء الفقراء وشبه الفقراء، وإنما سيرسله لأماكن أكثر حيوية ! ما علينا..
وجلبت الأزمة مصطلح " صفارات الإنذار "، ولا أدري لماذا اختاروا صوتاً مخيفاً لتلك الصفارات يجعل السامع له يتمثّل الموت، وما زلت أذكر الشوارع كيف تغدو خالية خاوية وقت إطلاق تلك الصفارة المرعبة..حتى وإن كان الوقت قبيل المغرب، وهو الوقت الذي تنتثر فيه الكميات البشرية في الشوارع والحواري وعلى الأرصفة..
ومما ولّدته أجواء الحرب التي عشناها ! تكديس مستودعات البيوت بالأغذية، ففي كل بيت مستودع أو ركن أو غرفة مُلئت بأكياس الطحين والرز وكراتين العصير والحليب والكيك والبسكويت...الخ وما إن نسمع صفارات الإنذار حتى نُهرع لعلب العصير ومغلفات البسكويت ونباشر التهامها ! فلم تنته الأزمة حتى بتنا أكثر خوفاً ووزناً في آن واحد !
عرفنا الكُرهَ أيضاً ! لقد كرهت في طفولتي صدام حسين كرهاً جاوز حدود الكره العادي، علمتني تلك الأزمة كيف يمكن للإنسان أن يستغني عن إنسانيته لأجل مطامع كاذبة.. وكرهت ثقافة التخويف والتهويل التي مارسها الإعلام ضدّنا، كرهت نظرات سليمان العيسى _رحمه الله_ تلك التي أشعرتني أن صواريخ صدّام صارت قاب قوسين أو أدنى من رؤوسنا !
***
وصية شهيد
في وقت اختبارات الفصل الدراسي الأول عدت مع زميلي " مفرّح " إلى بيته ما بين فترتي الاختبار، وأفطرنا سويّا فطورا من صُنع والدته جزاها الله خيرا، ثم وضع شريطاً على مسجّله، ففاجأني ذلك الشريط.. كان أكبر من مستوى ذائقتي بكثير، لم أكن أظن أنّ الحنجرة البشرية والذوق الفني يمكنه أن يصنع مثل ذلك الشريط (لست بحاجة إلى أن أذكركم أني أتحدث عن مشاعر طفل في الثالثة عشر من عمره).. كان شريط " وصيّة شهيد " للمنشدين: محمد المساعد، وعبد الرحمن الغامدي.. انصدمت من لحن الأنشودة الأولى:
اكتب على صدري الجريح لكل جيل قادم
تاريخ شعب لن يذل لغاصب أو غاشم
واروِ (الحقيقة) للصغار عند العدوّ المجرم
وعن الذين تآمروا وبخسّة باعوا دمي
عن هؤلاء وهؤلاء فكلّهم لا ينتمي..
تسللت تلك الكلمات إلى أعماقي.. طلبت مباشرة من مفرّح أن يعيرني ذلك الشريط.. تمنّع قليلاً.. ثم رضخ لطلبي.. كان ذلك آخر يوم في الاختبارات، ابتدأت إجازة منتصف العام والتي استمرّت لأشهر بسبب ظروف الحرب على الكويت، مما جعلني أستمع وأعيد وأكرر وأحفظ وأترنّم بكلمات ذلك الشريط المليء بالمعاني السامية السامقة جداً، والتي تجاوزت بكثير ما كان ينبغي عليّ سماعه بالنسبة لعمري وثقافتي وخبرتي المحدودة..
مكثت طوال الإجازة " إجازة صدام " أستمع وأُسمع هذا الشريط إخواني وجيراني وأولاد الجماعة ! كنت أعتقد أنه اختراع يجب على الجميع الوقوف على جوانب الإبهار فيه..
أتذكر: وصية شهيد، يا ابن الكتائب، بناة المعالي، أبناء العروبة، حسرة في خاطري... كلمات لو ألقيت بها في وادٍ لأزهر، ولو صببتها على صخرٍ لأثمر !
