أحاديث عشر ذي الحجة وأيام التشريق أحكام وآداب
الحث على قِصَرِ الأمل في الدنيا
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبيَّ فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ) أخرجه البخاري .
* * *
الحديث دليل على وجوب اغتنام الأوقات ، والحث على قِصَرِ الأمل ، وتقديم التوبة والاستعداد للموت ، وهذا الحديث من أبلغ الكلام في التذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا ، وذلك أن الدنيا فانية ، مهما طال عمر الإنسان فيها ، فهي دار ممر لا دار مقر ، وكل نفس ذائقة الموت ، وهذه حقيقة مشاهدة ، نراها كلَّ يوم وليلة ، ونحس بها كلَّ ساعة ولحظة ، وإذا كان الإنسان لا يدري متى ينتهي أجله ويأتيه الموت فعليه أن يستعد للرحيل ، وأن يكون عابر سبيل ، فلا يركن إلى الدنيا ولا يتعلق بها ولا يتخذها وطناً ولا تحدثه نفسه بالبقاء فيها ، فلا يتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه الذي سيفارقه مهما تكن راحته وهناؤه ، وأن يكون فيها كالمسافر الذي يكتفي بسفره بالقليل الذي يساعده على بلوغ غايته وتحقيق مقصده .
ولقد أدرك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم إدراكاً علمياً وعملياً ، وأخذ منه هذه الوصايا الثلاث العظيمة :
الأولى :« إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء » ومعنى ذلك : حث المؤمن على قِصَرِ الأمل في هذه الحياة ، وأنه ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح ، وإذا أصبح لا ينتظر المساء ، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك .
الوصية الثانية : « وخذ من صحتك لمرضك » والمعنى : أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم أوقات الصحة وسلامة البدن من العلل ، وذلك بفعل الخير والإكثار من الطاعات ، قبل أن يحول بينه وبينها السُّقْمُ ، فيعجز عن الصيام والقيام وسائر الأعمال ، إذا اعتراه مرض أو علة أو كِبَرٌ .
الوصية الثالثة : « ومن حياتك لموتك » والمعنى : أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم زمن الحياة وساعات العمر بتقديم الزاد ، ولا يفرط حتى يدركه الموت ، ويحول بينه وبين الأعمال الصالحة .
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) أخرجه البخاري .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه : ( اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) أخرجه الحاكم وصححه .
فالواجب علينا ونحن نستقبل عاماً جديداً أن نغتنم الأوقات ، ونبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بيننا وبينها ، إما بشغل أو مرض أو موت .
اللهم أيقظنا لتدارك بقايا الأعمار ، ووفقنا للتزود من الخير والاستكثار ، اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الآمال ، وذكِّرنا قربَ الرحيل ودنوَّ الآجال ، وثبت قلوبنا على الإيمان ، ووفقنا لصالح الأعمال ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
الاعتبار بمرور الأيام والأعوام
قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ }[آل عمران/190] وقال تعالى : {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }[يونس/6] وقال تعالى :{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ}[النور/44] .
* * *
في هذه الآيات الكريمات يخبر الله تعالى عن الآيات الكونية الدالة على كمال علمه وقدرته ، وتمام حكمته ورحمته ، ومن ذلك اختلاف الليل والنهار ، وذلك بتعاقبهما ، واختلافهما بالطول والقصر ، والحر والبرد والتوسط ، وما فيس ذلك من المصالح العظيمة لكل ما على الأرض ، وكل ذلك من نعم الله تعالى ورحمته بخلقه ، الذي لا يدركه إلا أصحاب العقول السليمة والبصائر النَّيِّرة ، الذين يدركون حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، ويدركون ما في تعاقب الشهور والأعوام ، وتوالي الليالي والأيام .
والله تعالى جعل الليل والنهار خزائن للأعمال ، ومراحل للآجال ، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر ، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات ، وتنشيطهم على الطاعات ، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان/62] .
وينبغي للمؤمن أن يأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام ، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد ، ويقرِّبان كل بعيد ، ويطويان الأعمار ، ويشيِّبان الصغار ، ويفنيان الكبار ، وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة .
فالسعيد - والله - من حاسب نفسه ، وتفكر في انقضاء عمره ، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه ، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته ، وعَظُمَ فواته ، واشتدت حسراته ، نعوذ بالله من التفريط والتسويف .
ونحن في هذه الأيام نودِّع عاماً ماضياً شهيداً ، ونستقبل عاماً مقبلاً جديداً ، فعلينا أن نحاسب أنفسنا ، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات ، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه ، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل ، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات .
وليست هذه المحاسبة مقصورة على هذه الأيام ، بل هي مطلوبة كل وقت وأوان فمن لازَمَ محاسبة النفس استقامت أحواله ، وصلحت أعماله ، ومن غفل عن ذلك ساءت أحواله ، وفسدت أعماله .
