ألم الجنوح
“الأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها = تشابهت، قدرة من الله تضل فيها الأفهام، فهذا الثلج إذا أدمت حبسه فى اليد فعل فعْل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين”، هكذا كتب ابن حزم.وتجد أن العشق الشديد حين يتناهى قد ينقلب كرهاً وبغضاً حاداً، لشعور العاشق بالألم المضني، ولارتكاس روحه، وتمزقها، الذي يفضي بانتفاض كرامته، ضد من يظن أنه السبب. والحب إذا تناهى كالبغض إذا تناهى، ينشغل الوالغ فيهما بالطرف الآخر، بحيث يملأ عليه حياته. ويواصل ابن حزم القول: " …فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة، وتأكدت بينهما تأكداً شديداً، كثر تهاجرهما بغير معنى وتضادهما في القول تعمداً، وتتبع كل منهما لفظة تقع من صاحبه، وتأولها على غير معناها، كل هذا تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه ". وقد تفعل ذلك بعض الفتيات أو الشباب لا سيما في بداية حياتهما الزوجية، وقد يتسبب هذا الإلحاح في استجلاب واختبار مشاعر الطرف الآخر في ارتباك العلاقة، أو حتى نمو بذور النفور. ومثل هذا يحدث بين الأصدقاء والصديقات، فالتنقير والولع بمعرفة شعور الآخرين لا يكون عادة في مصلحة توطيد العواطف، والإنسان لا تكون مشاعره متوقدة أو فوّارة طوال الوقت، بل تتفاوت، والمزاج تتنوع أحواله، والواحد من الناس يملّ حتى من نفسه أحياناً. وهذا لا يعني التهوين من أثر التعبير المستمر عن الحب، وإنما شجب التتبع والتنقير والطلب المفرط.
ويذكرون في كتب الأدب قصة طريفة تشير إلى بعض هذا المعنى، قيل: قعد أبو الحارث جميز إلى فتاة حسناء فجعلت تحدثه ولا تذكر الطعام. فلما طال ذلك به، قال: ما لي لا أسمع للطعام ذكراً؟ قالت: سبحان الله، أما تستحي! أما في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها: جعلت فداك، لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعة واحدة لا يأكلان، لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه وافترقا!
والمراد أن الشغف بالطرف الآخر لا يلغي بقية الرغبات، ولا تمحو جماليات المحبوب سائر الاهتمامات الأخرى، وليس من العقل مطالبة الشريك بالذوبان في حميمية دائمة.
وكذلك تجد من الشواهد على تماثل الأشياء إذا تناهت أن الانفعال المصاحب للحزن المتناهي يشبه أحياناً الانفعال المصاب للفرح المتناهي، وأيضاً الحرص الشديد على الشيء قد يفسده، وكذا الكرم المفرط كالبخل الشديد، في أن المتصف بأحدهما يغدو كالمملق، وسوى ذلك. وفي عبارة ابن حزم السابقة اعتراف ضمني بحيرته أمام هذه الظاهرة.
والنفس مركبة بحيث لا يصلحها إلا الاعتدال، وكذلك الجسد، والخروج إلى التناهى والتطرف في الظروف والطبائع والأفعال يقع بسببه الفساد.
مختارات