لكل شيء علامة!! فما علامة اهتمامك بدعوتك (7)
7- التضحية:
صاحب الرسالة يتقلب بين ألوان التضحية المختلفة، فمنها التضحية:
•بالراحة:
ومن مفردات الراحة مكوث المرء في بيته، وهو عيب في عُرف شامخي الهمم، كما نطق بذلك لسان الصحابي المُبشَّر بالجنة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه حين قال (إن أقلَّ العيب على المرء أن يجلس في داره.)
وكانوا يكرهون الراحة وكل ما يدعو إلى الراحة أو يُذكِّر بالراحة، واستمع إلى همة عطاء بن أبى رباح وهو يقول(لأن أرى في بيتي شيطانا خير من أرى وسادة لأنها تدعو إلى النوم.)
فلا بيت ولا وِسادة، كانوا قديما يألفونهما قبل الالتحاق بركب الدعاة ومعرفة شرف المطلوب وعظمة المهمة وجلال الخطب وفداحة المصاب واحتدام الصراع، أما اليوم فمحال.
هؤلاء علموا أنهم إن استراحوا غزاهم الشيطان في عُقر دارهم وغرفات نومهم،
وتأمل مقالة أبي حامد الغزالي - رحمه الله تعالى المنبثقة عن مشاهداته:
(اعلم أن كل قاعد في بيته - أينما كان - فليس خالياً من هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف.)
•بالمال:
•صاحب الرسالة يسخِّر ماله لدينه ويوظِّفه لدعوته، لأنه علم أن المال مفارقه لا محالة لذا أخرجه طواعية مثابا قبل أن يخرج عنه مُجبرا مُهانا في صفقة تجارية خاسرة أو حادث مفاجئ أو نفقات علاج مرض خطير.
•صاحب الرسالة يدرك أن الله سائله عن ماله فيم أنفقه، وأن أكثر ما يُفرِح الرب هو إنفاق المال لنشر دينه ينفق ماله في سبيل الله ولو كان في أمس الحاجة إليه.
•صاحب الرسالة يخاف تبعة الغنى حين يرى بعيني رأسه عددا من إخوانه لما كثر المال لديهم أصبحوا عبيد للمال، وانشغلوا عن رسالتهم ودعوتهم بعد أن كانوا رفقاء الأمس وشركاء الهم والأجر.
•صاحب الرسالة يرى أن عقارب الساعة تطارده وملك الموت يلاحقه، لذا يبادر بالإنفاق قبل أن يغادر ساحة هذه الحياة.
•صاحب الرسالة يرى في إنفاقه فضل ربه عليه فلا يرى نفسه ولا إحسانه وإنما يرى ربه وإحسانه.
كمين!!
يرهق نفسه بأقساط تكبِّله ثم يتعلل بكثرة مسئولياته وثقل أعبائه ليبرِّر بخله ويُسوِّغ لنا تخلفه، ويعِد إخوانه أنه لن يتأخر عن الدعوة بماله، وما درى أن الشيطان قد اصطاده في كمين محكم، وأن مسألة تساقطه مسألة وقت!! وهذا مثله كحمار خرج يطلب قرنين فعاد بلا أذنين!!
•بالوقت:
أوقاتهم كلهم لله، فلا يحصرون وقت الدعوة في نشاط محدود بل كل سكناتهم وحركاتهم مسخَّرة لدعوتهم، إن طُلِبوا وُجِدوا، وإن دعاهم دينهم لبّوا.
كمال التضحية
أصحاب الرسالة عشاق كمال، فنحن عشاق الكمال، ومن كمال التضحية: المداومة على التضحية حتى يتعوَّد القلب لذة العطاء كما اعتاد لذة الأخذ.
ومن كمال التضحية: الفرح بالتضحية كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شأن أبيها أبي بكر : ( ما علمتُ الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح (
ومن كمال التضحية: الثبات على التضحية حتى الممات.
عن عبد الله بن شقيق قال: (سألت عائشة: أكان رسول الله ﷺ يقرأ السورة في ركعة؟ قالت: المفصَّل.)
قال: قلت فكان يصلي قاعدا؟!
قالت: حين حَطِمه الناس.)
