قصة صالح عليه السلام نبي ثمود (٣)
وقال تعالى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٧٧]، فجمَعُوا في كلامِهم هذا بين كفرٍ بليغٍ من وجوه:
منها أنهم خالفوا اللَّه ورسولَه في ارتكابهم النهي الأكيد في عَقْر الناقة التي جعلها اللَّه لهم آية.
ومنها أنهم استعجلوا وقوعَ العذاب بهم، فاستحقُّوه من وجهين: أحدهما: الشرط عليهم في قوله: ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ [هود: ٦٤] وفي آية ﴿عَظِيمٌ﴾ [الشعراء: ١٥٩] وفي الأخرى ﴿أَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ٧٣] والكلُّ حقٌّ.
والثاني: استعجالهم على ذلك.
ومنها أنهم كذَّبوا الرسولَ الذي قد قامَ الدليلُ القاطعُ على نبوَّته وصِدْقه، وهم يعلمون ذلك علمًا جازمًا، ولكن حملَهم الكفرُ والضَلالُ والعِنادُ على استبعاد الحق، ووقوع العذاب بهم.
قال اللَّه تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: ٦٣].
وذكروا أنَّهم لما عَقَروا النَّاقَة كان أوَّل من سطا (١) عليها قُدارُ بن سالف -لعنه اللَّه- فعرقَبها، فسقطت إلى الأرض، ثم ابتدرُوها بأسيافهم يُقَطِّعُونها، فلما عاينَ ذلك سَقْبُها -وهو ولدها- شَرَدَ عنهم، فعلا أعلى جبلٍ هناك، ورغا ثلاثَ مرارٍ.
فلهذا قال لهم صالح: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ [هود: ٦٥] أي: غير يومهم ذلك، فلم يُصدِّقوه أيضًا في هذا الوعد الأكيد، بل لما أمسوا همُّوا بقتله، وأرادوا فيما يزعمون أن يُلحقوه بالناقة ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ [النمل: ٤٩] أي: لنكبسنَّه في داره مع أهله فلنقتلنه، ثم لنجحدنَّ قتله، ولننكرنّ ذلك، إنْ طالبنا أولياؤُه بدمه، ولهذا قالوا: ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل: ٤٩].
قال اللَّه تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [النمل: ٥٠ - ٥٣].
وذلك أنَّ اللَّه تعالى أرسلَ على أولئك النفر الذين قصدوا قتلَ صالح حجارةً رضختْهم سلفًا وتعجيلًا قبلَ قومهم، وأصبحتْ ثمودُ يومَ الخميس -وهو اليوم الأول من أيام النَّظْرة- ووجوهُهم مُصْفَرَّةٌ، كما أنذرهم صالح ﵇، فلمَّا أمسَوا نادَوْا بأجمعِهم: ألا قد مضَى يوم من الأجل.
ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوهُهُم مُحمَرَّة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى يومان من الأجل.
ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع، وهو يوم السبت، ووجوهُهم مُسودَّة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضَى الأجل.
فلما كان صبيحة يوم الأحد تحنَّطوا وتأهَّبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحُلُّ بهم من العذاب والنَّكال والنقمة، لا يدرون كيف يفعل بهم! ولا من أي جهة يأتيهم العذاب! فلما أشرقت الشمسُ جاءَتْهم صَيْحة من السماء مِن فوقهم، ورجفةٌ شديدةٌ من أسفل منهم، ففاضتِ الأرواحُ، وزهقتِ النفوس، وسكنتِ الحركاتُ، وخَشَعتِ الأصواتُ، وحقَّتِ الحقائقُ، فأصبحوا في دارهم جاثمين، جثثًا لا أرواحَ فيها، ولا حَرَاك بها.
