الضجر من البحث والتصنيف
إكتمال المنجز العلمي والبحثي يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد الكفاءة والمهارة العلمية، يحتاج المصابرة والدافعية الكثيفة للمواصلة، والاستمرارية الكادحة، والشغف لبلوغ الخواتيم.
وفي التواريخ والتراجم إشارات لكثيرين لم تنقصهم الموهبة ولكنهم لم يتموا أعمالهم وتصانيفهم وأبحاثهم، لضجر وضيق عطن؛ كما يعبّر القفطي عن ابن الخشاب:”وكان ضيق العطن، ما أكمل تصنيفاً”، ومثله أبو محمد النحوي البغدادي الذي قيل عنه:”كان ضيق العطن ضجوراً، ما صنّف تصنيفاً فكمّله…وكان إذا تكلم على مسألة في النحو منفردة ربما أجاد في بعض الأوقات إذا خلا من ضجره”، بل حتى العلامة عبدالقاهر الجرجاني ذكر عنه مثل هذا الضيق والانصراف عن استكمال الأبحاث، ويعلل القفطي ذلك بقوله:”وأشعاره كثيرة في ذم الزمان وأهله؛ وكان هذا الأمر هو السبب في تقصيره إذا ألّف، إذ لم يجد راحة ممن جمع لهم وألّف”.
وهذه الظاهرة الإنسانية متكررة زماناً ومكاناً، فهذا العالم العبقري والمغمور جون ديزموند برنال ت1971 الذي قال عنه النوبلي جيم واطسون:”لقد كان نطاق قدرات دماغ برنال أسطورياً”، والذي حظي بإشادات عظيمة أخرى، فقد تتبع كاتب سيرته الذاتية تصريحات عديدة لأكثر من عشرة علماء نوبليين يعبرون فيها عن إعجابهم أو إجلالهم لبرنال، وبرغم ذلك لم ينل برنال جائزة نوبل، وبصمته ليست واضحة للعموم في تخصصه، ويحلل الكاتب سي.بي. سنو السبب المركزي لإخفاق برنال في إنجاز عمل علمي إبداعي مكتمل يليق بقدراته الخارقة للعادة، فيقول عنه:”إنه يبلغ منزلة رفيعة في المواهب الطبيعية. إن عدداً هائلاً من الأبحاث العلمية التي أنجزها علماء آخرون لهم اسمهم في جميع أنحاء العالم تدين بأصولها لبرنال، ولكنه عانى من نقص معين في الهواجس التي لدى معظم العلماء، والتي تجعلهم يتابعون إنجاز عمل إبداعي حتى النهاية. لو كان لدى برنال هذا النوع من الهواجس لصقل الكثير من علم البيولوجيا الجزيئية الحديث، ولفاز بجائزة نوبل مرات عديدة!”.
وذات السبب تقريباً لاحظه لورانس كراوس في تعليله لإخفاق ريتشارد فاينمان في حل بعض المشكلات الفيزيائية، يقول:”يرجع ذلك بصورة كبيرة إلى أن فاينمان لم يحاول متابعة الأبحاث السابقة في المجال متابعة كاملة، وهي سمة مزعجة في شخصيته جعلت عدداً من الاكتشافات الأساسية يفوت عليه”.
وهكذا ترى أن المثابرة واستدامة النظر والبحث شرط أساسي في سبيل إتمام عمل مفيد ومكتمل، وهي صفة نفسية تستجلب بالترويض والدربة، وترقّب الثمرة، وباكتشاف الشغف والمحافظة على وهجه طوال الطريق الطويل، والتوفيق من الله وحده.
مختارات
احتفظ بمحتوى الكلم الطيب في جوالك واستمتع بقراءته في أي وقت دون اتصال بالانترنت (تنزيل التطبيق)