وإلى الآن إذا رجعت عن طريق اليوتيوب إلى شيء من تلك الأناشيد فإنّ أجواء حرب الخليج تقصّ نفسها من عام 1411 لتلصق نكهتها وإحساسها في عام 1435..
الأستاذ محمد مساعد كان أيقونة الإنشاد المحافظ في السعودية، وكان مجدّداً في الإنشاد من نواحٍ عدّة، منها على سبيل المثال:
لم يسبق _ حسب علمي _ أن وضع منشد اسمه الصريح على غلاف شريطه قبله.
استغنى عن المرددين والذين كانوا يصنعون ضوضاء بعدم تآلف أصواتهم واستعاض عنهم بتقنية تكثير الصوت الحاسوبية.
جدّد في الألحان، وأنشودته الشهيرة " في حمى الحق " مثال واضح على ذلك، فأتى بمقامات جديدة لم يعهدها النشيد من قبل، ولعلّ مقام " الصبا " كان أشهرها..
والأهم في كلامي عن الأستاذ محمد المساعد صاحب الصوت المميز جداً أنّه كان يتعب _ فيما يبدو_ في انتقاء كلماته، ولعلّه كان الحنجرة الذهبية لأشعار الدكتور عبد الرحمن العشماوي، فكانت كلمات أناشيده تتسلل إلى قلوبنا، فنحفظها بعقولنا، فتتشرّبها أوردتنا معاني ومبادئ رفيعة جداً..
ولعلي ولغرض ضم النظير إلى نظيره وإن كان آن الحديث عنه لم يأت بعد، أتحدّث عن شريطه الظاهرة والذي نزل إلى الأسواق بعد عامين تقريباً من نزول " وصيّة شهيد ".. أعني شريط " رسائل "، والذي ملأ الدنيا و شغل الناس ذلك الحين، وكم كنت عند زيارتي للتسجيلات الإسلامية أسمع روّادها يهمسون به على استحياء لأنّه كان شريطاً خارجاً عن النظام العام للنشيد الإسلامي، وقد كان صوت المساعد يُعتبر فتنة، ويُتحدث عنه كشيء لا ينبغي نشره لما له من تأثير على قلوب القوارير..
سأتجاوز شكليات هذا الشريط من ألحان وإتقان، إلى كلمات كانت تصنعنا ونحن لا ندري، كان أبناء الصحوة يتشرّبونها وكانت هي تتوغّل في لاوعيهم:
في حمى الحق ومن حول الحرم
أمّة تؤذى وشعب يهتضم
فزع القدس وضجّت مكة
وبكت طيبة من فرط الألم..
وأنشودة:
لك الله يا دعوة الخالدين..
لقد أوشك البغي أن يهدما
نثرنا دمانا الزكية نوراً
يضيء الظلام ويجلو الهدى..
ولا بد أن يعلم القارئ أن محمد المساعد كان المفضّل لدى جميع الصحويين، لا يستطيع صحوي أن ينكر ذلك ما دام أنّه يستمع للنشيد، لأن هناك فئة ضئيلة كانت لا تفضّل السماع للنشيد، سواء لرأي ديني أم ذوقي..
المقصود أنّه كان الصوت الأشهر لدى شريحة الشباب، ولم يكن هناك منافس له، وأول منافس خرج واستولى على جماهير المساعد هو المنشد " أبو عبد الملك " .. أما قبله فما كان أحد يقدّم على المساعد أحداً، لأنه وباختصار لم يكن هناك من يجمع ثلاثي النشيد مثله: الصوت، والأداء، والكلمات..
يجب علينا نحن الصحويين أن نبعث الشكر لهذه القامة التي صنعتنا، وإن غلبتنا الآن أنفسنا المتكبرة والتي تأنف عن أن تقول إن النشيد صنعها، كان هناك صوت دائماً ما يخرج يؤنّبنا على سماعنا للنشيد، ولو علم ذلك الصوت أن كثيراً من المبادئ لم تفهمها قلوبنا كما فهمتها عن طريق الأناشيد..
