اجتناب القتل
اجتناب القتل
لا زلنا نعيش مع عباد الرحمن ؛ مع هذه الطائفة الراضية المرضية الذين ذكرهم الله لنا في كتابه نموذجا يحتذى ويقتدى به ووقفنا في أوصافهم عند قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)الفرقان:68
فهم لا يدعون إلا الله وحده وبهذا حافظوا على الهدف الأول من رسالات الله إلى خلقه، وهو العقيدة، ولكن الشرائع الإلهية لم تأت لحفظ الدين والعقيدة فحسب، إنما جاءت لحفظ الدماء والأنفس وحفظ الإعراض والحرمات والأنساب والعقول والأموال.
فمن هنا قرن الله هذه الصفة بصفة أخرى فقال: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)
والقرآن قرن القتل بالشرك لبشاعة هذه الجريمة وفظاعتها، الشرك اعتداء على الدين، والقتل اعتداء على الحياة، والحياة وديعة أودعها الله تعالى لصاحبها، فكيف يجنى القاتل على حياة غيره، وهذه الحرمة متعلقة بكل مسلم، وكذلك من عاهد المسلمين بعقد ذمة أو هدنة أو أمان، بل كل من سالم المسلمين فلا يجوز قتله كما قال تعالى (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله عليكم سبيلا)النساء 90
ولقد بلغ من تحريم الإسلام هذه الجريمة النكراء: أن الله تعالى جعل قتل النفس الواحدة تعدل جريمة قتل الناس جميعا، وذلك لأن حق الحياة ثابت لكل نفس فقتل واحدة من هذه النفوس يعتبر تعديا على الحياة البشرية كلها، كما قال عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة/32
ومن اجترأ على قتل مسلم فقد عصى الله ورسوله، وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، مما يجر عليه الوبال والوعيد الشديد، قال عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء/93
وحينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، كان القتل فاشيا في أهل الجاهلية، يزهقون الأرواح عدوانا وظلما، وتثور بينهم الحروب الطاحنة التي يروح ضحيتها الكثير من النفوس البريئة عند أتفه الأسباب، فعمل صلى الله عليه وسلم على القضاء على ذلك، وأكد ما جاء في كتاب الله من النهي عن القتل و العدوان على النفس المعصومة، منددا صلى الله عليه وسلم غاية التنديد بمن يرتكب ذلك، مبينا ما توعد الله به مَن أقدَمَ على إزهاق روح معصوم الدم بغير حق من شديد العقاب وسوء الحال والمآل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتلرجل مسلم) رواه النسائي
فإذا علمنا أن قتل المؤمن أعظم من زوال الدنيا علمنا خطورة وفظاعة القتل العمد بما لا يمكن للغة البشر أن تصفه وقد جمعه من أوتي جوامع الكلم في هذا اللفظ الوجيز.
ولحرمة هذه الدماء عند الله جل وعلا وأنها ليست رخيصة يسفكها من شاء في أي وقت شاء بل هي عظيمة عند الله جل وعلا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار) رواه الترمذي عن أبي هريرة
ولقد بلغ من تحذيره صلى الله عليه وسلم عن قتل النفس، أن الإعانة على ذلك ولو بأدنى إعانة مشاركة للقاتل في الجريمة تستوجب لصاحبها المقت والطرد من رحمة الله ورضوانه، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» رواه ابن ماجة بسند ضعيف
ولذا فإن أول ما يُقضى فيه يوم القيامة هو الدماءكما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أولُ ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء) رواه البخاري
ولا منافاة بين هذا وبين قوله (أول ما يحاسب به العبدُ الصلاة) رواه أبو داود
فهذا حق بينه وبين الله والدماء حق العباد.
وقد ورد عند النسائي وأبي داود من حديث ابن مسعود بلفظ (أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس الدماء) صححه الألباني
(وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)
(إلا بالحق) إذن متى يجوز قتل النفس بحق؟
حدد النبي صلى الله عليه وسلم حالات ثلاث فقال: (لا يحلُ دمُ امرئ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث النفسُ بالنفسُ، والثيب الزاني، التارك لدينه المفارقُ للجماعة) رواه البخاري ومسلم
فأما الحالة الأولى: فهي القصاص العادل من القاتل فوقوع القصاص عليه يضمن الحياة للمجتمع كله.
كما قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
البقرة 179
نعم.. حياةٌ بردع هؤلاء الذين يفكرون مجرد تفكير في الاعتداء على الناس.
وحياةٌ بكفَّ أهل المقتول عن الثأر قد لا يقف عند القاتل بل يتعداه إلى أهله ممن لا ذنب لهم ولا جريرة.
وحياة يأمن فيها كل فرد على نفسه لأنه يعلم يقيناً أن هناك قصاصاً عادلاً ينتظر كل من يتعدى حدود الله.
أما الحالة الثانية: التي يجوز فيها القتلُ وبالرجم فهي للثيب الزاني الذي رزقه اللهُ الحلال الطيب فراح يرتعُ في مستنقع الرذيلة العفن.
والحالة الثالثة: التي يجوز فيها القتلُ تكون لمن ترك دينه وخرج على الجماعة وانضم إلى جماعة أخرى مخالفة يعطيها ولاؤه، ويعادي جماعته الأصلية،فهذا أشبه بما يسمى في عصرنا (خيانة الأمة والوطن) ولا يعاقب بذلك من ارتد في نفسه ولم يجاهر بردته فهذا حسابه على الله.
ولا بد أن يستتاب المرتد ويناقش وتزال عنه الشبهة التي دفعته للردة وذلك من خلال العلماء.
