" تربيـة النفس "
" تربيـة النفس "
أولاً: بالذكر: (مختصر منهاج القاصدين)اعلم أنه ليس بعد تلاوة القرآن عبادة تؤدَّى باللسان أفضل من ذكر الله سبحانه وتعالى، ورفع الحوائج بالأدعية الخالصة إليه تعالى، والدليل على فضل الذكر قوله تعالى: " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " [البقرة: 152] وقوله تعالى: " وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " [الأحزاب: 35].
(الوابل الصيب)وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان وذكر القلب وحده أفضل؛ لأنه يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويردع عن التقصير في الطاعات والتمادي في المعاصي والسيئات، والذكر أفضل من الدعاء، وهو رأس الشكر، والذكر نوعان:
فالنوع الأول هو: ذكر أسماء الله سبحانه وتعالى والثناء عليه بها، وهذا أيضًا له نوعان:
أ- إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر؛ كسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر... وغيرها.
ب- الخبر عن الله تبارك وتعالى بأحكام أسمائه وصفاته مثال قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده، وهو ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد، وهذه كلها مجتمعة في سورة الفاتحة.
أما النوع الثاني فهو: ذكر أمره ونهيه، وهذا نوعان:
أ- ذكره بذلك إخبارًا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا.
ب- ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب عنه.
وأفضل الذكر أن يكون بالقلب واللسان، وهو من أيسر العبادات ومن أجلها وأفضلها، والأذكار كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، فحياة المسلم كلها: كل فعل أو قول يسبقه ذكر، قبل وعند وبعد النوم والأكل والشرب والخروج والدخول... إلخ.. وهذا لمن أراد جلاء القلب وصفاءه، ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا وهي أنه يورثه ذكر الله له.
وفي الذكر مائة فائدة سوف أذكر بعضًا منها:
يطرد الشيطان، ويرضي الرحمن، ويوجب محبته، ويزيل الهم والغم بالفرح والسرور والانبساط، نور في الوجه، ويعطيك المهابة والحلاوة والنضرة والإنابة، ويورث المراقبة حتى تدخل في باب الإحسان، وقوة القلب، يحط الخطايا، ويزيل الوحشة، والفرج وقت الشدة، صيانة اللسان يؤمن العبد من الحسرة، والفرج وقت الشدة، صيانة اللسان، يؤمن العبد من الحسرة، غراس الجنة، ويوجب الأمان من النسيان الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، وشدة البلاء والضيق (الضنك)، يداوي قسوة القلب، جلاب للنعم، وموجب للمزيد ودافع للنقم، أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله، أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله عز وجل، إدامة الذكر تنوب عن التطوعات وتقوم مقامها، يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق، يعطي الذاكرة قوة، وسدًّا بين العبد وجهنم، أن الملائكة تستغفر له، أمان من النفاق، الأماكن التي ذكر الله فيها تشهد له يوم القيامة، كما أنه يجعل الدعاء مستجابًا، دور الجنة تبنى بالذكر، عمال الآخرة في سباق، والذاكرون هم أسبقهم، أن الله يباهي بهم ملائكته، يوجب الصلاة من الله وملائكته والقرب منه سبحانه وتعالى، كما أنه يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والحمل على الخيل والضرب بالسيف في سبيل الله، والذاكرون والذاكرات هم أولياء الرحمن الذين قال تعالى فيهم: " لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ " [يونس: 62].
ثانيًا: بالصلاة: قال تعالى: " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى " [الأعلى: 14، 15] وقال تعالى: " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ " [البقرة: 45].
(فقه السنة ) والصلاة عبادة تتضمن أقوالاً وأفعالاً مخصوصة مفتتحة بتكبير الله تعالى، مختتمة بالتسليم، ولها أوقات محدودة تؤدَّى بها، قال تعالى: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا " [النساء: 103].
وتتضمن أيضًا أركانًا وواجبات لا تتم إلا بها، وللصلاة في الإسلام منزلة عظيمة لا تعدلها أي عبادة، فهي عماد الدين وغرة العبادات، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر العمل، وإن فسدت فسد سائر العمل، وإن فسدت فسد سائر العمل، وهي آخر وصية وصَّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته.. جعل يقول: «الصلاة.. الصلاة.. وما ملكت أيمانكم» وهي آخر ما يفقد من الدين.
وبلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة عليها؛ فلا تسقط في الحضر والسفر والأمن والخوف والحرب حتى المرض (كل صلاة منها لها هيئة فلتراجع في مظانها).
والصلاة تشتمل على أقوال «كقراءة القرآن الكريم والذكر والدعاء» وأفعال «كالركوع والسجود» والصلاة (الوابل الصيب) تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه، فإذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال وأحمال قد وضعت عنه فوجد نشاطًا وراحة وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه ونعيم روحه، وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها ويستريح بها، لا منها وهذا للمحبون لها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامنا وقدوتنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم (رواه أحمد): «يا بلال أرحنا بالصلاة» ولم يقل: أرحنا منها، وقال (رواه النسائي) أيضًا: «جعلت قرة عيني في الصلاة» فمن جعل قرة عينه في الصلاة ترى كيف تقر عينه بدونها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟ والمحبون لصلاتهم تصعد ولها نور وبرهان حتى يقبلها الرحمن عز وجل فتقول الصلاة: حفظك الله تعالى كما حفظتني.
مراتب الناس في صلاتهم:
الأول: الظالم لنفسه المفرط، وهذا يكون أدى الصلاة ولكن أنقص شيئًا من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها، فهذا يعاب على تقصيره.
الثاني: المحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها ووضوئها، ولكن ضيَّع مجاهدة نفسه في دفع الوسوسة والانشغال بغيرها فكرًا فهذا يحاسب على الانشغال بغيرها.
الثالث: المحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها ووضوئها مجاهدًا نفسه في دفع الوسوسة والأفكار فهو في صلاة وجهاد وهذا تكفر عن سيئاته.
الرابع: المحافظ على مواقيتها وحدودها وأركانها مكملاً حقوقها كما ينبغي وهذا يثاب على ذلك.
الخامس: المحافظ عليها كما ينبغي دون نقص واضعًا قلبه بين يدي ربه عز وجل يكون في صلاته مشغولاً بربه عز وجل قرير العين به، وهذا يقر به ربه إليه سبحانه، نسأل الله أن يجعلها من هذا النوع.. آمين.
إذًا (مختصر منهاج القاصدين) مما سبق يتضح لنا أن للصلاة أركانًا وواجبات وسننًا ظاهرة، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب باطنًا.
والمعاني التي تتم بها حياة الصلاة:
المعنى الأولى: النية (تزكية النفوس): قال تعالى: " وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ " [الأنعام: 52] (المقصود بالإرادة هنا: النية) والنية ليست قول القائل: «نويت فعل كذا» بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله، فالعمل (مختصر منهاج القاصدين) بدون نية عناء، وبدون إخلاص رياء، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه...» الحديث (رواه البخاري ومسلم).
والنية الصالحة لا تغير المعاصي عن موضعها، فالطاعة تنقلب معصية بالقصد، والمباح ينقلب معصية أو طاعة بالقصد، أما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد، ودخول النية في المعصية إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة» الحديث.
المعنى الثاني: الإخلاص (تزكية النفوس): وهو تجريد قصد التقرب لله عز وجل عن جميع الشوائب، بمعنى آخر: إفراد الله عز وجل بالقصد في الطاعات، والإخلاص شرط لقبول العمل الصالح، قال تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ " [البينة: 5] وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «أخلص دينك يكفك القليل من العمل... »الحديث (رواه ابن أبي الدنيا).
والإخلاص يضاده الإشراك، وقد قيل: إن أشد شيء على النفس هو الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب، والشوائب المكدرة للإخلاص متفاوتة؛ بعضها جلي وبعضها خفي. وقد قيل: ركعتان من عالم أفضل من سبعين ركعة من جاهل. وليس للعبد نجاة من الشياطين إلا بالإخلاص، كما قال تعالى: " إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ " [ص: 83].
وبه فإنه علاج كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد للآخرة، قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما (تزكية النفوس).
مختارات