هناك كمية دول، وقضايا، وجراح لم نعلم بها قبل سعد الغامدي ومحمد المساعد وخالد الخلف وعمر الضحيان وأبو عبد الملك وغيرهم..
هناك مشاعر لم تكن لتتحرّك في قلوبنا لولا:
أخوّة الدين يا قومي تنادينا..
بها نحقق يا قومي أمانينا..
في ظلها الرحب نسمو.. في تطلعنا
لكي ننال بها عزا وتمكينا..
وغيرها من الكلمات التي صدحت بها حناجر مخلصة فيما أحسب.. فجزاهم الله خيراً..
ولأهميّة النشيد في واقع الصحوة فسوف أفرد له تفصيلا من ناحية أخرى فيما أستقبل من مقالات أو فصول..
أخي موفّق
منّ الله بصاحب أو أخ جميل القلب، ودمث الخلق، مشغول الوقت ببر أمّه وأبيه، كنّت أقضي معه وقتاً طويلاً في دكّان أبيه، نبيع الملابس والأحذية، ونقطّع الوقت بالمقالب والأحاديث الضاحكة حدّ الدموع..
كنت أردم بالجلوس مع " موفق " فراغات الوحدة في ذاتي، وصنعت منه عدّة أصحاب، فهو صديق المدرسة، وصديق الدكان، وصديق العزائم، وصديق الذهاب والعودة من السوق، وصديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !
نعم ! فقد كنّا نذهب إلى السوق ثم ما إن نرى حلاّقاً يحلق لحية زبون حتى نصرخ بجوار صالونه بأنّ: " حلق اللحية حرام ".. لم نكن قد انخرطنا في سلك الصحوة إن صحّ التعبير، ولكنّنا سمعنا عبر الأشرطة ما يسمح لنا بأن نقول مثل هذه المقولات المقتضبة التي تشي باهتمام ديني..
وموفق زميل دراسة أيضا، جمعتنا ابتدائية زيد بن حارثة، كنت في الخامس وهو في السادس الابتدائي، وكنا نتصاحب في الصباح ذهابا وفي الظهيرة إياباً، ونتوقف (لا بد أن نتوقف) عند دكان " غنايم " لشراء أي شيء.. المهم هو أن نشتري شيئا.. وكل شيء في الدنيا جميل بعد اليوم الدراسي ! خاصة إن كان في ابتدائية زيد بن حارثة تلك الابتدائية المكفهرّة جداً..
واستطراداً أذكر قصة كانت مبكية وباتت الآن مضحكة: دار بيني وبين أحد الطلاب ملاسنة في الفسحة، فاتفقنا أن ننهي التفاصيل اليدوية لتلك الملاسنة في وقت " الصرفة "..
جاءت الصرفة.. فإذا بغريمي واقف ينتظرني وحقيبته فوق رأسه.. شعرت برماديّة الموقف، أحسست أن خيانة ما ستطل برأسها..
تسايرنا إلى أن شارفنا على الوصول إلى " البَرَحة " التي تنعقد فيها الشجارات عادة، فإذا بجيش عرمرم من أصدقائه في " حارة الشيخ " قد تجمّعوا لأجلي ! قال أحدهم: بس هذا؟
كانت " بس هذا " آخر شيء أسمعه..
يبدو أن الحسّ التطوعي كان مرتفعاً لديهم، فهذا يلكم، وذاك يرفس، والثالث يثبّت ! ولدي اعتقاد أنه لا أحد منهم لديه مبرر لما يفعله ! وبعد أقل من دقيقة من محاولة التماسك من قِبَلي.. إذ بي أغيب عن الوعي.. ولا أفيق إلا وقد ابتلعهم جميعاً الأفق.. صرت أبكي.. جاء طالب وحملني (حملني حقيقة) وأوصلني إلى وكيل المدرسة، هزّ رأسه الوكيل وسأل ذلك الطالب عن الجناة.. علمت بعد ذلك أن اليوم التالي كان يوم العقاب بالنسبة لهم.. علمت ذلك بعد سنة كاملة..
