" مما يعين على المحاسبة "
" مما يعين على المحاسبة "
هناك بعض الأمور تعين المرء على المحاسبة لنفسه، بحيث إذا تأملها وتملّاها جيدا كانت خير معين له على أن يبادر ويسارع إلى أطر نفسه وإيقافها عند أمر الله ونهيه، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – حيث قال: (ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً، ويعينه أيضاً: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى.
فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم، فحق على المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا حظ لها يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن " يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا " [آل عمران:30] (إغاثة اللهفان).
ويحسن التنبيه هنا على أمر يعين على المحاسبة وهو: أن يحرص المسلم على تخصيص وقت محدد يحاسب فيه نفسه، وإن كان ذلك ليس شرطاً في هذا الباب، فإن المسلم رقيب على نفسه في كل وقت، لكن ذكر بعض العلماء أن تخصيص وقت قبل النوم من كل ليلة من أحسن الأوقات للمحاسبة.
*قال الماوردي: (عليه أن يتصفح في كل ليلة ما صدر من أفعال نهاره، فإن الليل أخطر للخاطر وأجمع للفكر)(أدب الدنيا والدين).
* وقال ابن القيم: (ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسروراً بتأخير أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فات) (الروح لابن القيم).
ونختم موضوع رسالتنا هذه بالتذكير بقضية مهمة وهي: أنه لابد من أن يكون المرء صادقاً في محاسبته لنفسه، وتعتمد المحاسبة الصادقة على أسس ثلاثة ذكرها الإمام ابن القيم – رحمه الله – وهي: الاستنارة بنور الحكمة، وسوء الظن بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.
فأما نور الحكمة: فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.
وأما سوء الظن بالنفس: فحتى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب.
وأما تمييز النعمة من الفتنة: فلأنه كم مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (مدارج السالكين) !
ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد حين فقه هذا الأمر العظيم، فلم يغتر أو يزهو بثناء الناس عليه ومدحهم له، بل عد ذلك فتنة له وامتحاناً. وذاك هو شأن العارفين بالله.
حكى الذهبي عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله [يعني الإمام أحمد] قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لأبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله، وقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقته (الذرقة: الترس من جلد ليس فيه خشب (المعجم الوسيط) فذهب برأسه والدرقة !! قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: (ليته لا يكون استدراجاً) (السير).
مختارات