ومما يؤسف عليه أن كثيراً من الناس إذا بدأ العام يَعِدُ نفسه بالجد والعزيمة الصادقة لإصلاح حاله ، ثم يمضي عليه اليوم بعد الأيام والشهر بعد الشهور ، وينقضي العام وحاله لم يتغير ، فلم يزدد من الخيرات ولم يتب من السيئات ، وهذه علامة الخيبة والخسران .
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها ، وخير أعمارنا آخرها ، وخير أيامنا يوم لقائك ، اللهم أعزَّ المسلمين بطاعتك ، ولا تذلهم بمعصيتك ، اللهم اجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وعزٍّ ونصر للإسلام والمسلمين ، وأسبغ علينا نعمك ، وارزقنا شكرها ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
فضل أيام التشريق
عن نُبَيْشَةَ الهذلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب ) وفي رواية : ( وذكر لله عز وجل ) أخرجه مسلم .
* * *
الحديث دليل على فضل أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ، سميت بذلك لأن الناس يُشَرِّقُونَ فيها لحوم الأضاحي والهدايا ، أي : يقددونها وينشرونها لِتَجِفَّ .
وهي من الأيام الفاضلة والمواسم العظيمة ، وهي الأيام المعدودات المذكورة في قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } [البقرة/203] ولا خلاف في ذلك كما نقله غير واحد .
وقد دل هذا الحديث على أمرين :
الأول : أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وإظهار للفرح والسرور والتوسعة على الأهل والأولاد بما يحصل لهم من ترويح البدن وبسط النفس مما ليس بمحظور ولا شاغل عن طاعة الله تعالى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام ) .
ولا مانع من التوسع في الأكل والشرب ولا سيما اللحم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها أيام أكل وشرب ، ما لم يصل ذلك إلى حد الإسراف والتبذير ، أو التهاون بنعم الله تعالى .
الأمر الثاني : أن هذه الأيام أيام ذكر لله تعالى ، وذلك بالتكبير عقب الصلوات وفي كل الأوقات والأحوال الصالحة لذكر الله تعالى ، ومن ذلك ذكر الله تعالى على الأكل والشرب بتسمية الله في أوله ، وتحميده في آخره ، وإن كان هذا عاماً في كل وقت لكنه متأكد فيها .
فعلى المسلم أن يحذر الغفلة عن ذكر الله تعالى ، فيكون قد أخذ أول الحديث وترك آخره ، وعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بالطاعة وفعل الخير ، ولا يضيعها باللهو واللعب ، كما عليه كثير من الناس في زماننا هذا ، من السهر وتفويت الصلاة المفروضة عن وقتها ، وقتل الوقت ، والاستعانة بنعم الله على معاصيه ، والعكوف على آلات اللهو والطرب .
واعلم أنه لا يجوز صيام أيام التشريق فمن وافق عادته يوم الخميس فلا يصومه ، وكذا أيام البيض فلا يصوم الثالث عشر ، ويستثنى من ذلك المتمتع الذي لم يجد الهدي ، لما ورد عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا : ( لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي ) أخرجه البخاري .
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها ، وخير أعمالنا خواتمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك ، وتوفنا وأنت راضٍ عنا ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
شعائر يوم العيد
عن عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القَرِّ ) أخرجه أبو داود بإسناد جيد.
* * *
الحديث دليل على فضل يوم النحر وأنه أعظم الأيام عند الله تعالى وهو يوم الحج الأكبر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يوم الحج الأكبر يوم النحر ) أخرجه أبو داود بسند صحيح .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يومُ عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق ، عيدنا أهلُ الإسلام … ) أخرجه أصحاب السنن إلا ابن ماجة بإسناد صحيح
وعيد النحر أفضل من عيد الفطر ، لأن عيد النحر فيه الصلاة والذبح ، وذلك فيه الصدقة والصلاة ، والنحر أفضل من الصدقة ، كما أن يوم النحر يجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم .
وفي هذا اليوم وظائف نرتبها كما يلي :
1 - الخروج إلى مصلى العيد على أحسن هيئة ، متزيناً بما يباح ، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يترك التنظف والتزين حتى يذبح أضحيته ، كما يفعله بعض الناس ، ويبكر إلى المصلى ، ليحصل له الدنو من الإمام ، وفضل انتظار الصلاة.
2 - يسن التكبير في طريقه إلى المصلى حتى يخرج الإمام للصلاة ، وإذا شرع الإمام في الخطبة ترك التكبير ، إلا إذا كبر فيكبر معه .
3 - تسن مخالفة الطريق ، وهو أن يذهب من طريق ويرجع من آخر ، لما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ) أخرجه البخاري .
4 - يسن في عيد الأضحى ألا يأكل شيئاً حتى يصلي ، لما ورد عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَمَ ، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي ) أخرجه الترمذي .
5 - صلاة العيد سنة مؤكدة يحرص المسلم على أدائها ، وينبغي حث الأولاد على حضورها ، حتى الصبيان ، إظهاراً لشعائر الإسلام ، ومن أهل العلم من قال بوجوبها .