جاء موفّق في تلك اللحظة، يبدو أن الخبر وصل إليه فعاد هرولة إلى المدرسة، حمل عني الحقيبة، رجوته بعد أن مسحت دموعي أن يكتم الخبر، لا أريد أن ينتشر خبر جُبني ! ظننت أن ما حدث جُبن بالنسبة لي، وهو في الحقيقة على العكس، فالجبن هو اجتماع عشرين لضرب واحد.. ما علينا..
وصلت البيت فإذا بأمي تسألني عمّا حدث !! يبدو أن موفق لم يصبر فأدلى لأمة بكل ما حدث ! والتي بدورها هاتفت أمي وشرحت لها كل شيء..
الدرس الذي تعلّمته من موفق هو شدة البرّ، ولم أر في حياتي كلها طفلا في السادسة الابتدائية وما قبلها وما بعدها يحرص حرصاً غريباً على تتبع رغبات أبيه وأمّه مثل هذا الإنسان.. كنت أراه صاحباً، فإذا بحقيقته تحوّله إلى أستاذ في البرّ.. فرقتنا الحياة، ولكن قلوبنا كما أنا واثق جدا مازالت واقفة عند دكان غنايم..
هذه مقدمة مختصرة لعلاقتي بموفق، وسآتي بعد ذلك لأتحدّث عن موفق الصحوي.. الذي غرس في قلبي أشياء جميلة.. من أهمّهما حبّ سورة " ق "..
خير جليس
كنت شغوفاً ككثير من أبناء جيلي بقراءة القصص، وأذكر ذلك العشق الذي جرى بيني وبين سلسلة " ليدي بيرد " ذات الغلاف المقوّى والذي في أعلاه رسمة خنفساء حمراء اللون.. كنت أقرأ وأعيد تلك القصص ذات الرسومات الجميلة.. والحبكة المثيرة بالنسبة لطفل في الرابعة الابتدائية.. لا أنسى أبداً الهر أبو الجزمة، جعيدان، بيضاء الثلج وحمراء الورد، رابنزل، الكعكة الهاربة، الأميرة وحبّة الفول...الخ
كان أي مبلغ من المال أحصل عليه مهما صغر إنما يعني عددا جديدا من تلك السلسلة يضاف إلى مكتبتي..
ماذا قلت؟ مكتبتي؟ الحقيقة أنها لم تكن مكتبة وإنما مجموعة كتب رصصتها في المستودع وكان النظر إليها وتأملها وهي مرصوصة من هواياتي وأعمال اليوم والليلة بالنسبة لي !
كنت في الرابعة الابتدائية عندما عاد أخي " يحيى " من إحدى إجازاته من باكستان ومعه كتاب اسمه " قصص النبيين " لأبي الحسن الندوي.. فعشت مع ذلك الكتاب ليالٍ من أجمل الليالي.. وهو من أجمل ما أُلّف في قصص الأنبياء للأطفال، لغة سهلة بسيطة يفهمها الطفل بسهولة.. وكم أتمنى أن يطبع ذلك الكتاب مجدداً إن لم يكن موجوداً بالفعل، ثم يوزّع كهدايا لطلاب الابتدائيات..
عندما نقلنا إلى بيتنا في الخالدية صار لي علاقة غريبة بإحداهن ! تعرفت عليها مصادفة، فأحببتها حبا شديداً.. حبا يشي بأن هناك علاقة عميقة ستحدث بيننا.. تسببت بها وحدتي، وتوطّدت مع الأيام..
تلك الفاتنة اسمها " مكتبة الفلاح " والتي كانت تقبع في وسط حي الخالدية، أذكر جيداً لوحة المكتبة الخضراء، وصوت صاحب المكتبة رحمه الله، بل وصفيره المميز بحرف الصاد، وأذكر شنب العامل السوداني وملامحه الغاضبة دائماً ! وأذكر أيضاً روائح الكتب، والغبار الذي يعلو بعضها..
