المشهد الثاني عشر
{ أو أجِدُ على النّارِ هُدى }..
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ }..
تنتَهي مَهمّة مُوسى في مَديَن ؛ فتحركّه إرادة الله للعَودة الى مِصر.. حيث لا تَحتمل الأَقدار تأخير المَواعيد !
يَبدو مُوسى في طَريق العَودة مختلِفاً.. كأنّه قادم من صَفوة المَواسم.. تكسُوه هَيبة المِحَن.. وفي مَشيِه تَستقيم الفِتَن !
عَشر سَنوات.. تُثمر في رُّوح موسى - عليه السَّلام - لُغة عَذبة ؛ لطَالما أنصَت اليها في مراعي مَدْيَن.. و تُثمر معها حِكمة القدر !
كم كان عُمرُ موسى يومَ عاد الى مِصر.. ربّما لا يهُم.. اذ يَكفي أن يلتقي المَرء في ليلة مباركة بلحظةِ الإكتمال.. تومِض له بوَفرة.. و تُنسِج بعدها له ؛ بُردة الإمامة مِنْ خُيوط الصَّباح !
يسيرُ موسى بتَردّد حكيم.. ليس فيه عَجلة الشّباب، و لا خوف المُستضعفين.. ولكنّه التّردد الحَذِر الذي يَشِي بقوّة العقل !
عشر سَنوات.. قبلَ أن يعودَ موسى ثانيةً لصوت أسّلافه..و للمَشي في أزقّة مِصر العَتيقة..!
الغياب الطّويل ؛ غُربة باردة.. تهزِمنا في وحدتنا.. فإذا كنّا في كنَف الله ؛ نَمَونا مثل بُرعمة تَحنو عَليها غابةٌ بأكملِها !
كانَ يُسافر مُوسى مع رتلٍ من الذّكريات.. و كل خَطوة له كانت ترتفعُ بالحَنين !
يعرِف موسى جيداً ؛ أنّ هواء مِصر لازال مسكوناً بفِرعون.. يحملُ إرثَ الظُّلم.. ويتنفّس الضُّعفاء منه القَهر.. هواءٌ مُمتليء ببَقايا الإنسان !
هل تَدري ؛ أنَّ الظُّلم يكسِر الانسان على أوّل السُّلَّم !!
ثم يبقيه أعرَجاً لا تسير رُوحه الا بالعَصا !
كانَ موسى - عليه السَّلام - يعرِف ذلك جيداً.. ويعرِف أنّه لا زال الضُّعفاء في مِصر ينتعِلون القُضبان.. و تُكبّل أعيُنهم سلاسِل الخَوف.. لكنّه كانَ مسكوناً بالشّوق..
الشّوق الذي يظل يزرع الدّمع في مُقلة العين ؛ كلّما رأيت في المَنام صُّورة أُمِّك حتّى كأنّها بعضُ اليَقين !
{ وَسَارَ بِأَهْلِهِ }.. هل تعلم أن طريقُ العودة وحدَه يجمع المَرء بنفسه.. ويردّ عليه بقيّته الغائبة !
إذ { آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا }.. يقترِب مُوسى وهو يهمِس لزوجه بصوت فيه لغة القَمر.. {إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ...... أوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى }.. كانت كلّ التّعابير في فَمِ موسى تُوحي بانتظارِ غِلال عصرٍ جديد..
أليسَ هذا انتصارٌ للتوقعات الخَيّرة في وَسط الظُّلمة !
لقد ظنّ موسى أن يجد على النّار هُدى ؛ فوجد سِدرة الفَتح تنتظِره.. !
وكانَ الله عند حُسن ظنّه !
{ لأهله }.. تعبيرٌ قرآنيّ فريد ؛ حيث تنسَدل فيه ستائر الودّ على الزوجة، وتصبح به اهلًا..
تعبيرٌ ؛ يَرقى بالمرأة في ضميرِ الرَّجل ؛ الى أن تكونَ جُذوره وأغصانه، ويجعل لون الأُنثى بلون الأهل جميعاً !
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}.. حيثُ تعرِف البُقعة تماماًً لِمن الخُطى القادِمة !
لقدْ كانت تِلك خُطى نبويّة كَريمة ؛ صنعَتها خلوة ثريّة.. رتّبت لها إرادة الله بِحكمةٍ بالغة..
خُطىً ؛لم تكن تُشبه الخَطوات التي خرَج بها مُوسى من مِصر { خائِفاً يَتلفّت }..
نوديَ { مِنَ الشَّجَرَةِ }.. فقدْ كانت الشَّجرة تنتظِره بِشوق سماويٍّ جَليل !
كان حُدود الّلقاء بينَ خَطوات موسى والشَّجرة ؛ يبدُو مَحدوداً.. لكنّه مع كلّ خَطوة كان يتَّسع في الإرتفاع.. في العلوِّ المُبهر.. في فَضاء قدسيٍّ جَليل..
ثمّ نُوديَ { أن بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } !
يبدو الهواء لطيفاً..
هواء تعبقُ منه رائحة المَلائكة..
في البُقعة رذاذٌ هادىء.. و اشتعال مِثل ضَباب حَنون.. ظِلال المكان ترتَمي بخشوعٍ على الشَّجرة ؛ كأنّها تُحاول الإلتصاق بالنّور المتدفّق..
