الأصالة البلاغية
ذوقياً لا أفضّل القراءة لمن يكثر ويتكلف استعمال التراكيب والاستعارات والمجازات اللغوية القديمة. أرسل لنا أحد الأصدقاء في مجموعة واتساب أبيات غزلية لزميل له، وطلب رأينا، أذكر أني أبديت ملاحظة أساسية، مفادها أن الشاعر -بل الناظم- لم يقل شيئاً تقريباً، كل ما فعله هو إعادة تدوير لصور وأخيلةومجازات وتراكيب وصفية تقليدية (العيون السود، والقدود، وخدود كالتفاح، والثنايا كالأقاح، والشعْر الذي هو كالليل سواداً، وكالبحر تموجاً،…الخ) مع صفّها من جديد، فالحدث والسياق والشخوص والأوصاف “مستعارة” بالكامل. هذا ليس شعراً، وإنما حصة تدريبية للذاكرة.
وكذلك الكاتب الذي يفرِط في استخدام اللغة التراثية تضمحل نفسه، لتصبح اللغة تتحدث من خلاله، بينما كان هو المتحدث بها. فيختلّ عاملا الصدق والدقة، وهما من أعظم مرتكزات حسن الخطاب والقول. يكثر هذا النمط من الكتابة لدى الكتّاب في أول أمرهم، لشدة تأثرهم بمطالعتهم، ثم يختار أحدهم الأسلوب الخاصبه، أو هو -بالأحرى- يتخلّق مع الوقت من غير اختيار. ولا يقتصر الأمر على الولع بالتراكيب والألفاظ القديمة، بل حتى من يتكلف تقليد أمراء البيان المعاصرين، ومشاهير الكتاب، وشعراء الشعر الشعبي، يقع في ذات الأزمة.
الحصيلة اللغوية هي الكاميرا التي تجمع أجزائها، لتصوّر بها ما تراه، لا أن تجمع الصورة لتعيد إصدارها من جديد، اللغة مادة، والحدث الخارجي أو الداخلي أو الفكرة هو الموضوع، هكذا الأمر في المحصلة. أما حين تنقلب المعادلة تكون اللغة هي الموضوع نفسه، ويتحول الحدث/الفكرة لتكميل روتيني، فالفتاة الجميلةالموصوفة هي هي منذ قرون لا تختلف، بنفس المواصفات الخرافية الجامدة، حتى يأتي الكاتب/الشاعر ليعيد الحياة والألق والصدق للغة، ليصف أو يشرح ما يراه بوضوح، وليعبّر عن مقصده بدقة، فتستحيل تلك الفتاة بشراً سوياً، أو تلك الفكرة نموذجاً ناصعاً.
مختارات