صرت ما إن أحصل على خمسة ريالات فأكثر حتى أغذّ المسير إلى فاتنتي وأذهب وأقلب الكتب وأنظر في العناوين وأتأمل أسماء المؤلفين ثم أخرج بكتاب أو اثنين، بحسب ميزانيّتي.. ثم أعود للبيت وأنا أتخايل كنزاً في يدي.. ثم أمضي الليالي قارئاً نهماً، بل وحافظاً لكثير مما أقرأه.. لأن عقلي كان خاوياً تقريباً، فلا تمر عليه معلومة عادة إلا وتُنقش عليه..
وما زلت أذكر مجموعة " مسابقات وثقافات " لأسامة بنجر وهو سلسلة من ثلاثة أجزاء كبيرة قرأتها وحفظتها، حتى الفواصل التي تفصل ما بين مجموعة أسئلة وأخرى وهي عبارة عن محطات تسلية تحتوي على قصص وأبيات شعر وحكم كنت أحفظها ! وسيغدو هذا الكتاب نكتة أندم على ذكرها بعد سنتين.. سأذكرها فيما بعد..
ولا أدري أكان حبي للقراءة لأجل القراءة أم لأجل الهروب من الوحدة التي كانت تحاصرني.. فقد كنت _ وسبق أن أشرت _ انطوائياً، بلا أصدقاء.. أتمنى أن يكون معي أصدقاء ولكني لا أستطيع أن أحصل عليهم !
فبنت الانطوائيّة حولي سوراً ليس له باب، باطنه فيه الوحدة وظاهره من قبله الاكتئاب.. فكنت أختلس النظر من شقفة الباب الموارب لأرى أبناء الحي يلعبون، وأنا لا أستطيع أن أكسر ما بيني وبينهم من حرج التعارف، وأتحرّق في داخلي لليوم الذي ألعب فيه معهم، ولكنّي كنت جداراً صلباً لا أستطيع أن أفعل شيئا تجاه هذا الخلق الذميم..
جعلتني الوحدة أختلي لوحدي في غرفة أخي " عيسى " الساعات ذات العدد يوميا.. وذات يوم كنت على موعد مع كنز عظيم ! وجدته تحت أكداس العفش المكوّم في إحدى زوايا الغرفة ! وهو عبارة عن حقيبة كبيرة، بل ضخمة، نقشت عليها السنوات حروفاً من غبار الإهمال.. فسحبتها، وفتحتها فإذا بشيء ثمين جعلني أنسى الوحدة التي أنا فيها لأشهر، وجعلني أقضي معه أجمل الأوقات في تلك الغرفة..
إنها مجموعة كتب قديمة كانت تزيّن أرفف مجلسنا القديم، أتى بها أبي رحمه الله وها قد مرّ عليها قرابة الثمان سنوات مهجورة ومكدّسة في حقيبة منسية، لم أصدّق ما رأيت ! فقد كنت أتمنى أن أحصل على أي شيء يكسر وحدتي ويغيّر رتابة حياتي المملة.. والذي أذكره من الكتب التي احتوتها تلك الحقيبة:
اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي
جواهر البخاري لمحمد عمارة
نور اليقين من سيرة خير المرسلين للخضري
الفتاوى الكبرى لابن تيمية.. وغيرها من الكتب التي لا تناسب عمري.. ولكني بدأت ألتهمها وأقرأ الساعات المتواصلة دون أن أعي الكثير مما أقرأه.. أتذكر كيف أني كنت لا أفرّط حتى في تعليقات المحقق فأقرأها.. وأبيات الشعر المتناثرة فأحفظها..