6 - بعد الصلاة والخطبة يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، ويأكل منها ، ويهدي للأقارب والجيران ، ويتصدق على الفقراء ، ويجوز ادخار لحوم الأضاحي ، وأما النهي عن الادخار وعن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث فهو منسوخ على قول الجمهور ، ويرى بعض أهل العلم أنه غير منسوخ بل متى وجد بالناس حاجة حرم الادخار .
ولا تجوز الاستهانة بلحوم الأضاحي أو رَمْيُ ما يحتاج منها إلى تنظيف بحجة مشقة تنظيفه ، بل من تمام الشكر الاستفادة منها كلِّها أو إعطائها من يستفيد منها ولو كلف ذلك جهداً .
7 - لا بأس بالتهنئة بالعيد ، وتجب زيارة الوالدين والأقارب ، وزيارتهم تقدم على زيارة الاخوة في الله ، لأن الواجب على المسلم أن يبدأ بمن حقهم آكد وصلتهم أو جب .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
بعض المسائل المتعلقة بالأضحية
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أربع لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية : لا تجزيء - العوراء البين عَورُها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظَلَعُها ، والكسيرة التي لا تُنْقِي) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، وقال الترمذعن أنس رضي الله عنه قال : ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسَمَّى وكَبَّرَ ، ووضع رجله على صِفَاحِهِمَا ) أخرجه البخاري ومسلم .
* * *
الحديث دليل على مسائل تتعلق بالأضحية ، نوجز أهمها فيما يلي :
1 - أن الأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء ، لأنه { وأصحابه كانوا يضحون عن أنفسهم وأهليهم ، وأما تخصيصها بالأموات دون الأحياء ، كما يفعله بعض الناس فلا أصل له ، إلا إن كانت وصية فإنها تنفذ ، والسنة أن يضحي الإنسان عن نفسه وأهل بيته ويُشْرِكُ معه من شاء من الأموات في ثوابها، وفضل الله واسع .
2 - أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى ، لأنه { ضحى بكبشين ، لأن لحمه أطيب ، مع جواز التضحية بالأنثى بالإجماع .
3 - استحباب التضحية بالأقرن ، وأنه أفضل من الأجم - وهو ما لا قرن هل - مع جواز التضحية بالأجم اتفاقاً ، وهو ما لا قرن له .
4 - مشروعية استحسان الأضحية صفةً ولوناً ، وذلك بأن تكون سمينة حسنة ، وأحسنها الأملح ، والمراد به : الأبيض الخالص البياض ، أو ما بياضه أكثر من سواده ، وهذا من تعظيم شعائر الله تعالى ، قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج/32] وقال تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }[الحج/36] فتعظيم البدن من تعظيم شعائر الله ، قال ابن عباس : ( الاستسمان ، والاستحسان ، والاستعظام ) .
5 - استحباب أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح ، لأن الذبح قربة ، قال البخاري : ( أمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهم ) فإن لم يحسن استناب مسلماً عالماً بشروط الذبح ، وحضر ذبحها ، لأن النبي استناب علياً في ذبح ما بقي من بُدْنِهِ في حجة الوداع.
6 - أن من أراد أن يضحي بعدد فالأفضل ذبحها في يوم العيد ، والتفريق في أيام النحر جائز ، وفيه نفع للمساكين ، ويستمر الذبح إلى آخر الثالث عشر على الراجح من قولي أهل العم .
7 - مشروعية التسمية والتكبير عند ذبح الأضحية ، فيقول : ( بسم الله ، والله أكبر ) أما التسمية فواجبة ، وأما التكبير فمستحب ، ولا يسن الزيادة على ذلك لعدم وروده ، إلا الدعاء بالقبول ، ولا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع ، لأنه غير لائق في هذا المقام .
ولابد أن تكون التسمية عند الذبح فلو وقع فاصل طويل أعادها ، إلا إذا كان الفصل لتهيئة الذبيحة وأخذ السكين ، والمعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه ، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية ، وأما تغيير الآلة فلا يؤثر على التسمية .
اللهم تقبل طاعاتنا ، وتجاوز عن تقصيرنا ، اللهم ارزقنا علماً نافعاً ، وعملاً متقبلاً ، ورزقاً طيباً ، اللهم أجب دعاءنا ، وحَقِّقْ رجاءنا ، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ي : حديث حسن صحيح. .
* * *
الحديث دليل على أن هذه العيوب الأربعة مانعة من صحة الأضحية ، وبقاس عليها غيرها مما هو أشد منها أو مساوياً لها .
الأولى : العوراء البين عورها : وهي التي انخسفت عينها أو برزت ، فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها ، لأن عورها غير بين ، ويلحق بالعوراء العمياء من باب أولى ، فإنها لا تجزيء وإن لم تنخسف عينها ، لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقاتها ويمنعها من المشاركة في العلف .
الثانية : المريضة البين مرضها : وهي التي ظهرت عليها آثار المرض الذي يُقْعِدُهَا عن الرعي مما يسبب لها الهزال ، ومن ذلك الجَرَبُ الظاهر ، لأنه يفسد اللحم والشحم .