أطيافُ النّور تغمُر الشّجرة.. كلّ شيء كان يَبدو رَحباً و ودوداً.. يتناثرُ النّور من حول موسى و يشرق الهدى في خُضرة الشّجرة..
لا تحرِق النّار الشّجرة المُشتعلة.. كما لن يحرِق لهيب فرعون رَبيع مُوسى القادم..!
تظلّ الشّجرة رغم الّلهيب ؛ مُتعالية.. تلتمِع بِزَيتها كأنَّ النّار طيفٌ عابر !
تُحفِرُ الصّورة في عقْل موسى.. ويظلّ المشهد متقداً في بصيرته.. لا شَيء يعلو على النّور !
تتكثّف الأسرار في البُقعة المُباركة.. وعلى لهيب الصّمت السّخي ؛ يُنصِت مُوسى.. يُدني الله مُوسى اذ يكلّمه.. وتنسِج الملائكة من التّسابيح ثِياب الُّلطف !
هُنا.. يَهب الله النبوّة وِلادتها.. و ترتشِف رُوح موسى مِن الكلمات.. وفجأة تشعُّ ألوان اليَقظة في ثغرِ الوجود، ويُصبح مُوسى نبيّاً !
و في فَضاء الجَلال ؛ يعثر مُوسى على مَفاتيح الخُروج لقومه و يَلتقي بالأَمل..
تتكشّف حِكمة الرّحلة كلّها.. و تشتعل المَعاني في قلبِ موسى.. حيث تَنتهي تَضاريس الشّتات، ويبدأ وعْد التجمّع.. وتولد مَدائن الأَفراح !
عَشر سنوات.. كانت أشبهُ بآلامٍ بيضاء.. ولدت للأمّة نور النّبوة !
في البَدء { وألقيتُ عَليك مَحبّة منّي }، ثمّ { ولتصنَع على عيَني }.. والآن { وكلّم اللهُ موسى تكّليما }.. كانت كلّها أسوار الحماية لموسى التي ظلّ فِرعون بها { مَدحوراً } !
كلّ شيء كان يتسلّسل بخفّة، و يقترب من مَوعد { وجِئتَ على قدرٍ يا مُوسى }..
ما ألطَف الأقدار !
هنا يكلّم الله موسى في حديثٍ مؤنسٍ عجيب ؛ { إنَّني أنا الله }..
عشر سنوات إذن من هدوء الرُّوح ؛ حتى تَحتمل رُوح موسى هذه الّلحظة !
عشر سنوات.. تمدّدت فيها الحُقول في روح موسى ؛ حتّى اخضرت !
{ وما تِلك بيمينك يا مُوسى }..
يا لله.. كيف طاقَ قلبُك أن تسمع اسمك من الله !
يا لله..
كيفَ احتمل الجَسد الكريم ؛ وقعَ الكلمات، ونُور الكلمات، وجَلال الكلمات !
يا لله..
كيفَ فاض الفضل الالهيّ عليك ؛ حتى صِرت وحدَك كليم الله !
يا لله..
كيف يورِق عبد ؛ حتّى يصير جنّة المُستضعفين !
تنمو المَسافات في هنيهة من الزّمن الى الفِردوس.. تَنمو المسافات الى قُرب الله ؛ وفي لَحظة فضل إلهيّة.. يُصبح الراعي نبيّا !
مابَين الأمسِ و زَمن التّكليم ؛ سُويعات.. استَطال بَعدها الفَجر ؛ حتّى صار كلّه عمر موسى !
{ وما تِلك بِيَمينك يا مُوسى }.. يملأُ الله راحتيّ موسى بالبَركة.. فيُثبت فيها الخَير و تُصبح غَيمة !
عَشر سنوات يا موسى.. كانت تَصنع لرُوحك الأقدار منها ؛ مِسك الخلود..
ها أنت تشمّ القُرب في طيّات روحك.. وتَتسامى بالكلمات الى ما بعد المدى !
{ اخلَع نعلَيك }..
يسيرُ موسى حافيا،ً ويكتمل التّجريد..
ينبُت النّعيم تحتَ القدمين.. و ينغمِس موسى في زمنِ الجنّة !
ما أجمَل الماضي ؛ حين يؤُول الى هذا الحاضر !
و سُبحان من غلّف الأحداث بالحِكمة، و جعل في باطنها رَحمة ؛ تَستبين للمُوصلين به دوماً !
أيّها المسلم..
التّكليم مقامٌ عال ؛ يأذَن الله لك بتذوّقه في صلاتِك في سُّورة الفاتِحة.. التي قال عنها ابن القيّم:
(إنّها المِفتاح الأعظم لكنوزِ الأرض، كما أنّها المِفتاحُ لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سرِّ هذه السُّورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً،وأحسنُوا الفتح به ؛ لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ من غير معاوِق، ولا ممانع).
تقرأ السورة ؛ فيكلّمك الله فيها.. اذ تقول { الحَمد لله } ؛ فيقول الله حمدني عبدي..
{ ربّ العالمين } ؛ فيقول اللهُ مجَّدَني عبدي..
فإذا بلغت.. { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } ؛ قال الله.. سألَني عبدي ولِعبدي ماسأل..
ولو فقه العبد.. أن ثمة حديث بينه وبين الله يجري ؛ لانخلع له القلب..
لكنها الغفلة تستبيحنا ؛ حتى نفقد المقامات !
فيا رب.. يا من بلَغت بموسى مَراتب القُرب ؛ أوصِلنا إليك !
مختارات