هذه هي الحالات الثلاث التي تبيح قتل المسلم على يد ولي الأمر أو من
ينوب عنه.
أما فيما عدا هذه الحالات فإنه لا يجوز أبداً قتل النفس
حكم من قتل نفسه فمات منتحراً:
ولم ينتف هذا الوعيد الرهيب في حق من قتل نفسه منتحراً والعياذ بالله بل هو خالد في النار لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من تردى من جبل (أي ألقى بنفسه) فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساهُ في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) رواه البخاري
يتوجأ: من الوجأ وهو الطعن بالسكين ونحوه
حكم إجهاض الجنين المشوه:
الحكم الشرعي للجنين المشوه يتلخص في أمرين:
الأول: علاج هذه التشوهات فإذا أمكن علاج الجنين وهو في بطن أمه - إذا تحقق الأطباء من وجود هذه التشوهات - فإن هذا هو الواجب.
الثاني: الإجهاض: وهل يصار إليه أو لا يصار إليه إذا لم يتمكن الأطباء من علاج هذه التشوهات؟
حكمه:
هذه التشوهات يقسمها الفقهاء في الوقت الحاضر إلى نوعين:لنوع الأول: التشوهات التي تصل قبل نفخ الروح.
يعني: يكتشف أن هذا الجنين قد حصلت له عيوب خلقية قبل نفخ الروح.
فهذا أكثر المعاصرين يجوزون إجهاض الجنين في هذه المرحلة لقاعدة: ارتكاب أخف الضررين، فالإجهاض ضرر وخروجه معيباً عيباً خلقياً ضرر عليه وعلى والديه.
النوع الثاني: اكتشاف العيوب والتشوهات الخلقية بعد نفخ الروح.
فهذا لا يجوز إجهاضه؛ لما ورد من الأدلة على حرمة قتل النفس لأنه بعد نفخ الروح أصبح نفساً معصومة لا يجوز الإقدام على قتلها وانتهاك حرمتها.
لكن أكثر المعاصرين من العلماء يجوّزون إجهاض الجنين بعد نفخ الروح إذا كان في بقائه ضرر محقق على أمه، وعلى هذا إذا كان الجنين مشوها خلقيا ومريضا ومرضه سيؤدي إلى تضرر الأم - هلاك محقق- فيجوز الإجهاض.
أما إذا كان الضرر ظنيا فلا يجوز الإجهاض حينئذ لأنه قتل للنفس التي حرم الله إلا بالحق.
* تنبيه:
نلاحظ أن بعض الأطباء يفترضون الأسوأ لإبراء ذمتهم من أي تبعات قانونية وقد رأيت ذلك في العديد من الحالات قالوا بموتها أو بتشوهها وهؤلاء الأطفال أحياء يرزقون إلى الآن وولدوا أصحاء معافين، فعلى الزوجين استشارة أكثر من طبيب ومراجعة أكثر من مستشفى في هذا الأمر،ولله الأمر من قبل ومن بعد.
حكم القتل الخطأ:
وقد بينه الله جل وعلا في سورة النساء بقوله:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } النساء:92
فالحالة الأولى: أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام.
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة وديةٌ تسلمُ إلى أهل القتيل فأما تحرير الرقبة المؤمنة فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس بعتق نفس مؤمنة أخرى
وأما الدية فتسكين لثائرة نفوس أهل القتيل وشراء لخواطرهم بعد ما فجعوا في قتيلهم وتعويض لهم عن بعض ما فقدوه إلا أن يتصدَّقوا ويتنازلوا عن هذا الحق تسامحاً وتعاطفاً.
الحالة الثانية: أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب.
وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت لكن لا يجوز دفع الدية لقوم القتيل المحاربين حتى لا يستعينوا بها على قتال المسلمين، إذا لا مكان ولا مجال هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم محاربون وأعداء للإسلام والمسلمين.
أما الحالة الثالثة: فهي أن يقع القتل على مؤمن أو على غير مؤمن قومه معاهدون أي لهم عهد هدنة أو عهد ذمة.
وفي هذه الحالة يجب أن تدفع الدية إلى أهله المعاهدين ولو لم يكن القتيل مؤمناً لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين ويجب أيضاً على القاتل أن يعتق رقبة مؤمنة، وفي عصرنا الحاضر لا يوجد عبيد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
هذه هي أحكام القتل الخطأ.
وأخيراً: هل للقاتل المتعمد توبة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة فَرَحَلْتُ فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال هذه الآية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً....... } هي آخر ما ترك وما نسخها شيء.
وذهب أهل السنة وما عليه المحققون من علماء السلف أن القاتل المتعمد إن تاب تاب الله عليه لأن الأخذ بظاهر آية النساء ومن يقتل مؤمنا متعمداً ليس بأولى من الأخذ بظاهر قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ }الشورى: 25
ثم إن الجمع بين آية النساء وآية الفرقان ممكن فلا نسخ ولا تعارض وذلك بحمل الحكم المطلق في آية النساء على الحكم المقيد في آية الفرقان لا سيما وقد اتفقا في الحكم والسبب فيكون معناه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } النساء:93
{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } الفرقان: 70
وأما الأحاديث التي تذكر هذا أيضاً فهي كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفَىَّ منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) رواه البخاري
وكذلك حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدٌل على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق، أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً، مقبلا إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا مابين الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة) رواه البخاري
فالخلاصة أن من قتل مؤمناً متعمداً فتاب تاب الله عليه أما إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على ما هو عليه من شؤم المعصية{فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } النساء:93
مختارات