الثالثة : العرجاء البين ظَلَعُهَا : أي عَرَجُهُا ، والضَّلَعُ بفتح الظاء واللام هو الغَمْزُ ، فالعرجاء هي التي تَغْمِزُ في يدها أو رجلها خلقة أو لعلة طارئة ، والبين عرجها هي التي تتخلف عن القطيع .
ويلحق بها الزَّمْنَى وهي العاجزة عن المشي لعاهة ، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها ، وكذا مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين ، لأنها أولى من العرجاء ، ولأنها ناقصة في عضو مقصود .
الرابعة : الكسيرة التي لا تُنقي : أي لا نِقْيَ لها ، والنِّقْيُ - بكسر النون وسكون القاف - : هو المخ ، أي : التي لا مخ فيها لضعفها .
فإن كان العيب يسيراً فهو معفو عنه ، كما لو كان في عينها نقطة يسيرة أو العرج يسيراً لا يؤدي بها إلى القعود عن القطيع فإنها تجزئ ، وكذا المهزوله التي ليست غاية في الهزال .
وقد دل الحديث بمفهومه على أن ما عدا العيوب الأربعة وما في معناها لا يمنع الإجزاء ، وذلك لأن الحديث خرج مخرج البيان والحصر ، لأنه جواب سؤال ، والظاهر أنه كان حال خطبة وإعلان ، لقول البراء : ( قام فينا ) ولو كان غير الأربعة مانعاً من الإجزاء للزم ذكره ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
ولا يضر الكي ولا شق الأذن ولا خرقها ولا كسر القرن ، لأن ذلك لا ينقص لحمها ، ولأنه يكثر وجوده ، والسليمة من ذلك أولى .
ولا تجوز التضحية بمقطوع الألية ، لأن ذلك نقص بين في جزء مقصود ، أما إذا كانت من نوعٍ لا ألية له بأصل الخلقة فإنها تجزئ .
اللهم أعذنا من أسباب المخالفة والعصيان ، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا ، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرَّنا ، وما أسررنا وما أعلنّا ، وما أنت أعلم به منا ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
العيوب المانعة من الإجزاء
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أربع لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية : لا تجزيء - العوراء البين عَورُها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظَلَعُها ، والكسيرة التي لا تُنْقِي) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح. .
* * *
الحديث دليل على أن هذه العيوب الأربعة مانعة من صحة الأضحية ، وبقاس عليها غيرها مما هو أشد منها أو مساوياً لها .
الأولى : العوراء البين عورها : وهي التي انخسفت عينها أو برزت ، فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها ، لأن عورها غير بين ، ويلحق بالعوراء العمياء من باب أولى ، فإنها لا تجزيء وإن لم تنخسف عينها ، لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقاتها ويمنعها من المشاركة في العلف .
الثانية : المريضة البين مرضها : وهي التي ظهرت عليها آثار المرض الذي يُقْعِدُهَا عن الرعي مما يسبب لها الهزال ، ومن ذلك الجَرَبُ الظاهر ، لأنه يفسد اللحم والشحم .
الثالثة : العرجاء البين ظَلَعُهَا : أي عَرَجُهُا ، والضَّلَعُ بفتح الظاء واللام هو الغَمْزُ ، فالعرجاء هي التي تَغْمِزُ في يدها أو رجلها خلقة أو لعلة طارئة ، والبين عرجها هي التي تتخلف عن القطيع .
ويلحق بها الزَّمْنَى وهي العاجزة عن المشي لعاهة ، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها ، وكذا مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين ، لأنها أولى من العرجاء ، ولأنها ناقصة في عضو مقصود .
الرابعة : الكسيرة التي لا تُنقي : أي لا نِقْيَ لها ، والنِّقْيُ - بكسر النون وسكون القاف - : هو المخ ، أي : التي لا مخ فيها لضعفها .
فإن كان العيب يسيراً فهو معفو عنه ، كما لو كان في عينها نقطة يسيرة أو العرج يسيراً لا يؤدي بها إلى القعود عن القطيع فإنها تجزئ ، وكذا المهزوله التي ليست غاية في الهزال .
وقد دل الحديث بمفهومه على أن ما عدا العيوب الأربعة وما في معناها لا يمنع الإجزاء ، وذلك لأن الحديث خرج مخرج البيان والحصر ، لأنه جواب سؤال ، والظاهر أنه كان حال خطبة وإعلان ، لقول البراء : ( قام فينا ) ولو كان غير الأربعة مانعاً من الإجزاء للزم ذكره ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
ولا يضر الكي ولا شق الأذن ولا خرقها ولا كسر القرن ، لأن ذلك لا ينقص لحمها ، ولأنه يكثر وجوده ، والسليمة من ذلك أولى .
ولا تجوز التضحية بمقطوع الألية ، لأن ذلك نقص بين في جزء مقصود ، أما إذا كانت من نوعٍ لا ألية له بأصل الخلقة فإنها تجزئ .
