تابع " تربيـة النفس "
تابع " تربيـة النفس "
المعنى الثالث: الخشوع (مختصر منهاج القاصدين): مَنْ أَحْسَنَ آداب الصلاة والتعظيم لله والهيبة له فإن ذلك يولد شيئين، وهما معرفة جلال الله تعالى وعظمته، ومعرفة حقارة النفس، وأنها مستعبدة، فيتولد من المعرفتين الاستكانة والخشوع، من ذلك الرجاء وهو زائد على الخوف، فالخوف (تزكية النفوس) هو تألم واحتراق بسبب توقع مكروه مستقبلاً، وهو يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات، والخوف القاصر يدعو إلى الغفلة والجرأة على الذنب والإفراط فيه يدعو إلى اليأس والقنوط، وأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية...» الحديث (رواه الشيخان)، والخوف يحرق الشهوات المحرمة وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الخشوع والذلة والاستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد، بل يصير مستوعب الهم بخوفه، والنظر في خطر عاقبته، فلا يتضرع لغيره ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والبخل بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات، والخالق سبحانه وتعالى جمع لأهل الخوف المراتب الأربع التالية: الأولى: الهدى.
أما الثانية: الرحمة: قال تعالى: " هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ " [الأعراف: 154].
الثالثة: العلم: قال تعالى: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " [فاطر: 28].
الرابعة: الرضوان: قال تعالى: " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ " [البينة: 8].
وقد أمر الله عز وجل بالخوف، وجعله شرطًا في الإيمان، فقال عز وجل في محكم كتابه: " وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " [آل عمران: 175].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع...» الحديث (رواه الترمذي).
ومن ثمرات (مختصر منهاج القاصدين) الخوف أنه يقمع الشهوات ويكدر اللذات، والخوف هو سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل؛ لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى.
والخوف إذا تجاوز حَدَّه (إفراط) خرج إلى اليأس والقنوط، وهذا مذموم، وما قصر عنه مذموم أيضًا؛ لأنه في غفلة وضعف إيمان، إذًا الخير في الاعتدال؛ لأن فيه فوائد الخوف، وهي الورع والتقوى والمجاهدة والفكر والذكر والتعبد ولسائر الأسباب التي تؤدي وتوصل إلى الله سبحانه وتعالى: وكل ذلك يستدعي الحياة مع صحة البدن وسلامة العقل.
ومن أقسام الخوف من يخاف سكرات الموت وشدته، وسؤال منكر ونكير، والوقوف بين يدي الله تعالى، ومن المناقشة والعبور على الصراط والنار، وأعلاها رتبة الخوف من الحجاب عن الله تعالى وهو خوف العارفين، أما ما سبق ذلك فهو خوف الزاهدين والعابدين، أما الرجاء (تزكية النفوس) فهو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب هاديًا إلى الطاعة زاجرًا عن المعصية، هذا هو الرجاء الصحيح ويسمى وجدًا وذوقًا وإدراكًا، وهذا إذا كان ما يلاقيك من محبوب، وذكرًا إذا كان من مكروه، وإن خطر عليك شيء في المستقبل وغلب على قلبك سمي انتظارًا وتوقعًا.
والرجاء أفضل من الخوف؛ لأنه يستقي في بحر الرحمة، وإذا كان بدون الأخذ بالأسباب فإنه يسمى غرورًا وحمقًا؛ لأنه داع إلى البطالة والانهماك في المعاصي والسيئات، قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [البقرة: 218].
ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه الأمور التالية:
أولاً: محبة ما يرجوه.
ثانيًا: خوفه من فواته.
ثالثًا: سعيه في تحصيله.
أما إذا فُقد شيء منها، فإنه يكون من باب الأماني، وشتان بين الرجاء والأماني، وحيث إن كل راج خائف والسائر على الطريق إذا خاف أسرع مخافة الفوات، وفي هذا الحديث نجد البيان عن أبي هريرة رضي الله عنه «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة...» الحديث (رواه الترمذي) والرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي» الحديث (رواه البخاري).
المعنى الرابع: حضور القلب: قال الله تعالى: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا " [الإسراء: 36] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» الحديث (رواه البخاري ومسلم).
إذًا فالقلوب ثلاثة (الوابل الصيب):
1- القلب الحي: وهو ذلك القلب السليم الذي استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات وأقلعت عنه تلك الظلمات (تزكية النفوس) وخلصت عبوديته لله تعالى إرادة ومحبة وتوكلاً وإنابة وإخباتًا وخشية ورجاء، إن أحبَّ أحب في الله، وإن أبغضَ أبغض في الله، وإن أعطَى أعطى لله، وإن منعَ منع لله.
2- القلب المريض: قلب استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات وعواطف الأهوية، فللشيطان إقبال وإدبار ومجالات ومطامع ومداخل، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو مذبذب تارة وتارة، إما إلى السلامة أدنى، أو إلى العطب أدنى؛ لأن فيه داعيين: داع يدعوه إلى الله والآخرة، وداع يدعو إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا وأدناهما إليه جوارًا.
3- القلب الميت: قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، قلب مظلم قد أراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه اتخذه بيتًا، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن، وهو قلب الكافر والمنافق، حيث إن الدنيا تسخطه وترضيه، ومخالطة صاحب هذا القلب سقم ومعاشرته سم ومجالسته هلاك.
وهناك (تزكية النفوس) علامات لمعرفة هذه القلوب، فالقلب الميت تمكن منه الشيطان وانتهى صاحبه، أما القلب الحي السليم، فإنه يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة؛ بعكس القلب المريض، آثر حب الدنيا واستوطنها حتى صار من أهلها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنه: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل...» الحديث (رواه البخاري) إن الفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات والشبهات، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد، فالطاعات كلها لازمة لحياة القلب، والمعاصي كلها سموم للقلب وأسباب لهلاكه ومرضه، وهي أربعة:
1- فضول الكلام (تزكية النفوس): عن أنس رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه...» الحديث (رواه أحمد) والمعنى واضح فالحديث اشترط الاستقامة باستقامة القلب، ثم شرط استقامة قلبه حتى يستقيم لسانه.
2- فضول النظر: جاء في المسند: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره لله أورثه حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه...» الحديث (رواه أحمد) فإطلاق النظر يسبب فساد القلب، ويلبسه ظلمة ويعميه عن التمييز بين الحق والباطل والسنة والبدعة، ويشغل القلب وينسيه مصالحه، وينغمس في الغفلة، قال تعالى: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ " [النور: 30]. والجزاء من جنس العمل.
3- فضول الطعام: قلة الطعام توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، وكثرة الطعام توجب عكس ذلك، عن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه...» الحديث (رواه أحمد).
4- فضول المخالطة: هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات، وخسران في الدنيا والآخرة حيث إذا ما فقد التمييز دخل الشر عليه.
مختارات