أتخيّل!
أحاول تخيّل ماذا كان يدور في خاطر ذلك الكهل القديم. يسكن -قبل قرن على الأقل- في أطراف قرية نائية، لديه بقرة، وثلاث نخلات، وربما بعض المزروعات الأخرى، بجواره مسجد صغير، يصلي فيه بانتظام، كساعة سويسرية. يحلّ الظلام بمجرد دخول الليل. ليس لديه هاتف يستقبل اتصالات الثرثارين، بل لايعرف الكهرباء، ولا يملك
حساباً في مصرف يملكه لصوص، ولا بطاقة هوية مصطنعة لبلد فاشل، ولا يتابع أخبار التاسعة عبر قناة مرتزقة، ولا عناوين الصحف الصفراء. لا يعلم أي شيء عن قتلى نيكارجوا، ولا مظاهرات تشيلي، ولا قلق بانكي مون، ولا تزايد عدد اللاجئين، ولا يشاهد وثائقي يناقش مخاطرالاحتباس الحراري. لا يتابع أثرياء الانستقرام، ولا سوّاح سناب شات، ولا محللي اقتصاد النفط المتدهور في تويتر. لم يعرف الوظيفة، ولا يعنيه المستقبل كثيراً. لم تشوش ذهنه الأفكار عن خرافات التقدم/التخلف، ولم يعرف عن العوالم الجديدة، من العالم الأول، حتى الأخير، شيئاً يذكر. لم يدرك بعد أن الأيديولوجياالإعلامية الحديثة ستصرّ على جعله يكره ذاته، وتراثه، ومعتقداته. حمته الأقدار من أن يرى جسداً أنثوياً متبذلاً، من غير ما يحل له. لم يعش ليرى كيف يكون العري تجارة، والخيانة مجرد بزنس، والتعذيب هواية، والقتل تسلية، والحروب المدمرة تدار من بيوت سوداء وراء المحيطات. لم ير قط جسداً مقتولاً مشوهاً، ولا أشلاء ممزقة، ولا أياً من هذه المشاهد المعتادة. ولا أي شيء يصنف كمسبب رئيسي لأمراض القلب والنفس، ومسمم أولي للروح. همه الأساسي دائرته الاجتماعية الضيقة، زوجته، أولاده، أبناء عمه، وبضعة أصدقاء، وجيران. والسلامة الصحية لبقرته الحلوب، واللقاح الجيد لتلك النخلات، والمسجد أولاً. اعتاد أن يقاوم حقائق الحياة والفقر ليظل رجلاً. الترف والاتصال المفرط بالعالم جلب لنا البؤس.
مختارات