اللهم أعذنا من أسباب المخالفة والعصيان ، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا ، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرَّنا ، وما أسررنا وما أعلنّا ، وما أنت أعلم به منا ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ذِكْرُ شيءٍ من أحكام الأضحية
عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تذبحوا إلا مُسِنَّةً إلا أن يَعْسُرَ عليكم ، فتذبحوا جَذَعَةً من الضأن ) أخرجه مسلم .
* * *
الحديث دليل على أن شرط صحة الأضحية أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً ، لقوله : ( لا تذبحوا إلا مسنة ) والمسنة : بضم الميم ، وكسر السين ، والنون المشددة ، وهي الكبيرة بالسن ، فمن الإبل ما تم له خمس سنين ، ومن البقر ما تم له سنتان ، ومن الغنم ما تم له سنة ، وهذا هو الثني من بهيمة الأنعام .
ويستثنى من الغنم الضأن فتجوز التضحية به إذا كان جذعاً ، وهو ما تم له ستة أشهر ، وظاهر الحديث أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا عند تعسر المسنة إما بفقدها أو العجز عن ثمنها ، لكن حمله الجمهور على الاستحباب ، فقالوا تجزئ الجذعة من الضأن ولو مع وجود الثنية ، لأدلة أخرى تدل بمجموعها على جواز التضحية بالجذع .
وإذا اشترى الإنسان الأضحية عَيَّنَهَا إما باللفظ ، كقوله : ( هذه أضحية ) أو بذبحها يوم العيد بنية الأضحية ، ولو لم يتلفظ بذلك قبل الذبح ، وأما الشراء بنية الأضحية فهو موضع خلاف بين العلماء .
فإذا عينها ترتب عليها الأحكام الآتية :
1 - أنه لا يجوز بيعها ، ولا هبتها ، ولا إبدالها إلا بخير منها ، وإذا مات من عينها ذُبحت عنه ، وقام ورثته مقامه في الأكل والصدقة والهدية .
2 - إذا حصل لها عيب يمنع الإجزاء ، كَعَرَجٍ بَيِّنٍ ، فإن كان بتفريط منه لزمه إبدالها بسليمة ، وإن كان بدون تفريط منه ذبحها وأجزأت .
3 - إذا ضاعت أو سرقت فإن كان بتفريط منه لزمه بدلها ، وإن لم يكن بتفريط منه فلا شيء عليه ، ومتى وجدها ذبحها ولو فات وقت الذبح ، وعمل بها كما يعمل لو ذبحت أيام النحر .
4 - لا يجوز بيع شيء منها ، أما ما أهدي إليه أو تُصدِّق به عليه من لحم الأضحية فله التصرف فيه بما شاء من إهداء أو بيع ، لأنه مَلَكَهُ ملكاً تاماً ، لكن لا يبيعه على من أهداه أو تصدق به .
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه ، ما علمنا منه وما لم نعلم ، ونعوذ بك من الشر كلِّه ما علمنا منه وما لم نعلم ، وجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء ، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ..
الترغيب في الأضحية وبيان فضلها
عن أنس رضي الله عنه قال : ( ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين … الحديث ) أخرجه البخاري ومسلم .
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : ( أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي ) أخرجه أحمد والترمذي ، وسنده حسن .
* * *
في الحديثين دليل على مشروعية الأضحية والترغيب فيها والحث على فعلها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً على وجه الطاعة والقربة ولم يكن مختصاً به كان ذلك مستحباً في حق أمته على أرجح الأقوال .
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الأضحية أو كونها سنة مؤكدة ، والأحوط للمسلم أن لا يترك الأضحية مع قدرته عليها ، لأن أداءها هو الذي يتعين به براءة ذمته ، والخروجُ من عهدة الطلب أحوطُ ، وأما غير القادر الذي ليس عنده إلا مؤنة أهله فإن الأضحية لا تلزمه ، ومن كان عليه دين فإنه يقدمه على الأضحية لوجوب إبراء الذمة عند الاستطاعة.
وأما الاقتراض لشراء الأضحية ، فإن كان الإنسان يرجو وفاءً ، كمن له مرتب أو نحوه فإنه يقترض ويضحي ، وإن كان لا يرجو وفاءً ، فإنه لا يقترض لئلا يشغل ذمته بشيء لا يلزمه في مثل حاله .
فعلى الإنسان أن يضحي عن نفسه وأهل بيته ، فيشركهم في ثواب الأضحية لينال بذلك عظيم الأجر امتثالاً لأمر الله تعالى ، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عن نفسه وأهل بيته .
وفي الأضحية إحياءُ سنةِ أبينا إبراهيم عليه السلام ، وفيها تقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم ، وفي الأضحية توسعة على الأهل والفقراء يوم العيد ، والإهداء لذوي القربى والجيران .
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها ، لما فيها من تعظيم الله تعالى بذبحها تقرباً إليه ، وإظهارَ شعائرِ دينه ، وغير ذلك من المصالح التي تربو على مصلحة الصدقة بثمنها .
وإذا كان المقصود بالأضحية هو الذبح تقرباً إلى الله ، فإنه ينبغي للإنسان أن يذبح أضحيته في بيته ، وأن يأكل منها ، ويطعم ، قال تعالى عن الهدي : {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [الحج/28] والمراد به : شديدُ الحاجة ، المعدمُ من المال .
