قصة صالح عليه السلام نبي ثمود (٤)
وقوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعرافْ ٧٩] إخبارٌ عن صالح ﵇ أنَّه خاطبَ قومه بعد هَلاكهم، وقد أخذ في الذَّهَاب عن محلَّتهم إلى غيرها، قائلًا لهم: ﴿يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ [الأعراف: ٧٩]: أي جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي ﴿وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٧٩] أي: لم تكن سجاياكُم تَقْبَلُ الحق ولا تُريده، فلهذا صرتُم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم المستمرّ بكم، المتصل إلى الأبد، وليس لي فيكم حيلة، ولا لي بالدفع عنكم يدان، والذي وجبَ عليّ من أداء الرسالة والنُّصْح لكم قد فعلتُه وبذلتُه لكم، ولكنَّ اللَّه يفعلُ ما يريد.
وهكذا خاطبَ النبيُّ ﷺ أهل قَلِيْبِ بَدْرٍ بعد ثلاث ليالٍ، وقف عليهم، وقد ركبَ راحلتَه، وأمر بالرحيل من آخر الليل، فقال: "يا أهلَ القَليب! هل وجدتُم ما وعدَكم ربُّكم حَقًّا، فإني قد وجدتُ ما وَعدني ربِّي حقًا" وقال لهم فيما قال: "بئسَ عشيرةُ النبيِّ كُنتم لنبيِّكم، كذَّبتمُوني وصدَّقني النَّاسُ، وأخرجتموني وآواني النَّاسُ، وقاتلتمُوني ونَصرني النَّاسُ، فبئس عشيرةُ النبيِّ كنتُم لنبيِّكم" فقال له عمر: يا رسول اللَّه! تخاطبُ أقوامًا قد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يُجيبون".
وسيأتي بيانُه في موضعه إن شاء اللَّه.
ويُقال: إنَّ صالحًا انتقلَ إلى حَرَمِ اللَّه فأقامَ به حتَّى ماتَ.
قال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما مرَّ النبيُّ ﷺ بوادي عُسْفان حينَ حجَّ، قال: "يا أبا بكر! أيّ وادٍ هذا؟ قال: وادي عُسْفان.
قال: "لقد مرَّ به هودٌ وصالحٌ على بكرات خُطُمُها اللِّيف، أُزُرُهم العباء، وأرديتهم النِّمار، يُلَبُّون، يَحُجُّونَ البيتَ العتيق".
إسناد حسن.
وقد تقدَّم في قصَّة نوحٍ من رواية الطبراني، وفيه: نوح وهود وإبراهيم.
مرور النبيِّ بوادي الحِجْر من أرض ثمودَ عام تبوك
قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عبدُ الصمد، حَدَّثَنَا صَخْرُ بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال لما نزل رسولُ الله ﷺ بالناس على تبوكَ، نزل بهم الحِجْرَ عند بيوت ثمود، فاستقى النَّاسُ من الآبار التي كانت تشربُ منها ثمود، فعجنُوا منها، ونصبُوا القُدور [باللحم]، فأمرَهم رسولُ اللّه فأهراقوا القدورَ، وعلفُوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحلَ بهم حتَّى نزل بهم على البئر التي كانت تشربُ منها النَّاقةُ، ونهاهُم أن يدخلوا على القوم الذين عُذِّبوا فقال: "إني أخشى أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم".
وقال أحمد أيضًا: حَدَّثَنَا عفَّان، حَدَّثَنَا عبدُ العزيز بن مسلم، حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن دينار، عن عبد اللّه بن عمر، قال: قال رسولُ اللّه ﷺ وهو بالحِجْر: "لا تدخلوا على هؤلاء المُعذبين إلا أنْ تكونوا باكينَ، فإن لم تكونوا باكينَ فلا تدخلوا عليهم، أن يُصيبكُم مثل ما أصابهم".
أخرجاه في الصحيحين من غير وجه.
وفي بعض الروايات: أنه ﵊ لما مرَّ بمنازلهم قنَّع رأسه وأسرع راحلته، ونهى عن دخولِ منازلهم إلا أن يكونوا باكين.
وفي رواية: "فإنْ لم تبكوا فتباكوا، خشيةَ أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابَهم".
صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، أخبرنا المَسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كبشة الأنماري، عن أبيه - واسمه عمرو بن سعد، ويُقال: عامر بن سعد قال: لما كان في غزوة تبوك تسارعَ النَّاسُ إلى أهل الحجْر يدخلون عليهم، فبلغَ ذلك رسولَ الله ﷺ، فنادى في النَّاس: الصَّلاةُ جامعة.
قال: فأتيتُ النبيَّ ﷺ، وهو يمسك بعيرَه، وهو يقول: "ما تدخلون على قومٍ غضبَ اللّه عليهم، فناداه رجلٌ نعجبُ يا رسول الله! قال: أفلا أُنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجلٌ من أنفسكم يُنبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائنٌ بعدَكم، فاستقيمُوا وسدَّدوا، فإنَّ اللّهَ لا يعبأُ بعذابِكم شيئًا، وسيأتي قومٌ لا يدفعونَ عن أنفسهم شيئًا".
إسنادٌ حسنٌ ولم يُخرِّجوه.
وقد ذُكرَ أنَّ قومَ صالح كانت أعمارُهم طويلةً، فكانوا يبنون البيوتَ من المدر (١)، فتخربُ قبلَ موتِ الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتًا في الجبال.
وذكروا أنَّ صالحًا لما سألوه آيةً، فأخرجَ اللّه لهم النَّاقةَ من الصَّخرة، أمرهم بها وبالولد الذي كان في جَوْفها، وحذَّرَهم بأسَ اللّه إن هم نالوها بسوء، وأخبرَهم أنهم سيعقرونها، ويكونُ سببُ هلاكهم ذلك، وذكرَ لهم صفةَ عاقرها، وأنَّه أحمرُ أزرقُ أصْهبُ، فبعثوا القوابلَ في البلد، متى وجدوا مولودًا بهذه الصِّفة يقتلنَّه، فكانوا على ذلك دهرًا طويلًا، وانقرضَ جيلٌ وأتى جيلٌ آخر.
فلمَّا كان في بعضِ الأعصارِ، خطبَ رئيسٌ من رُؤسائهم على ابنه بنتَ آخرَ مثله في الرياسة، فزوَّجه، فولدَ بينهما عاقرُ النَّاقة، وهو قُدَار بن سَالف، فلم تتمكَّن القوابلُ من قتله، لشرفِ أبويْه وجدَّيْه فيهم، فنشأ نشأةً سريعةً، فكان يشبُّ في الجمعة كما يشبُّ غيرُه في شَهْرٍ، حتى كان منْ أمره أن خرجَ مُطاعًا فيهم رئيسًا بينهم، فسوَّلت له نفسُه عَقْرَ النَّاقةِ، واتَّبعه على ذلك ثمانية من أشرافِهم، وهم التسعة الذين أرادوا قتلَ صالح.
فلمَّا وقع من أمرِهم ما وقعَ من عَقْرِ النَّاقة، وبلغَ ذلك صالحًا، جاءهم باكيًا عليها، فتلقَوه يعتذرون إليه، ويقولون: إن هذا لم يقعْ عن ملأٍ منا، دمانما فعل هذا هؤلاء الأحداث فينا، فيُقال: إنه أمرَهم باستدراكِ سَقْبها (٢) حتى يُحسنوا إليه عوضًا عنها، فذهبوا وراءَه، فصعدَ جبلًا، فلما تصاعدوا فيه وراءَه، تعالى الجبلُ حتى ارتفعَ فلا ينالُه الطَّيْرُ، وبكى الفصيلُ، حتى سالت دموعه.
ثم استقبلَ صالحًا، ودعا ثلاثًا، فعندها قالَ صالح: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: ٦٥] وأخبرَهم أنَّهم يُصبحون من غَدِهم صُفْرًا، ثم تَحْمَرُّ وجوههم في الثاني، وفي اليوم الثالث تَسْوَدُّ وجوههم، فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صَيْحةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقةٍ، فأخذتْهم فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وفي بعض هذا السياق نظرٌ ومخالفةٌ لظاهر ما يُفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم، كما قدَّمنا، والله أعلم بالصواب.
(١) المدر: الطين.
(٢) سَقبها: السَّقْب: ولد الناقة.
مختارات