قالوا: ولم يبق منهم أحدٌ إلَّا أن جاريةً كانت مُقْعَدَةً، واسمها كلية ابنة السلق، ويُقال لها: الذريعة، وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح، فلما رأتِ العذاب أُطْلِقَتْ رجلاها، فقامتْ تسعى كأسرع شيءٍ، فأتتْ حيًّا من العرب فأخبرتْهم بما رأتْ، وما حلَّ بقومها، واستسقتهم ماءً، فلما شربتْ ماتتْ.
قال اللَّه تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ [هود: ٦٨] أي: لم يُقيموا فيها في سَعة وررْق وغَنَاء ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ [هود: ٦٨] أي: نادى عليهم لسانُ القَدَر بهذا.
قال الإمام أحمد: حدَّثنا عبدُ الرزاق، حدَّثنا معمر، حدَّثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: لما مرَّ رسولُ اللَّه ﷺ بالحِجْر، قال: "لا تسالوا الآياتِ، فقد سألها قومُ صالح، فكانتْ -يعني الناقة- تَرِدُ من هذا الفَجِّ، وتصدرُ من هذا الفجِّ ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ [الأعراف: ٧٧] فكانت تشربُ ماءَهم يومًا ويشربون لبنَها يومًا، فعقروها، فأخذتْهم صيحةٌ أهمد اللَّه من تحت أديم السماء منهم إلا رجلًا واحدًا كان في حرم اللَّه.
فقالوا: منْ هُو يا رسول اللَّه؟ قال: هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابَه ما أصابَ قومَه" (١).
وهذا الحديث على شرط مسلم، وليس هو في شيء من الكتب الستة، واللَّه أعلم.
وقد قال عبد الرزاق أيضًا: قالَ مَعْمر: أخبرني إسماعيل بن أُميَّة: أن النبيَّ ﷺ مرَّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: اللَّه ورسولُه أعلم.
قال: هذا قبر أبي رِغال، رجلٌ من ثمودَ كان فيِ حَرَمِ اللَّه فمنعَه حَرَمُ اللَّه عذابَ اللَّه.
فلما خرجَ أصابَه ما أصابَ قومَه، فدُفن هاهنا ودُفن معه غُصْنٌ من ذهب، فنزلَ القومُ فابتدرُوه بأسيافهم، فبحثُوا عنه، فاستخرجوا الغصنَ.
قال عبد الرزاق: قال معمر: قال الزهري: أبو رغال: أبو ثقيف.
هذا مرسل من هذا الوجه.
وقد جاءَ من وجهٍ آخر متصلًا، كما ذكرَه محمَّد بن إسحاق في السيرة: عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، سمعتُ عبدَ اللَّه بن عمرو، سمعتُ رسولَ اللَّه ﷺ يقولُ حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبرٍ، فقال: "إن هذا قبرُ أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمودَ، وكان بهذا الحرم، يدفعُ عنه، فلمَّا خرجَ منه، أصابتْه النقمة التي أصابتْ قومَه بهذا المكان، فدُفن فيه، وآية ذلك أنه دُفن معه غصنٌ من ذهب، إنْ أنتم نبشتُم عنه أصبتموه معه".
فابتدرَه النَّاسُ فاستخرجوا منه الغصن.
وهكذا رواه أبو داود: من طريق محمد بن إسحاق.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجَّاج المزِّي -: هذا حديث حسن عزيز.
قلت: تفرَّد به بُجَيْر بن أبي بُجَيْر هذا، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن أمية.
قال شيخنا: فيحتمل أنه وَهم في رفعه، وإنما يكون من كلام عبد اللَّه بن عمرو عن زاملتيه (٣)، واللَّه أعلم.
قلتُ: لكن في المرسل الذي قبلَه، وفي حديثِ جابر أيضًا شاهدٌ له، واللَّه أعلم.
(١) سطا: بطش بشدَّة.
(٢) الفجُّ: الشَّقُّ، والطريق الواضح بين جبلين.
(٣) زاملتيْه: الزاملة: ما يُحمل عليه من الإبل وغيرها.
مختارات