أحاديث عشر ذي الحجة وأيام التشريق أحكام وآداب
الحث على قِصَرِ الأمل في الدنيا
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبيَّ فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) أخرجه البخاري .
* * *
الحديث دليل على وجوب اغتنام الأوقات، والحث على قِصَرِ الأمل، وتقديم التوبة والاستعداد للموت، وهذا الحديث من أبلغ الكلام في التذكير بالآخرة وعدم الاغترار بالدنيا، وذلك أن الدنيا فانية، مهما طال عمر الإنسان فيها، فهي دار ممر لا دار مقر، وكل نفس ذائقة الموت، وهذه حقيقة مشاهدة، نراها كلَّ يوم وليلة، ونحس بها كلَّ ساعة ولحظة، وإذا كان الإنسان لا يدري متى ينتهي أجله ويأتيه الموت فعليه أن يستعد للرحيل، وأن يكون عابر سبيل، فلا يركن إلى الدنيا ولا يتعلق بها ولا يتخذها وطناً ولا تحدثه نفسه بالبقاء فيها، فلا يتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه الذي سيفارقه مهما تكن راحته وهناؤه، وأن يكون فيها كالمسافر الذي يكتفي بسفره بالقليل الذي يساعده على بلوغ غايته وتحقيق مقصده.
ولقد أدرك الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم إدراكاً علمياً وعملياً، وأخذ منه هذه الوصايا الثلاث العظيمة:
الأولى:« إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء » ومعنى ذلك: حث المؤمن على قِصَرِ الأمل في هذه الحياة، وأنه ينبغي له إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يظن أن أجله مدركه قبل ذلك.
الوصية الثانية: « وخذ من صحتك لمرضك » والمعنى: أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم أوقات الصحة وسلامة البدن من العلل، وذلك بفعل الخير والإكثار من الطاعات، قبل أن يحول بينه وبينها السُّقْمُ، فيعجز عن الصيام والقيام وسائر الأعمال، إذا اعتراه مرض أو علة أو كِبَرٌ.
الوصية الثالثة: « ومن حياتك لموتك » والمعنى: أنه ينبغي للمؤمن أن يغتنم زمن الحياة وساعات العمر بتقديم الزاد، ولا يفرط حتى يدركه الموت، ويحول بينه وبين الأعمال الصالحة.
وقد ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) أخرجه البخاري.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) أخرجه الحاكم وصححه.
فالواجب علينا ونحن نستقبل عاماً جديداً أن نغتنم الأوقات، ونبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بيننا وبينها، إما بشغل أو مرض أو موت.
اللهم أيقظنا لتدارك بقايا الأعمار، ووفقنا للتزود من الخير والاستكثار، اللهم أيقظ قلوبنا من رقدات الآمال، وذكِّرنا قربَ الرحيل ودنوَّ الآجال، وثبت قلوبنا على الإيمان، ووفقنا لصالح الأعمال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
الاعتبار بمرور الأيام والأعوام
قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ }[آل عمران/190] وقال تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ }[يونس/6] وقال تعالى:{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ}[النور/44].
* * *
في هذه الآيات الكريمات يخبر الله تعالى عن الآيات الكونية الدالة على كمال علمه وقدرته، وتمام حكمته ورحمته، ومن ذلك اختلاف الليل والنهار، وذلك بتعاقبهما، واختلافهما بالطول والقصر، والحر والبرد والتوسط، وما فيس ذلك من المصالح العظيمة لكل ما على الأرض، وكل ذلك من نعم الله تعالى ورحمته بخلقه، الذي لا يدركه إلا أصحاب العقول السليمة والبصائر النَّيِّرة، الذين يدركون حكمة الله تعالى في خلق الليل والنهار والشمس والقمر، ويدركون ما في تعاقب الشهور والأعوام، وتوالي الليالي والأيام.
والله تعالى جعل الليل والنهار خزائن للأعمال، ومراحل للآجال، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات، وتنشيطهم على الطاعات، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان/62].
وينبغي للمؤمن أن يأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقرِّبان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيِّبان الصغار، ويفنيان الكبار، وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة.
فالسعيد - والله - من حاسب نفسه، وتفكر في انقضاء عمره، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، وعَظُمَ فواته، واشتدت حسراته، نعوذ بالله من التفريط والتسويف.
ونحن في هذه الأيام نودِّع عاماً ماضياً شهيداً، ونستقبل عاماً مقبلاً جديداً، فعلينا أن نحاسب أنفسنا، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات.
وليست هذه المحاسبة مقصورة على هذه الأيام، بل هي مطلوبة كل وقت وأوان فمن لازَمَ محاسبة النفس استقامت أحواله، وصلحت أعماله، ومن غفل عن ذلك ساءت أحواله، وفسدت أعماله.