أصبح من روتيني اليومي أن أغلق على نفسي في تلك الغرفة ثم أسحب الحقيبة وأفتحها ثم أمكث الساعات لأقرأ.. وكأني من أنشأ البيت الشهير:
أنا من بدّل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
ومع الكتاب والشريط ابتدأت تتكوّن شخصيّة ذلك الفتى الصغير، والذي أجبرته الوحدة أن يصادق كائنات أخرى، مسموعة ومقروءة، صرت أتخيل أوجه أولئك الذين أسمعهم، وأعيش مع أولئك الذين أقرأ لهم، بقيت على ذلك سنة ونصف، أقضي في اليوم الساعات ما بين سماع وقراءة عشوائية، مصدر السماع ما كان يحضره أخي من أشرطة لوالدتي، ومصدر القراءة ذلك الكنز الذي وجدته في تلك الحقيبة، وما كنت أشتريه من مكتبة الفلاح..
كنت أرى في المسجد وفي اختلاساتي الحييّة في ممرات حيّنا شباباً أضاء القرآن أوجههم، قصّروا من ثيابهم، تعلوهم الابتسامة، يتحدّثون بأحاديث هامسة، كانت أمنيتي أن أسمعها، كانوا ينظرون إلى اللاهين في شوارع الحياة بعطف.. كنت أمرّ بهم عند قدومي من المسجد وذهابي إليه وشيء في داخلي يخبرني أنّهم يهتفون لي أن أقبل إلينا..
كان جدار الانطوائية في نفسي عالياً جداً.. فلم أسطع أن أظهره، وكان متيناً جداً فلم أستطع له نقباً..
كانت والدتي رعاها الله تقرأ في عينيّ الحسرة، تقرأ إرادة الفتى أن ينطلق في الحياة، وأن يكوّن له أصدقاء، وتقرأ أيضاً خيبة أمل كبيرة.. وحسرة على عدم القدرة على ذلك..
لم أكن أدري، ولكنّي دريت فيما بعد أنّها صارت تدعو لي أن يرزقني الله صحبة صالحة.. أخبرتني بعد ذلك.. أخبرتني عندما رأت ماء الحياة يتدفق في وجهي، عندما علمت أنّي لست شخصا مريضاً، ولست مكروهاً، بل أنا شخص عادي جداً أستطيع أن أصادق الناس، وأن أنشئ علاقات جيدة، وأن أتحدث بطلاقة، وأن أضحك بصخب.. وأن أعبر عن آرائي بجرأة..
ولكن كيف حدثت تلك النقلة؟
نبيل والخطة أ
في إجازة آخر السنة بعد نجاحي من السادس الابتدائي وقع بيني وبين صديق الطفولة وجاري الذي يسكن في الدور الأعلى من نفس العمارة التي نقطنها " نبيل " مشكلة جعلتني أقرر عدم الكلام معه أو النظر إليه أو حتى السير في الجهة التي يكون جالساً فيها سنة ونصف !
مشكلة طفولية تافهة، فقد تحدّثت عن أحدهم أنه سيئ، فما كان منه إلا أن نقل كلامي إلى ذلك الأحدهم، فجاء إليّ هو وصاحب له يريد أن يؤدبني على كلامي، وكتب الله أن خرج أخي " موسى " في الوقت المناسب، مما جعلهم يقررون عدم تأديبي ! أما نبيل فقد شعرت ببغض له إذا كيف ينقل كلامي له.. ويشي بي.. ويعرضني لعراك كان سيحصل لولا إرادة الله !
سنة ونصف كان عقاباً يستحقه نبيل في نظري تلك الأيام، ولكن الحقيقة هي أن المعاقَب لم يكن هو وإنما أنا ! فقد مضت أيامه عاديّة جداً، وعلاقته مع الآخرين كانت ممتازة.. إذن فخسارتي بقطع العلاقة كانت أعظم من خسارته..
في يوم من الأيام قرر نبيل، أو قررت تلك المجموعة من شباب الحارة " مطاوعة الحي " أن يضيفون ذلك الشاب الصغير (الذي هو أنا!) إلى مجموعتهم، وأن يتحوّل من مصلّ يؤدي الصلاة وينصرف لبيته إلى عنصر صحوي جديد..