وعليه فلا أرى نقل الأضحية إلى البلاد التي تظهر فيها الحاجة بأن يرسل دراهم ليضحى بها عنه ، لأمرين :
الأول : أن الأضحية شعيرة من شعائر الدين التي تتعلق بالإنسان ، وفي ذبحها في البيت إحياء لهذه الشعيرة ، وإدخال السرور على الأهل والأولاد ، وإرسالها يفوت ذلك .
الثاني : أنه بإمكان الإنسان القادر أن يبعث إلى تلك البلاد دراهم أو أطعمة أو أكسية أو نحو ذلك وقد يكون نفعها أكثر من لحم الأضحية .
اللهم رحمتك نرجو ، فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأصلح لنا شأننا كله ، لا إله إلا أنت ، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
فضل الحج المبرور وصفته
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) أخرجه البخاري ومسلم .
* * *
الحديث دليل على فضل الحج المبرور وعظيم جزائه عند الله تعالى ، حيث إن صاحبه يكون من الفائزين برضوان الله وجنته .
وعن أبي هريرة - أيضاً - قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أفضل ؟ قال : ( إيمان بالله ورسوله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( حج مبرور ) متفق عليه .
والحج المبرور له أوصاف :
الأول : أن تكون النفقة من مال حلال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً … ) أخرجه مسلم .
الثاني : إخلاص العمل لله تعالى ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث : البعد عن المعاصي والآثام ، والبدع والمخالفات .
الرابع : حسن الخلق ، ولين الجانب ، والتواضع في مركبه ومنزله ، في تعامله مع الآخرين ، وفي جميع أحواله ، كما كان عليه النبي في حجته ، قال ابن عبد البر - رحمه الله - : (الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ، ولا رفث ولا فسوق ، ويكون بمال حلال … ).
ومما يتأكد في حق الحاج أن يعظم شعائر الله تعالى ، ويستشعر فضل المشاعر وقيمتها ، فيؤدي مناسكه على صفة التعظيم والإجلال والمحبة والخضوع لله رب العالمين ، وعلامة ذلك أن يؤدي شعائر الحج بسكينة ووقار ، ويتأنى في أفعاله وأقواله ، ويحذر العجلة التي عليها كثير من الناس في هذا الزمان ، ويُعَوِّد نفسه الصبر في طاعة الله تعالى ، فإن هذا أقرب إلى القبول وأعظم للأجر .
وقد حث الله تعالى عباده على تعظيم شعائره وإجلالها ، وحفظ حرماته وصيانتها ، فقال تعالى : { ذلِك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج/30] وقال تعالى : { ذلِك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ْ} [الحج/32] .
والمراد بحرمات الله : كل ما له حرمة ، وأُمِرَ باحترامه ، من عبادة أوغيرها ، ومن ذلك المناسك كلها ، والحرم ، والإحرام …
وشعائر الله : أعلام الدين الظاهرة ، ومنها المناسك كلها ، كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة/158] .
فتأمل - أخي المسلم – ذلك ، فإن الله تعالى جعل تعظيم شعائره ركن التقوى وشرط العبودية ، وجعل تعظيم حرماته سبيلاً لنيل العبدِ ثوابَ الله تعالى وجزيل عطائه .
ومن تأمل في حجة النبي ونظر فيها نظر المستفيد المتأسي لاح له تعظيم شعائر الله بأبرز صُوَرِهِ ، وأوضح معانيه ، في جميع أقواله وأفعاله ، صلوات الله وسلامه عليه .
اللهم اجعل عملنا صالحاً ، ولوجهك خالصاً ، ووفقنا لما تحب وترضى ، واحشرنا في زمرة المتقين ، وألحقنا بعبادك الصالحين ، واغفر لنا ولوالدين ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
فضل الحج وما ينبغي للحاج أن يتصف به
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه ) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي لفظ لمسلم : ( من أتى هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع كما ولدته أمه ) .
* * *
الحديث دليل على فضل الحج وعظيم ثوابه عند الله تعالى ، وأن الحاج يرجع من حجه نقياً من الذنوب ، طاهراً من الأدناس ، كحاله يوم ولدته أمه ، إذا تحقق له وصفان :
الأول : قوله : ( فلم يَرْفُثْ ) وهو بضم الفاء ، مضارع رَفَثَ ، والرَّفَثُ - بفتح الراء والفاء - : ذِكْرُ الجماع ودواعيه إما إطلاقاً ، وإما في حضرة النساء بالإفضاء إليهن بجماع أو مباشرة لشهوة .
الوصف الثاني : ( ولم يَفْسُقْ ) أي : ولم يخرج عن طاعة الله تعالى بفعل المعاصي ، ومنها محظورات الإحرام ، قال تعالى : فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة/197] والمعنى : فمن أوجب فيهن الحج على نفسه بأن أحرم به فليحترم ما التزم به من شعائر الله ، وَلْيَنْتَهِ عن كل ما ينافي التجردَ لله تعالى وقَصْدَ بيته الحرام ، فلا يرفث ولا يفسق ولا يخاصم أو ينازع في غير فائدة ، لأن ذلك يخرج الحج عن الحكمة منه ، وهي الخشوع لله تعالى والاشتغال بذكره ودعائه .
فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن يحرصوا على تحقيق أسباب هذه المغفرة الموعود بها ، وذلك بأن يستقيموا على طاعة الله تعالى ، وأن يحفظوا حجهم ، ويصونوه عما حرم الله عليهم من الرفث والفسوق والجدال ، وأن يحذروا كل الحذر من الذنوب والمعاصي التي يتساهل بها كثير من الناس في زماننا هذا ، فإنها منهي عنها في جميع الأوقات والأحوال ، ولكنه خَصَّ ذلك بحالة الحج لشرف الزمان والمكان وعِظَمِ حرمات الله تعالى ، فإن المتلبس بالحج يكون أولاً في إحرام ثم تزداد عليه الحرمة بدخوله في الحرم ، ثم تزداد بمزاولته أعمال الحج ، فوجب عليه أن يكون على أَتَمِّ صفة وأحسنِ حال .
ويجب على من عزم على الحج أن يعرف أحكامه وصفة أدائه ، فيعرف صفة الإحرام ، وكيفية الطواف ، وصفة السعي ، وهكذا بقية المناسك ، لأن شرط قبول العمل : أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى ، وموافقاً لما شرعه في كتابه أو على لسان نبيه ، ليعبد المؤمن ربه على بصيرة ، ويحقق متابعة النبيصلى الله عليه وسلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( لتأخذوا مناسككم ) أخرجه مسلم.
ووسيلة ذلك أن يسأل أهل العلم عن كيفية أداء المناسك ، أو يقرأ في كتب المناسك – إن كان ممن يقرأ ويفهم – أو يصحب رفقة فيهم طالب علم يستفيد منه .
ومن الناس من يقع في الخطأ في أداء هذه الشعيرة العظيمة ، كصفة الإحرام أو صفة الطواف أو السعي أو غيرها لأسباب :
1- الجهل بأحكام المناسك .
2- عدم سؤال أهل العلم الموثوق بعلمهم وورعهم .
3- سؤال من ليس من أهل العلم .
4- تقليد الناس بعضهم بعضاً .
اللهم وفقنا لما يرضيك ، وجنبنا معاصيك ، واجعلنا من عبادك الصالحين ، وحزبك المفلحين ، واعف عنا ، وتب علينا ، واغفر لنا ولوالدينا ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
وجوب الحج والمبادرة به
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ) أخرجه البخاري ومسلم .
* * *
الحديث دليل على وجوب الحج وأنه ركن من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً ، قال تعالى : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران/97] .
ومن فضل الله تعالى ورحمته وتيسيره أن الحج فَرْضٌ مرةً في العمر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الحج مرةً ، فمن زاد فهو تطوع ) أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي ، وإسناده صحيح (2) .
يجب على المسلم المبادرة بالحج إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع ، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له من الموانع .
وقد ورد عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرِضُ له ) أخرجه أحمد.
وقد وردت عدة أحاديث مفادها وجوب المبادرة والسعي لأداء فريضة الحج ، ولا يخلوا شيء منها من مقال في سنده ، لكنها مع تعددها واختلاف طرقها تدل على وجوب الحج على الفور ، وتعتضد بآيات من كتاب الله تعالى ، لقوله جل وعلا : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ [آل عمران/133] ، وقوله تعالى : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة/148] .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يبادر إلى أداء هذا الركن العظيم متى استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وعلى المستطيع من الآباء والأولياء العمل على حَجِّ من تحت ولايتهم من الأبناء والبنات وغيرهم ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ ، وكلكم مسئول عن رعيته ) متفق عليه .
ويتأكد ذلك في حق البنت قبل زواجها ، لأن حجها قبل أن تتزوج سهل وميسور ، بخلاف ما إذا تزوجت فقد يعتريها الحمل والإرضاع والتربية ، ونحو ذلك من العوارض الطارئة .
وليس للزوج أن يمنع زوجته من حجة الإسلام ، لأنها واجبة بأصل الشرع ، وينبغي للزوج إن كان قادراً أن يكون عوناً لزوجته على أداء فريضتها ، ولا سيما من كان حديث عهد بالزواج ، فيسهل مهمتها ، إما بسفره معها ، أو بالإذن لأحد إخوانها أو غيرهم من محارمها بالحج بها ، وعليه أن يَخْلُفَها في حفظ الأولاد والعناية بالمنزل ، فهو بذلك مأجور .
اللهم أيقظنا من نوم الغفلة ، ونبِّهنا لاغتنام أوقات المهلة ، ووفقنا لمصالحنا ، واعصمنا من ذنوبنا وقبائحنا ، واستعمل في طاعتك جميع جوارحنا ، واجعلنا هداةً مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ما يجتنبه في العشر من أراد الأضحية
عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي ) وفي رواية : ( قلا يَمَسَّ من شعره وبشرته شيئاً ) أخرجه مسلم .