وحطمه الناس: تُقال للرجل إذا كبر عمره وصار شيخا، ويُقال: حطم فلانا أهلُه إذا كبر فيهم كأنه لما حمل من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم صيَّروه شيخا محطوما.
والمنتظر منك يا من قدوته نبيه أن تقتفي أثر ^ وتقلِّد، فتواظب على دعوتك شابا وشيخا، صحيحا وسقيما، فارغا وشغولا حتى يحطمك الناس في سبيل الله، ويمتصوا مجهودك وأنت تدعوهم حتى آخر رمق، ويقطفوا ثمرة فؤادك من فرط حرصك على هدايتهم وأنت تُسلِم الروح، ترجو بذلك تحقيق التأسي الكامل بحبيبك ﷺ الذي كان يقول عند موته: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم(.
يعلِّم بذلك حملة الرسالة من بعده درسا بليغا: أن يحملوا هم الدعوة دائما وفي أحرج الأوقات لا في لحظات عابرة فحسب، فما كان لصاحب الرسالة أن ينسى دعوته لحظة، وهل ينسى المريضُ مرضه، والجائعُ جوعته، والمحمومُ حُمَّاه، نعم.. لا يترك داعية دعوته إلا إذا تركت الكواكب أفلاكها والوحوش أوكارها.
إن الطيور وإن قصصتَ جناحها تسمو بفطرتها إلى الطيران
أحبتاه.. اذكروا أن التضحية وقود الدعوات، وأنه كلما عظمت التضحيات كبرت مكاسب الدعوة، واقترب نصرها ودنت غاياتها.
وبقدر ضخامة الهدف تكون التضحية من أجله، وقديما قالوا:من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وطلبنا أن نعيد لهذا الدين عزه، ونرد له مجده المستباح وكرامته السليبة، مرادنا أن تعود الشريعة الغراء ترفرف في سمائنا، وأملنا الذي يحدونا أن نرفع الظلم عن إخواننا في كل بقاع الأرض. ألا تستحق كل هذه الأهداف الجليلة منا التضحية في سبيلها.. ألا نسترخص في سبيل ذلك العرق والجهد والألم والبلاء؟!
وقفة فوثبة!!
والآن.. أخي.. ضع نفسك في غرفة المحاسبة وعلى كرسي الحقيقة.. وواجهها بقولك:
أهل الباطل يبذلون في سبيل الباطل ليدخلوا النار، فماذا بذلتُ أنا في سبيل الحق لأدخل الجنة؟!
هل وعيتُ حقا وصية الفاروق وأثبتَّ له بعملي أني خير وريث وهو الذي علَّمنا: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا). هل جلست مع نفسك يوما في لحظة صفاء وصدق تسألها:
ما هو الأثر الذي سأتركه خلفي؟!
ما هي القُربى التي أرجو أن يصلني ثوابها بعد موتي؟!
واجه الحقيقة ولو كانت مُرَّة:
كم مضى من عمرك، وماذا قدَّمت فيه لدينك؟!
راجع النعم التي اختصَّك الله بها وانظر فيم سخَّرتها؟
هل استحوذَت عليها دنياك أم ادَّخرت منها شيئا لدينك الجريح وقومك المغلوبين؟!
اطرح عنك تلبيس إبليس وأعذار المفاليس.. واسأل نفسك الآن والله مطلع عليك:
oهل تعمل لدينك وتبذل لدعوتك ما دمت فارغا، فإذا عرفتك الأسواق وصفقات التجارات توارت الدعوة عندك إلى الأولوية العاشرة؟!
oهل تقدِّم لدعوتك هوامش أوقاتك وفضلة حياتك؟!
oهل تسعى لمد الدعوة بروافد جديدة كما تسعى لمد راتبك بموارد جديدة؟!
oهل يؤرِّقك نشر الهداية وتوسيع رقعة الصالحين كما يؤرِّقك السعي على الرزق وتأمين حياة أبنائك المقرَّبين؟!
ألا ما أحلى هذه الجلسات التأملية المباركة التي يعقبها القرار الحاسم والقفزة الجريئة نحو البذل الفريد والتضحية الفذَّة.
مختارات