فقد كان من معهود حياة " الملتزمين " محاولة هداية الآخرين، ونصحهم لينضمّوا إلى مسيرتهم، مسيرة الفجر والطهر والاهتمام بواقع المسلمين والمحافظة على السنة بل وعلى تفاصيل السنة من ثوب قصيرة ومسواك ولحية..الخ
كانوا يبحثون عن البعيدين عن الله وعن المسجد فيناصحونهم بطرق وأساليب متنوعة سآتي على ذكر شيء منها.. فلك أن تتخيل كيف سيكونون مع شاب صغير في السن قد قطع ثلاثة أرباع المسافة، فهو محافظ على الصلوات في المسجد، ومقصر لثوبه، ولا يمارس المخالفات التي لا يسلم منها غالبية شباب تلك الأيام من دخان أو رفقة سوء.. إذن فقد كنت صيداً ثميناً لهم، وسهلاً في آن.. لذلك فقد أوعزوا إلى صديقي القديم " نبيل " أن يأتي بي، ولم أكن _ بطبيعة انطوائيتي _ صيداً سهلاً !
لذلك فقد قرر نبيل أن يسلك مسلكاً غريباً، لأنه لم يكن أمام شخص لا يعرفه فيكون عليه أن يسلم ويبتسم ثم يشرع في فكرة الاحتواء.. بل كنت شخصاً يعرفه، ولكن فجوة سنة ونصف جعلت ذلك المسلك ضروريا عنده:
المسلك الغريب الذي سلكه نبيل في سبيل احتوائي.. هو أنّه صار ينتظر خروجي من البيت للذهاب للصلاة ثم يمشي خلفي بمسافة ثلاثة أمتار تقريباً، حتى أدخل المسجد وبعد الصلاة أيضاً يسير خلفي بنفس الطريقة إلى أن أدخل البيت..
أسبوع كامل وهو يؤدّي ذلك الدور الغريب.. والذي صرت أتمنى أن ينتهي وأن أعلم ما هي نهايته..
بعد أسبوع، وعندما قاربت الوصول إلى باب بيتنا إذ بخطواته تسرع _ لا كالمعتاد _، دقات قلبي تسارع، وسؤال يلحّ: ماذا سيفعل نبيل؟ حاذاني، توقفت عن المسير والتفتّ إليه.. سلّم عليّ وصافحني بحماس وكأنّه اكتشف وجودي فجأة !! قلت في نفسي: أخيرا !
أشعرتني ابتسامته وسلامه وحماسه في الحديث معي أننا تعشينا البارح مع بعضنا في مطعم " صابرين "، وأن المسالة لم تكن سنة ونصف من القطيعة المقصودة، والتطنيش المقنن، والشطب والإزالة المخطط لها..
طبعاً بادلته حماساً بحماس، وابتسامة بخمس، وسعادة بفرح غامر، وتكسّرت كل العقد في لحظة، ونسيت ذلك الأسبوع الذي كان يطاردني فيه، بل لم أفاتحه عنه بعدها أبداً..
قبل أن أغادره وقبل أن يغادرني تحدّثنا عن مالئ الدنيا وشاغل الناس " الشريط الإسلامي " أخبرني أنّ لديه مجموعة طيّبة من الأشرطة، دخل بيته وفعلت أنا ذلك بحماس، خرجنا بعد دقائق وتبادلنا الأشرطة، كانت أشرطته من ذلك النوع الذي كان أشرطة طرب قديما ثم تحوّل إلى أشرطة إسلاميّة ! ها هي آثار مزعل فرحان ممسوحة وعليها كتب بخط رديء " أحمد القطان " وهنا " عبادي الجوهر " مكشوط ومكتوب فوقه " أناشيد البحرين 1 " وهكذا.. عدت إلى بيتي بفرحتين: فرحة أني استطعت أن أكسب صديقاً.. وفرحة أني استطعت أن أكسب شريطاً !!
انكسر الحاجز الأول، عادت مياه العلاقة بيني وبين نبيل إلى مجاريها.. وبقي على نبيل مشروع هدم الحاجز الثاني، وهو محاولة دمجي مع أصحابه المطاوعة، أو الملتزمين، أو الصحويين..
مختارات