* * *
الحديث دليل على أنه إذا دخلت العشر وأراد الإنسان أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئاً إلى أن يذبح أضحيته ، فإن كان له أكثر من أضحية جاز له الأخذ بعد ذبح الأولى .
وأظهر قولي أهل العلم أن ذلك للتحريم ، لأنه الأصل في النهي ، فإن تَعَمَّدَ وأخذ فعليه التوبة والاستغفار ، ولا فدية عليه إجماعاً ، ولا يؤثر ذلك على أضحيته .
وهذا النهي يخص صاحب الأضحية ، لقوله : ( وأراد أن يضحي ) فلا يعم الزوجة ولا الأولاد إذا أراد أن يُشْرِكَهُمْ معه في الثواب .
ومن ضحى عن غيره بوصية أو وكالة فلا يحرم عليه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته ، لأن الأضحية ليست له .
ومن أخذ من شعره المباح أَخْذُهُ ، أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ثم أرادها في أثناء العشر أمسك من حين الإرادة .
ومن احتاج إلى أخذ شيء من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفر أو جرح عليه شعر يتعين أخذه فلا بأس ، لأن المضحي ليس بأعظم من المحرم الذي أبيح له الحلق إذا كان مريضاً أو به أذى من رأسه ، لكن المحرم عليه الفدية ، والمضحي لا فدية عليه .
ولا يجوز للمرأة أن توكل أحداً على أضحيتها لتأخذ من شعرها - كما قد تفهمه بعض النساء - لأن الحكم متعلق بالمضحي نفسه سواء وَكَّلَ غيره أم لا ، وأما الوكيل فلا يتعلق به نهي .
ولا حرج في غسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر ، لأنه إنما نهى عن الأخذ ، ولأن المحرم أُذِنَ له أن يغسل رأسه .
ومن أراد أن يضحي ثم عزم على الحج فإنه لا يأخذ من أشعاره وأظفاره عند الإحرام ، لأن هذا سنة عند الحاجة ، فيرجح جانب الترك ، لكن إن كان متمتعاً قصَّر من شعره إذا فرغ من عمرته ، لأن ذلك نسك على أرجح الأقوال ، وكذا إذا رمي جمرة العقبة يوم العيد .
اللهم عاملنا بإحسانك ، وتولَّنا برحمتك وغفرانك ، ولا تحرمنا بذنوبنا ، ولا تطردنا بعيوبنا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد ..
فضل العشر والعمل الصالح فيها
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي قال : ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ! ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء ) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد .
* * *
الحديث دليل على فضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة ، لأن النبي شهد بأنها أفضل أيام الدنيا ، ولأنه حث على العمل الصالح فيها.
وفيه دليل على أن كل عمل صالح في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى منه في غيرها ، وهذا يدل على فضل العمل الصالح فيها وكثرة ثوابه ، وأن جميع الأعمال الصالحة تضاعف في العشر من غير استثناء شيء منها .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي قال : ( ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ، ولا أعظمُ أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى ) قيل : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ( ولا الجهاد في سبيل الله - عز وجل - إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه الدارمي بإسناد حسن .
وإن إدراك هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على عبده ، لأنه يدرك موسماً من مواسم الطاعة التي تكون عوناً للمسلم - بتوفيق الله - على تحصيل الثواب واغتنام الأجر ، فعل المسلم أن يستشعر هذه النعمة ، ويستحضر عظم أجر العمل فيها ، ويغتنم الأوقات ، وأن يُظهر لهذه العشر مزية على غيرها ، بمزيد الطاعة ، وهذا شأن سلف هذه الأمة ، كما قال أبو عثمان النهدي - رحمه الله -: ( كانوا يعظمون ثلاث عشرات : العشر الأخير من رمضان ، والعشر الأَوَّلَ من ذي الحجة ، والعشر الأَوَّلَ من المحرم ) (1) .
وفي العشر أعمال فاضلة وطاعة كثيرة ، ومن ذلك :
1 - الإكثار من نوافل الصلاة ، والصدقة ، وسائر الأعمال الصالحة ، كبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والتوبة النصوح ، وحسن الإنابة ، ونحو ذلك.
2 - الإكثار من ذكر الله تعالى ، وتكبيره ، وتلاوة كتابه .
3 - الصيام ، فإن صيام تسع ذي الحجة وإن لم يثبت فيها دليل بخصوصه في العشر ، لكنه من أفضل الأعمال الصالحة التي حث عليها النبي ، فيكون استحباب صومها مستفاداً من عموم الأدلة .
4 - الحج والعمرة ، وهما من أفضل الأعمال ، كما سيأتي إن شاء الله .
5 - الحرص على الأضحية وعدم التهاون فيها ، لعظم أجرها عند الله تعالى .
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة ، ووفقنا للاستعداد قبل النُّقلة ، وارزقنا اغتنام الزمان وقت المهلة ، وألهمنا الاستفادة من مواسم الخيرات ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …