شرح دعاء "رب اشرح لي صدري* ويسر لي أمري* واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي"
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي[([1]).
هذه الدعوة المذكورة في كتاب ربنا جلّ جلاله لنبي اللَّه موسى عليه السلام سألها اللَّه تعالى، لأمر عظيم وكبير، حين أمره اللَّه تعالى، بدعوة أعْتَى أهل الأرض كفراً، وطغياناً، وأكثر جنوداً وعتاداً، ادّعى الألوهية كذباً وزوراً؛ ولذلك جاءت قصص موسى عليه السلام في كتاب اللَّه كثيرة ومتنوعة.
و لما كان هذا الأمر الخطب في غاية الأهمية والخطورة سأل اللَّه تعالى التوفيق إلى بعض المطالب والمقاصد التي تكون له عوناً لدعوته؛ فإن الدعاء هو سلاح المؤمن الذي يستنصر به، فبه تستجلب الخيرات، وتدفع به الشرور، والعبد يسأل ربه محسناً الظن به، فإن الداعي يُعطَى طلبه على قدر ظنه بربه الكريم، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك و تعالى: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)([2]).
فبدأ بقوله: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾: أي وسِّعْه بالنور، والإيمان، والحكمة، حتى أتحمّل الأذى بكل أنواعه القولي والفعلي؛ فإن انشراح الصدر يحوّل مشقّة التكليف إلى راحة، ونعيم، ويسر([3]).
و قوله: ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾: أي سهِّل عليَّ كل أمر أسلكه، وكل طريق أقصده في سبيلك، وهوّن عليَّ ما أمامي من الشدائد.
قال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه: (ومن تيسير الأمر أن ييسّر للداعي أن يأتي جميع الأمور من أبوابها، ويخاطب كل أحد بما يناسب له، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله)([4]).
فلمّا كانت أهم وسائل الدعوة إلى اللَّه قدرة الداعي على البيان، والإفهام بالقول قال: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾: ففي هذا طلب التوفيق إلى حسن الكلام في الدعوة إلى اللَّه في خطاب الناس، والتأثير على عقولهم، وعواطفهم بالحكمة بالقول، وإلى الرفق بالفعل.
وسؤاله عليه السلام لربه أن يزول عنه (اللثغ) (وذلك حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه حين كان صغيراً في بيت آسية زوجة فرعون، ولم يسأل عليه السلام أن يزول من لسانه بالكلية، بل بحيث يزول العي، ويحصل له فهم ما يُراد منه، وهو قدر الحاجة)([5]).
وبعد أن سأل ربه تعالى من المطالب الأخرى: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي﴾ بيّن الغاية من هذه المطالب ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾([6])، وعبّر بقوله: (كَيْ)، والتي تفيد العلية([7])، أي: سألتك تلك الأمور حتى نذكرك الذكر الكثير من التسبيح والتهليل وغيره.
فتضمّنت هذه الدعوة المباركة سؤال اللَّه تعالى الإعانة على أمور الدين من العبادة، والطاعة، والذكر، والتسبيح؛ لهذا يندب للداعي ذكر علة دعائه خاصة إذا كان من أمور الدين.
الفوائد:
1 - فيه بيان لفضيلة الذكر، "فإن مدار العبادات كلها والدين على ذكر اللَّه".
2- أنّ الدعاء هو العبادة التي خُلِقَ الخلق من أجلها.
3- إن الذكر يعين العبد على القيام بالطاعات وإن شقّت، ويهوّن عليه الوقوف بين يدي الجبابرة)([8]).
4- فيه فضيلة التسبيح؛ لأنه عطف الذكر على التسبيح، وهو داخل به من عطف العام على الخاص لعظمة شأنه، وأنه من الأسباب العظيمة من النجاة من المرهوب، وحصول المرغوب، فكانت الأنبياء تلجأ إلى اللَّه في شدائدهم، كما في دعوة يونس عليه السلام: ﴿ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وكذلك في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾([9])، وأنه تعالى قال لنبيّه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾([10]).
5 – إن التعبّد بأسماء اللَّه تعالى وصفاته له أثر عظيم في عبودية العبد لرب العالمين؛ لقوله: ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾، فإن لكل اسم وصفة عبودية خاصة وثمرة.
6 – أهمية البسط في الدعاء وأنه مطلوب (فكلّما كثّره العبد وطوّله وأعاده ونوّع جمله، كان ذلك أبلغ في العبودية من التذلل، وأقرب له من ربه، وأعظم لثوابه)([11])، فهو عليه السلام لم يوجز في دعائه كأن يقول: (اللَّهم أعني أو وفقني)، وإنما عدَّد مطالبه وسؤاله.
7 – إنّ مطالب الدِّين هي أعظم المطالب، وأسمى المراتب التي ينبغي لكل داعٍ العناية بها.
8 – ينبغي للداعي أن يجمع مع دعائه لوازمه ومتمماته لكي يبذل الأسباب، والجد بها في نيل مطلوبه؛ فإنه سأل ربه أن يعينه، ثم ذهب إلى دعوته، فجمع بين الدعاء، وأسباب حصول مقصوده.
([1]) سورة طه، الآيات: 25-28.
([2]) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللّه تعالى: )وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ(، برقم 7405، ومسلم بلفظه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر، والدعاء والتقرب إلى اللَّه تعالى، برقم 2686، ولفظ البخاري: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي)، ومسلم باللفظ نفسه، برقم 2675.
([3]) تفسير ابن سعدي، 5/ 153.
([4]) المصدر السابق نفسه.
([5]) تفسير ابن كثير، 3/ 204.
([6]) سورة طه، الآيات: 29- 35.
([7]) انظر: القياس في القرآن والسنة النبوية، ص 351.
([8]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 583، وتيسير اللطيف المنان، للسعدي أيضاً، ص 135.
([9]) سورة الصافات، الآية: 143.
([10]) سورة الحجر، الآيتان: 97- 98.
([11]) جلاء الأفهام، ص 230.
مختارات