ومما يؤسف عليه أن كثيراً من الناس إذا بدأ العام يَعِدُ نفسه بالجد والعزيمة الصادقة لإصلاح حاله، ثم يمضي عليه اليوم بعد الأيام والشهر بعد الشهور، وينقضي العام وحاله لم يتغير، فلم يزدد من الخيرات ولم يتب من السيئات، وهذه علامة الخيبة والخسران.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم أعزَّ المسلمين بطاعتك، ولا تذلهم بمعصيتك، اللهم اجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وعزٍّ ونصر للإسلام والمسلمين، وأسبغ علينا نعمك، وارزقنا شكرها، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
فضل أيام التشريق
عن نُبَيْشَةَ الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب) وفي رواية: (وذكر لله عز وجل) أخرجه مسلم.
* * *
الحديث دليل على فضل أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، سميت بذلك لأن الناس يُشَرِّقُونَ فيها لحوم الأضاحي والهدايا، أي: يقددونها وينشرونها لِتَجِفَّ.
وهي من الأيام الفاضلة والمواسم العظيمة، وهي الأيام المعدودات المذكورة في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } [البقرة/203] ولا خلاف في ذلك كما نقله غير واحد.
وقد دل هذا الحديث على أمرين:
الأول: أن أيام التشريق أيام أكل وشرب وإظهار للفرح والسرور والتوسعة على الأهل والأولاد بما يحصل لهم من ترويح البدن وبسط النفس مما ليس بمحظور ولا شاغل عن طاعة الله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام).
ولا مانع من التوسع في الأكل والشرب ولا سيما اللحم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها أيام أكل وشرب، ما لم يصل ذلك إلى حد الإسراف والتبذير، أو التهاون بنعم الله تعالى.
الأمر الثاني: أن هذه الأيام أيام ذكر لله تعالى، وذلك بالتكبير عقب الصلوات وفي كل الأوقات والأحوال الصالحة لذكر الله تعالى، ومن ذلك ذكر الله تعالى على الأكل والشرب بتسمية الله في أوله، وتحميده في آخره، وإن كان هذا عاماً في كل وقت لكنه متأكد فيها.
فعلى المسلم أن يحذر الغفلة عن ذكر الله تعالى، فيكون قد أخذ أول الحديث وترك آخره، وعليه أن يعمر هذه الأوقات الفاضلة بالطاعة وفعل الخير، ولا يضيعها باللهو واللعب، كما عليه كثير من الناس في زماننا هذا، من السهر وتفويت الصلاة المفروضة عن وقتها، وقتل الوقت، والاستعانة بنعم الله على معاصيه، والعكوف على آلات اللهو والطرب.
واعلم أنه لا يجوز صيام أيام التشريق فمن وافق عادته يوم الخميس فلا يصومه، وكذا أيام البيض فلا يصوم الثالث عشر، ويستثنى من ذلك المتمتع الذي لم يجد الهدي، لما ورد عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: (لم يُرَخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي) أخرجه البخاري.
اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
شعائر يوم العيد
عن عبد الله بن قُرْطٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القَرِّ) أخرجه أبو داود بإسناد جيد.
* * *
الحديث دليل على فضل يوم النحر وأنه أعظم الأيام عند الله تعالى وهو يوم الحج الأكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم الحج الأكبر يوم النحر) أخرجه أبو داود بسند صحيح.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يومُ عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا أهلُ الإسلام …) أخرجه أصحاب السنن إلا ابن ماجة بإسناد صحيح
وعيد النحر أفضل من عيد الفطر، لأن عيد النحر فيه الصلاة والذبح، وذلك فيه الصدقة والصلاة، والنحر أفضل من الصدقة، كما أن يوم النحر يجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم.
وفي هذا اليوم وظائف نرتبها كما يلي:
1 - الخروج إلى مصلى العيد على أحسن هيئة، متزيناً بما يباح، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يترك التنظف والتزين حتى يذبح أضحيته، كما يفعله بعض الناس، ويبكر إلى المصلى، ليحصل له الدنو من الإمام، وفضل انتظار الصلاة.
2 - يسن التكبير في طريقه إلى المصلى حتى يخرج الإمام للصلاة، وإذا شرع الإمام في الخطبة ترك التكبير، إلا إذا كبر فيكبر معه.
3 - تسن مخالفة الطريق، وهو أن يذهب من طريق ويرجع من آخر، لما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق) أخرجه البخاري.
4 - يسن في عيد الأضحى ألا يأكل شيئاً حتى يصلي، لما ورد عن عبد الله ابن بريدة عن أبيه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يَطْعَمَ، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) أخرجه الترمذي.
5 - صلاة العيد سنة مؤكدة يحرص المسلم على أدائها، وينبغي حث الأولاد على حضورها، حتى الصبيان، إظهاراً لشعائر الإسلام، ومن أهل العلم من قال بوجوبها.
6 - بعد الصلاة والخطبة يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، ويأكل منها، ويهدي للأقارب والجيران، ويتصدق على الفقراء، ويجوز ادخار لحوم الأضاحي، وأما النهي عن الادخار وعن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث فهو منسوخ على قول الجمهور، ويرى بعض أهل العلم أنه غير منسوخ بل متى وجد بالناس حاجة حرم الادخار.
ولا تجوز الاستهانة بلحوم الأضاحي أو رَمْيُ ما يحتاج منها إلى تنظيف بحجة مشقة تنظيفه، بل من تمام الشكر الاستفادة منها كلِّها أو إعطائها من يستفيد منها ولو كلف ذلك جهداً.
7 - لا بأس بالتهنئة بالعيد، وتجب زيارة الوالدين والأقارب، وزيارتهم تقدم على زيارة الاخوة في الله، لأن الواجب على المسلم أن يبدأ بمن حقهم آكد وصلتهم أو جب.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
بعض المسائل المتعلقة بالأضحية
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية: لا تجزيء - العوراء البين عَورُها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظَلَعُها، والكسيرة التي لا تُنْقِي) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وقال الترمذعن أنس رضي الله عنه قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووضع رجله على صِفَاحِهِمَا) أخرجه البخاري ومسلم.
* * *
الحديث دليل على مسائل تتعلق بالأضحية، نوجز أهمها فيما يلي:
1 - أن الأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء، لأنه { وأصحابه كانوا يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وأما تخصيصها بالأموات دون الأحياء، كما يفعله بعض الناس فلا أصل له، إلا إن كانت وصية فإنها تنفذ، والسنة أن يضحي الإنسان عن نفسه وأهل بيته ويُشْرِكُ معه من شاء من الأموات في ثوابها، وفضل الله واسع.
2 - أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى، لأنه { ضحى بكبشين، لأن لحمه أطيب، مع جواز التضحية بالأنثى بالإجماع.
3 - استحباب التضحية بالأقرن، وأنه أفضل من الأجم - وهو ما لا قرن هل - مع جواز التضحية بالأجم اتفاقاً، وهو ما لا قرن له.
4 - مشروعية استحسان الأضحية صفةً ولوناً، وذلك بأن تكون سمينة حسنة، وأحسنها الأملح، والمراد به: الأبيض الخالص البياض، أو ما بياضه أكثر من سواده، وهذا من تعظيم شعائر الله تعالى، قال تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج/32] وقال تعالى: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ }[الحج/36] فتعظيم البدن من تعظيم شعائر الله، قال ابن عباس: (الاستسمان، والاستحسان، والاستعظام).
5 - استحباب أن يتولى الإنسان ذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح، لأن الذبح قربة، قال البخاري: (أمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهم) فإن لم يحسن استناب مسلماً عالماً بشروط الذبح، وحضر ذبحها، لأن النبي استناب علياً في ذبح ما بقي من بُدْنِهِ في حجة الوداع.
6 - أن من أراد أن يضحي بعدد فالأفضل ذبحها في يوم العيد، والتفريق في أيام النحر جائز، وفيه نفع للمساكين، ويستمر الذبح إلى آخر الثالث عشر على الراجح من قولي أهل العم.
7 - مشروعية التسمية والتكبير عند ذبح الأضحية، فيقول: (بسم الله، والله أكبر) أما التسمية فواجبة، وأما التكبير فمستحب، ولا يسن الزيادة على ذلك لعدم وروده، إلا الدعاء بالقبول، ولا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع، لأنه غير لائق في هذا المقام.
ولابد أن تكون التسمية عند الذبح فلو وقع فاصل طويل أعادها، إلا إذا كان الفصل لتهيئة الذبيحة وأخذ السكين، والمعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية، وأما تغيير الآلة فلا يؤثر على التسمية.
اللهم تقبل طاعاتنا، وتجاوز عن تقصيرنا، اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً طيباً، اللهم أجب دعاءنا، وحَقِّقْ رجاءنا، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ي: حديث حسن صحيح..
* * *
الحديث دليل على أن هذه العيوب الأربعة مانعة من صحة الأضحية، وبقاس عليها غيرها مما هو أشد منها أو مساوياً لها.
الأولى: العوراء البين عورها: وهي التي انخسفت عينها أو برزت، فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها، لأن عورها غير بين، ويلحق بالعوراء العمياء من باب أولى، فإنها لا تجزيء وإن لم تنخسف عينها، لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقاتها ويمنعها من المشاركة في العلف.
الثانية: المريضة البين مرضها: وهي التي ظهرت عليها آثار المرض الذي يُقْعِدُهَا عن الرعي مما يسبب لها الهزال، ومن ذلك الجَرَبُ الظاهر، لأنه يفسد اللحم والشحم.
الثالثة: العرجاء البين ظَلَعُهَا: أي عَرَجُهُا، والضَّلَعُ بفتح الظاء واللام هو الغَمْزُ، فالعرجاء هي التي تَغْمِزُ في يدها أو رجلها خلقة أو لعلة طارئة، والبين عرجها هي التي تتخلف عن القطيع.
ويلحق بها الزَّمْنَى وهي العاجزة عن المشي لعاهة، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها، وكذا مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين، لأنها أولى من العرجاء، ولأنها ناقصة في عضو مقصود.
الرابعة: الكسيرة التي لا تُنقي: أي لا نِقْيَ لها، والنِّقْيُ - بكسر النون وسكون القاف -: هو المخ، أي: التي لا مخ فيها لضعفها.
فإن كان العيب يسيراً فهو معفو عنه، كما لو كان في عينها نقطة يسيرة أو العرج يسيراً لا يؤدي بها إلى القعود عن القطيع فإنها تجزئ، وكذا المهزوله التي ليست غاية في الهزال.
وقد دل الحديث بمفهومه على أن ما عدا العيوب الأربعة وما في معناها لا يمنع الإجزاء، وذلك لأن الحديث خرج مخرج البيان والحصر، لأنه جواب سؤال، والظاهر أنه كان حال خطبة وإعلان، لقول البراء: (قام فينا) ولو كان غير الأربعة مانعاً من الإجزاء للزم ذكره، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ولا يضر الكي ولا شق الأذن ولا خرقها ولا كسر القرن، لأن ذلك لا ينقص لحمها، ولأنه يكثر وجوده، والسليمة من ذلك أولى.
ولا تجوز التضحية بمقطوع الألية، لأن ذلك نقص بين في جزء مقصود، أما إذا كانت من نوعٍ لا ألية له بأصل الخلقة فإنها تجزئ.
اللهم أعذنا من أسباب المخالفة والعصيان، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرَّنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
العيوب المانعة من الإجزاء
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي - وفي رواية: لا تجزيء - العوراء البين عَورُها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظَلَعُها، والكسيرة التي لا تُنْقِي) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح..
* * *
الحديث دليل على أن هذه العيوب الأربعة مانعة من صحة الأضحية، وبقاس عليها غيرها مما هو أشد منها أو مساوياً لها.
الأولى: العوراء البين عورها: وهي التي انخسفت عينها أو برزت، فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها، لأن عورها غير بين، ويلحق بالعوراء العمياء من باب أولى، فإنها لا تجزيء وإن لم تنخسف عينها، لأن العمى يمنع مشيها مع رفيقاتها ويمنعها من المشاركة في العلف.
الثانية: المريضة البين مرضها: وهي التي ظهرت عليها آثار المرض الذي يُقْعِدُهَا عن الرعي مما يسبب لها الهزال، ومن ذلك الجَرَبُ الظاهر، لأنه يفسد اللحم والشحم.
الثالثة: العرجاء البين ظَلَعُهَا: أي عَرَجُهُا، والضَّلَعُ بفتح الظاء واللام هو الغَمْزُ، فالعرجاء هي التي تَغْمِزُ في يدها أو رجلها خلقة أو لعلة طارئة، والبين عرجها هي التي تتخلف عن القطيع.
ويلحق بها الزَّمْنَى وهي العاجزة عن المشي لعاهة، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين ظلعها، وكذا مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين، لأنها أولى من العرجاء، ولأنها ناقصة في عضو مقصود.
الرابعة: الكسيرة التي لا تُنقي: أي لا نِقْيَ لها، والنِّقْيُ - بكسر النون وسكون القاف -: هو المخ، أي: التي لا مخ فيها لضعفها.
فإن كان العيب يسيراً فهو معفو عنه، كما لو كان في عينها نقطة يسيرة أو العرج يسيراً لا يؤدي بها إلى القعود عن القطيع فإنها تجزئ، وكذا المهزوله التي ليست غاية في الهزال.
وقد دل الحديث بمفهومه على أن ما عدا العيوب الأربعة وما في معناها لا يمنع الإجزاء، وذلك لأن الحديث خرج مخرج البيان والحصر، لأنه جواب سؤال، والظاهر أنه كان حال خطبة وإعلان، لقول البراء: (قام فينا) ولو كان غير الأربعة مانعاً من الإجزاء للزم ذكره، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ولا يضر الكي ولا شق الأذن ولا خرقها ولا كسر القرن، لأن ذلك لا ينقص لحمها، ولأنه يكثر وجوده، والسليمة من ذلك أولى.
ولا تجوز التضحية بمقطوع الألية، لأن ذلك نقص بين في جزء مقصود، أما إذا كانت من نوعٍ لا ألية له بأصل الخلقة فإنها تجزئ.
اللهم أعذنا من أسباب المخالفة والعصيان، وارزقنا تحقيق الإيمان على الوجه الذي يرضيك عنا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرَّنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ذِكْرُ شيءٍ من أحكام الأضحية
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مُسِنَّةً إلا أن يَعْسُرَ عليكم، فتذبحوا جَذَعَةً من الضأن) أخرجه مسلم.
* * *
الحديث دليل على أن شرط صحة الأضحية أن تبلغ السن المعتبرة شرعاً، لقوله: (لا تذبحوا إلا مسنة) والمسنة: بضم الميم، وكسر السين، والنون المشددة، وهي الكبيرة بالسن، فمن الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الغنم ما تم له سنة، وهذا هو الثني من بهيمة الأنعام.
ويستثنى من الغنم الضأن فتجوز التضحية به إذا كان جذعاً، وهو ما تم له ستة أشهر، وظاهر الحديث أنه لا يجزئ الجذع من الضأن إلا عند تعسر المسنة إما بفقدها أو العجز عن ثمنها، لكن حمله الجمهور على الاستحباب، فقالوا تجزئ الجذعة من الضأن ولو مع وجود الثنية، لأدلة أخرى تدل بمجموعها على جواز التضحية بالجذع.
وإذا اشترى الإنسان الأضحية عَيَّنَهَا إما باللفظ، كقوله: (هذه أضحية) أو بذبحها يوم العيد بنية الأضحية، ولو لم يتلفظ بذلك قبل الذبح، وأما الشراء بنية الأضحية فهو موضع خلاف بين العلماء.
فإذا عينها ترتب عليها الأحكام الآتية:
1 - أنه لا يجوز بيعها، ولا هبتها، ولا إبدالها إلا بخير منها، وإذا مات من عينها ذُبحت عنه، وقام ورثته مقامه في الأكل والصدقة والهدية.
2 - إذا حصل لها عيب يمنع الإجزاء، كَعَرَجٍ بَيِّنٍ، فإن كان بتفريط منه لزمه إبدالها بسليمة، وإن كان بدون تفريط منه ذبحها وأجزأت.
3 - إذا ضاعت أو سرقت فإن كان بتفريط منه لزمه بدلها، وإن لم يكن بتفريط منه فلا شيء عليه، ومتى وجدها ذبحها ولو فات وقت الذبح، وعمل بها كما يعمل لو ذبحت أيام النحر.
4 - لا يجوز بيع شيء منها، أما ما أهدي إليه أو تُصدِّق به عليه من لحم الأضحية فله التصرف فيه بما شاء من إهداء أو بيع، لأنه مَلَكَهُ ملكاً تاماً، لكن لا يبيعه على من أهداه أو تصدق به.
اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كلِّه ما علمنا منه وما لم نعلم، وجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد..
الترغيب في الأضحية وبيان فضلها
عن أنس رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين … الحديث) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي) أخرجه أحمد والترمذي، وسنده حسن.
* * *
في الحديثين دليل على مشروعية الأضحية والترغيب فيها والحث على فعلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً على وجه الطاعة والقربة ولم يكن مختصاً به كان ذلك مستحباً في حق أمته على أرجح الأقوال.
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الأضحية أو كونها سنة مؤكدة، والأحوط للمسلم أن لا يترك الأضحية مع قدرته عليها، لأن أداءها هو الذي يتعين به براءة ذمته، والخروجُ من عهدة الطلب أحوطُ، وأما غير القادر الذي ليس عنده إلا مؤنة أهله فإن الأضحية لا تلزمه، ومن كان عليه دين فإنه يقدمه على الأضحية لوجوب إبراء الذمة عند الاستطاعة.
وأما الاقتراض لشراء الأضحية، فإن كان الإنسان يرجو وفاءً، كمن له مرتب أو نحوه فإنه يقترض ويضحي، وإن كان لا يرجو وفاءً، فإنه لا يقترض لئلا يشغل ذمته بشيء لا يلزمه في مثل حاله.
فعلى الإنسان أن يضحي عن نفسه وأهل بيته، فيشركهم في ثواب الأضحية لينال بذلك عظيم الأجر امتثالاً لأمر الله تعالى، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث ضحى عن نفسه وأهل بيته.
وفي الأضحية إحياءُ سنةِ أبينا إبراهيم عليه السلام، وفيها تقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم، وفي الأضحية توسعة على الأهل والفقراء يوم العيد، والإهداء لذوي القربى والجيران.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، لما فيها من تعظيم الله تعالى بذبحها تقرباً إليه، وإظهارَ شعائرِ دينه، وغير ذلك من المصالح التي تربو على مصلحة الصدقة بثمنها.
وإذا كان المقصود بالأضحية هو الذبح تقرباً إلى الله، فإنه ينبغي للإنسان أن يذبح أضحيته في بيته، وأن يأكل منها، ويطعم، قال تعالى عن الهدي: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [الحج/28] والمراد به: شديدُ الحاجة، المعدمُ من المال.
وعليه فلا أرى نقل الأضحية إلى البلاد التي تظهر فيها الحاجة بأن يرسل دراهم ليضحى بها عنه، لأمرين:
الأول: أن الأضحية شعيرة من شعائر الدين التي تتعلق بالإنسان، وفي ذبحها في البيت إحياء لهذه الشعيرة، وإدخال السرور على الأهل والأولاد، وإرسالها يفوت ذلك.
الثاني: أنه بإمكان الإنسان القادر أن يبعث إلى تلك البلاد دراهم أو أطعمة أو أكسية أو نحو ذلك وقد يكون نفعها أكثر من لحم الأضحية.
اللهم رحمتك نرجو، فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
فضل الحج المبرور وصفته
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) أخرجه البخاري ومسلم.
* * *
الحديث دليل على فضل الحج المبرور وعظيم جزائه عند الله تعالى، حيث إن صاحبه يكون من الفائزين برضوان الله وجنته.
وعن أبي هريرة - أيضاً - قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ العمل أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور) متفق عليه.
والحج المبرور له أوصاف:
الأول: أن تكون النفقة من مال حلال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً …) أخرجه مسلم.
الثاني: إخلاص العمل لله تعالى ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالث: البعد عن المعاصي والآثام، والبدع والمخالفات.
الرابع: حسن الخلق، ولين الجانب، والتواضع في مركبه ومنزله، في تعامله مع الآخرين، وفي جميع أحواله، كما كان عليه النبي في حجته، قال ابن عبد البر - رحمه الله -: (الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة، ولا رفث ولا فسوق، ويكون بمال حلال …).
ومما يتأكد في حق الحاج أن يعظم شعائر الله تعالى، ويستشعر فضل المشاعر وقيمتها، فيؤدي مناسكه على صفة التعظيم والإجلال والمحبة والخضوع لله رب العالمين، وعلامة ذلك أن يؤدي شعائر الحج بسكينة ووقار، ويتأنى في أفعاله وأقواله، ويحذر العجلة التي عليها كثير من الناس في هذا الزمان، ويُعَوِّد نفسه الصبر في طاعة الله تعالى، فإن هذا أقرب إلى القبول وأعظم للأجر.
وقد حث الله تعالى عباده على تعظيم شعائره وإجلالها، وحفظ حرماته وصيانتها، فقال تعالى: { ذلِك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج/30] وقال تعالى: { ذلِك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ْ} [الحج/32].
والمراد بحرمات الله: كل ما له حرمة، وأُمِرَ باحترامه، من عبادة أوغيرها، ومن ذلك المناسك كلها، والحرم، والإحرام …
وشعائر الله: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها، كما قال تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [البقرة/158].
فتأمل - أخي المسلم – ذلك، فإن الله تعالى جعل تعظيم شعائره ركن التقوى وشرط العبودية، وجعل تعظيم حرماته سبيلاً لنيل العبدِ ثوابَ الله تعالى وجزيل عطائه.
ومن تأمل في حجة النبي ونظر فيها نظر المستفيد المتأسي لاح له تعظيم شعائر الله بأبرز صُوَرِهِ، وأوضح معانيه، في جميع أقواله وأفعاله، صلوات الله وسلامه عليه.
اللهم اجعل عملنا صالحاً، ولوجهك خالصاً، ووفقنا لما تحب وترضى، واحشرنا في زمرة المتقين، وألحقنا بعبادك الصالحين، واغفر لنا ولوالدين ولجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
فضل الحج وما ينبغي للحاج أن يتصف به
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه) أخرجه البخاري ومسلم، وفي لفظ لمسلم: (من أتى هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع كما ولدته أمه).
* * *
الحديث دليل على فضل الحج وعظيم ثوابه عند الله تعالى، وأن الحاج يرجع من حجه نقياً من الذنوب، طاهراً من الأدناس، كحاله يوم ولدته أمه، إذا تحقق له وصفان:
الأول: قوله: (فلم يَرْفُثْ) وهو بضم الفاء، مضارع رَفَثَ، والرَّفَثُ - بفتح الراء والفاء -: ذِكْرُ الجماع ودواعيه إما إطلاقاً، وإما في حضرة النساء بالإفضاء إليهن بجماع أو مباشرة لشهوة.
الوصف الثاني: (ولم يَفْسُقْ) أي: ولم يخرج عن طاعة الله تعالى بفعل المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة/197] والمعنى: فمن أوجب فيهن الحج على نفسه بأن أحرم به فليحترم ما التزم به من شعائر الله، وَلْيَنْتَهِ عن كل ما ينافي التجردَ لله تعالى وقَصْدَ بيته الحرام، فلا يرفث ولا يفسق ولا يخاصم أو ينازع في غير فائدة، لأن ذلك يخرج الحج عن الحكمة منه، وهي الخشوع لله تعالى والاشتغال بذكره ودعائه.
فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن يحرصوا على تحقيق أسباب هذه المغفرة الموعود بها، وذلك بأن يستقيموا على طاعة الله تعالى، وأن يحفظوا حجهم، ويصونوه عما حرم الله عليهم من الرفث والفسوق والجدال، وأن يحذروا كل الحذر من الذنوب والمعاصي التي يتساهل بها كثير من الناس في زماننا هذا، فإنها منهي عنها في جميع الأوقات والأحوال، ولكنه خَصَّ ذلك بحالة الحج لشرف الزمان والمكان وعِظَمِ حرمات الله تعالى، فإن المتلبس بالحج يكون أولاً في إحرام ثم تزداد عليه الحرمة بدخوله في الحرم، ثم تزداد بمزاولته أعمال الحج، فوجب عليه أن يكون على أَتَمِّ صفة وأحسنِ حال.
ويجب على من عزم على الحج أن يعرف أحكامه وصفة أدائه، فيعرف صفة الإحرام، وكيفية الطواف، وصفة السعي، وهكذا بقية المناسك، لأن شرط قبول العمل: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وموافقاً لما شرعه في كتابه أو على لسان نبيه ، ليعبد المؤمن ربه على بصيرة، ويحقق متابعة النبيصلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا مناسككم) أخرجه مسلم.
ووسيلة ذلك أن يسأل أهل العلم عن كيفية أداء المناسك، أو يقرأ في كتب المناسك – إن كان ممن يقرأ ويفهم – أو يصحب رفقة فيهم طالب علم يستفيد منه.
ومن الناس من يقع في الخطأ في أداء هذه الشعيرة العظيمة، كصفة الإحرام أو صفة الطواف أو السعي أو غيرها لأسباب:
1- الجهل بأحكام المناسك.
2- عدم سؤال أهل العلم الموثوق بعلمهم وورعهم.
3- سؤال من ليس من أهل العلم.
4- تقليد الناس بعضهم بعضاً.
اللهم وفقنا لما يرضيك، وجنبنا معاصيك، واجعلنا من عبادك الصالحين، وحزبك المفلحين، واعف عنا، وتب علينا، واغفر لنا ولوالدينا، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
وجوب الحج والمبادرة به
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) أخرجه البخاري ومسلم.
* * *
الحديث دليل على وجوب الحج وأنه ركن من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلاً، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران/97].
ومن فضل الله تعالى ورحمته وتيسيره أن الحج فَرْضٌ مرةً في العمر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج مرةً، فمن زاد فهو تطوع) أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي، وإسناده صحيح (2).
يجب على المسلم المبادرة بالحج إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له من الموانع.
وقد ورد عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرِضُ له) أخرجه أحمد.
وقد وردت عدة أحاديث مفادها وجوب المبادرة والسعي لأداء فريضة الحج، ولا يخلوا شيء منها من مقال في سنده، لكنها مع تعددها واختلاف طرقها تدل على وجوب الحج على الفور، وتعتضد بآيات من كتاب الله تعالى، لقوله جل وعلا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ [آل عمران/133]، وقوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة/148].
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يبادر إلى أداء هذا الركن العظيم متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعلى المستطيع من الآباء والأولياء العمل على حَجِّ من تحت ولايتهم من الأبناء والبنات وغيرهم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه.
ويتأكد ذلك في حق البنت قبل زواجها، لأن حجها قبل أن تتزوج سهل وميسور، بخلاف ما إذا تزوجت فقد يعتريها الحمل والإرضاع والتربية، ونحو ذلك من العوارض الطارئة.
وليس للزوج أن يمنع زوجته من حجة الإسلام، لأنها واجبة بأصل الشرع، وينبغي للزوج إن كان قادراً أن يكون عوناً لزوجته على أداء فريضتها، ولا سيما من كان حديث عهد بالزواج، فيسهل مهمتها، إما بسفره معها، أو بالإذن لأحد إخوانها أو غيرهم من محارمها بالحج بها، وعليه أن يَخْلُفَها في حفظ الأولاد والعناية بالمنزل، فهو بذلك مأجور.
اللهم أيقظنا من نوم الغفلة، ونبِّهنا لاغتنام أوقات المهلة، ووفقنا لمصالحنا، واعصمنا من ذنوبنا وقبائحنا، واستعمل في طاعتك جميع جوارحنا، واجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ما يجتنبه في العشر من أراد الأضحية
عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي) وفي رواية: (قلا يَمَسَّ من شعره وبشرته شيئاً) أخرجه مسلم.
* * *
الحديث دليل على أنه إذا دخلت العشر وأراد الإنسان أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بشرته شيئاً إلى أن يذبح أضحيته، فإن كان له أكثر من أضحية جاز له الأخذ بعد ذبح الأولى.
وأظهر قولي أهل العلم أن ذلك للتحريم، لأنه الأصل في النهي، فإن تَعَمَّدَ وأخذ فعليه التوبة والاستغفار، ولا فدية عليه إجماعاً، ولا يؤثر ذلك على أضحيته.
وهذا النهي يخص صاحب الأضحية، لقوله: (وأراد أن يضحي) فلا يعم الزوجة ولا الأولاد إذا أراد أن يُشْرِكَهُمْ معه في الثواب.
ومن ضحى عن غيره بوصية أو وكالة فلا يحرم عليه أخذ شيء من شعره أو ظفره أو بشرته، لأن الأضحية ليست له.
ومن أخذ من شعره المباح أَخْذُهُ، أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ثم أرادها في أثناء العشر أمسك من حين الإرادة.
ومن احتاج إلى أخذ شيء من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفر أو جرح عليه شعر يتعين أخذه فلا بأس، لأن المضحي ليس بأعظم من المحرم الذي أبيح له الحلق إذا كان مريضاً أو به أذى من رأسه، لكن المحرم عليه الفدية، والمضحي لا فدية عليه.
ولا يجوز للمرأة أن توكل أحداً على أضحيتها لتأخذ من شعرها - كما قد تفهمه بعض النساء - لأن الحكم متعلق بالمضحي نفسه سواء وَكَّلَ غيره أم لا، وأما الوكيل فلا يتعلق به نهي.
ولا حرج في غسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر، لأنه إنما نهى عن الأخذ، ولأن المحرم أُذِنَ له أن يغسل رأسه.
ومن أراد أن يضحي ثم عزم على الحج فإنه لا يأخذ من أشعاره وأظفاره عند الإحرام، لأن هذا سنة عند الحاجة، فيرجح جانب الترك، لكن إن كان متمتعاً قصَّر من شعره إذا فرغ من عمرته، لأن ذلك نسك على أرجح الأقوال، وكذا إذا رمي جمرة العقبة يوم العيد.
اللهم عاملنا بإحسانك، وتولَّنا برحمتك وغفرانك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد..
فضل العشر والعمل الصالح فيها
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ! ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد.
* * *
الحديث دليل على فضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، لأن النبي شهد بأنها أفضل أيام الدنيا، ولأنه حث على العمل الصالح فيها.
وفيه دليل على أن كل عمل صالح في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى منه في غيرها، وهذا يدل على فضل العمل الصالح فيها وكثرة ثوابه، وأن جميع الأعمال الصالحة تضاعف في العشر من غير استثناء شيء منها.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي قال: (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل، ولا أعظمُ أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى) قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله - عز وجل - إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) رواه الدارمي بإسناد حسن.
وإن إدراك هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على عبده، لأنه يدرك موسماً من مواسم الطاعة التي تكون عوناً للمسلم - بتوفيق الله - على تحصيل الثواب واغتنام الأجر، فعل المسلم أن يستشعر هذه النعمة، ويستحضر عظم أجر العمل فيها، ويغتنم الأوقات، وأن يُظهر لهذه العشر مزية على غيرها، بمزيد الطاعة، وهذا شأن سلف هذه الأمة، كما قال أبو عثمان النهدي - رحمه الله -: (كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأَوَّلَ من ذي الحجة، والعشر الأَوَّلَ من المحرم) (1).
وفي العشر أعمال فاضلة وطاعة كثيرة، ومن ذلك:
1 - الإكثار من نوافل الصلاة، والصدقة، وسائر الأعمال الصالحة، كبر الوالدين، وصلة الأرحام، والتوبة النصوح، وحسن الإنابة، ونحو ذلك.
2 - الإكثار من ذكر الله تعالى، وتكبيره، وتلاوة كتابه.
3 - الصيام، فإن صيام تسع ذي الحجة وإن لم يثبت فيها دليل بخصوصه في العشر، لكنه من أفضل الأعمال الصالحة التي حث عليها النبي ، فيكون استحباب صومها مستفاداً من عموم الأدلة.
4 - الحج والعمرة، وهما من أفضل الأعمال، كما سيأتي إن شاء الله.
5 - الحرص على الأضحية وعدم التهاون فيها، لعظم أجرها عند الله تعالى.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، ووفقنا للاستعداد قبل النُّقلة، وارزقنا اغتنام الزمان وقت المهلة، وألهمنا الاستفادة من مواسم الخيرات، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …