قصة صالح عليه السلام نبي ثمود (٢)
وقد ذكر المفسرون أن ثمودًا اجتمعوا يومًا في ناديهم، فجاءَهم رسولُ اللَّه صالحٌ فدعاهم إلى اللَّه وذكَّرهم وحذَّرهم، ووعظهم وأمرَهم.
فقالوا له: إنْ أنتَ أخرجتَ لنا من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صَخْرَةٍ هناكَ- ناقةً من صِفَتها كَيْتَ وكَيْتَ، وذكروا أوصافًا سمَّوها ونعتوها، وتعنَّتوا (١) فيها، وأن تكون عُشَرَاء (٢) طويلةً، من صفتها كذا وكذا.
فقال لهم النبيُّ صالحٌ: أرأيتم إنْ أجبتُكم إلى ما سألتُم، على الوجه الذي طلبتُم أتؤُمنونَ بما جئتكُم به وتصدقوني فيما أُرسلتُ به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودَهم ومواثيقَهم على ذلك، ثمَّ قامَ إلى مُصلَّاه، فصلَّى للَّه ما قُدِّرَ له، ثم دعا ربَّه أن يُجيبَهم إلى ما طلبُوا، فأمرَ اللَّه تلكَ الصَّخرة أن تنفطرَ عن ناقةٍ عظيمةٍ عُشَراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا، أو على الصِّفة التي نَعَتُوا.
فلما عاينُوها كذلك رأوا أمرًا عظيمًا، ومَنْظرًا هائلًا، وقدرةً باهرةً، ودليلًا قاطعًا، وبُرهانًا ساطعًا، فآمنَ كثيرٌ منهم، واستمَّر أكثرُهم على كفرهم وضلالهم وعِنادهم، ولهذا قال: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩] أي: جَحدوا بها ولم يتَّبعوا الحقَّ بسببها، أي: أكثرهم.
وكانَ رئيسَ الذين آمنوا جندعُ بن عمرو بن محلاة بن لَبيد بن جواس، وكان من رؤسائِهم، وهم بقيَّةُ الأشراف بالإسلام، فصدَّهم ذؤابُ بن عمرُو بن لَبيد والخُباب، صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلمس، ودعا جندعُ بْن عمِّه شهاب بن خليفة، وكان من أشرافهم، فهمَّ بالإسلام، فنهاه أولئك، فمال إليهم، فقال في ذلك رجل من المسلمين -يُقالُ له: مهرش بن غنمة بن الذميل-: [من الوافر]
وكانتْ عصبةٌ من آل عمرٍو … إلى دينِ النبيِّ دَعَوْا شِهابا
عزيز ثمودَ كُلهمُ جميعًا … فهمَّ بأنْ يُجيب ولو أجابا
لأصبحَ صالحٌ فينا عزيزًا.
.
وما عَدَلوا بصاحِبهمْ ذؤابا (٣)
ولكنّ الغُواة من آلِ حجْرٍ … تولّوا بعدَ رُشدِهمُ ذئابا (٤)
ولهذا قال لهم صالح: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ [هود: ٦٤] أضافها اللَّه إضافةَ تشريف وتعظيم، كقوله: بيتُ اللَّه، وعبدَ اللَّه ﴿لَكُمْ آيَةً﴾ أي: دليلًا على صدق ما جئتُكم به ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ [هود: ٦٤].
فاتفقَ الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيثُ شاءتْ من أرضِهم، وتردُ الماء يومًا بعد يوم، وكان إذا وردتِ الماءَ تشربُ ماءَ البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعونَ حاجَتهم من الماء في يَومهم لغدِهم، ويُقال: إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتَهم، ولهذا قال: ﴿لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥].
ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ﴾ [القمر: ٢٧] أي اختبارًا لهم، أيؤمنون بها أم يكفرون؟ واللَّه أعلم بما يفعلون: ﴿فَارْتَقِبْهُمْ﴾ أي: انتظر ما يكونُ من أمرهم ﴿وَاصْطَبِرْ﴾ على أذاهم فسيأتيكَ الخبرُ على جَليَّة.
﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ﴾ [القمر: ٢٨].
فلمَّا طالَ عليهم الحالُ هذا، اجتمعَ مَلؤُهم، واتَّفقَ رأيُهم على أن يَعْقِرُوا هذه النَّاقة ليستريحوا منها، ويتوفَّر عليهم ماؤُهم، وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالَهم، قال اللَّه تعالى: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٧٧].
وكان الذي تولَّى قتلَها منهم رئيسُهم قُدَارُ بن سالف بن جندع، وكان أحمرَ أزرقَ أصهبَ، وكان يُقالُ: إنه ولد زانيةٍ، وُلد على فراش سالف، وهو من رجلٍ يُقال له: صبيان.
وكان فعلُه ذلك باتِّفاقِ جميعهم، فلهذا نُسِبَ الفعلُ إليهم كلِّهم.
وذكر ابنُ جرير وغيرُه من علماء المفسرين: أنَّ امرأتين من ثمودَ اسمُ إحداهما: صدوق ابنة الحيا بن زهير بن المختار، وكانت ذاتَ حَسَبٍ ومال، وكانت تحتَ رجلٍ ممن أسلمَ، ففارقته، فدعت ابنَ عمٍّ لها يُقال له: مصرع بن مهرج بن المحيا، وعرضتْ عليه نفسَها إن هو عقرَ النَّاقةَ.
واسم الأخرى عُنيزة بنت غنيم بن مجلز، وتُكنَّى أمَّ عثمان، وكانت عجوزًا كافرةً لها بناتٌ من زوجها ذؤاب بن عمرو، أحد الرؤساء، فعرضتْ بناتِها الأربع على قُدَار بن سالف إن هو عقرَ النَّاقةَ، فله أيُّ بناتها شاءَ، فانتُدبَ هذان الشَّابَّان لعَقْرِها، وسَعَوْا في قومِهم بذلك، فاستجابَ لهم سبعةٌ آخرونَ، فصَاروا تسعةً، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [النمل: ٤٨].
وسَعَوْا في بقيَّة القبيلةِ، وحسَّنوا لهم عقرَها، فأجابوهم إلى ذلك، وطاوعُوهم في ذلك، فانطلقوا يرصُدُون النَّاقةَ، فلما صدرتْ من وِرْدها (٥) كمَنَ لها مصرعٌ، فرماها بسهم، فانتظمَ عظمَ ساقِها، وجاء النساء يزمرن (٦) القبيلة في قتلها وحسرنَ (٧) عن وجُوهِهنَّ، ترغيبًا لهم في ذلك، فابتدرَهم قُدارُ بن سالف، فشدَّ عليها بالسيف فكشفَ عن عرقوبها (٨)، فخرَّت ساقطةً إلى الأرض، ورغت (٩) رغاةً واحدةً عظيمة تُحذِّرُ ولدَها، ثم طعن في لبَّتِها (١٠)، فنحرَها، وانطلقَ سَقْبُها -وهو فصيلُها (١١) - فصَعِدَ جبلًا منيعًا، ورغا ثلاثًا.
وروى عبد الرزاق: عن معمر، عمَّن سمع الحسنَ؛ أنه قال: يا ربِّ أينَ أُمِّي؟ ثم دخلَ في صَخْرةٍ، فغابَ فيها.
ويُقال: بل اتَّبَعُوه، فعقروه أيضًا.
قال اللَّه تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: ٢٩ - ٣٠].
وقال تعالى: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ [الشمس: ١٢ - ١٣] أي: احدْرُوها فكذَّبُوه فعقروها ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس: ١٤ - ١٥].
قال الإمام أحمد: حدَّثنا عبدُ اللَّه بن نُمَيْر، حدَّثنا هشام -هو ابن عُروة- عن أبيه، عن عبد اللَّه بن زمعة، قال: خطبَ رسولُ اللَّه ﷺ فذكر النَّاقة، وذكر الذي عقرَها، فقال: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس: ١٢] انبعثَ لها رجلٌ عَارمٌ عزيزٌ منيع في رهطه، مثل ابن زمعة.
أخرجاه من حديث هشام به.
عارم: أي: شهمٌ عزيز، أي: رئيس منع، أي: مطاع في قومه.
وقال محمد بن إسحاق: حدَّثني يزيدُ بن محمد بن خثيم، عن محمد بن كعب، عن محمد بن خُثيم، عن يزيد، عن عمَّار بن ياسر، قال: قال رسول اللَّه ﷺ لعلي: "ألا أُحدثّك بأشقى الناس؟ " قال: بلى.
قال: رجلان أحدُهما أُحيمرُ ثمود الذي عقرَ النَّاقة، والذي يضربُكَ يا عليٌّ على هذا -يعني: قَرْنه- حتى تَبْتلَّ منه هذه -يعني لحيته-" رواه ابن أبي حاتم.
(١) "تعنتوا": تشدَّدوا.
(٢) "عشراء": الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر.
(٣) "ذؤابا": الذؤاب: أعلى كل شيء وذروته.
(٤) كذا في الأصل، وفي المطبوع ذآبا، وفي بعض النسخ: ذبابًا.
(٥) صدرت من وردها: ارتوت ورجعت.
(٦) في الأصل: يذمون - ويذمرن: يحضُّنَّ ويُشجعنَّ على القتال.
(٧) وحَسَرْنَ: كشفن الغطاء عن وجوههنَّ.
(٨) عُرْقوبها: ما يكون في رجل الدابة بمنزلة الركبة في يدها.
(٩) رغتْ: صوتت وضجَّت، والرُّغاء: صوت الإبل.
(١٠) لَبَّتُهَا: اللبَّة: موضع القلادة من العنق.
(١١) فصيلُها: الفصيل: ابن الناقة.
مختارات