القلق الخبيث…
.
في الثالث الابتدائي وفي ريف النماص، وبينما طلاب المدرسة يعودون إلى بيوتهم مشيا بين الحقول، كنت أصطحب رفيقي في الصف في آخر آيام الدراسة ومعنا شهادات النجاح وأوراق التفوق، وعندما وصلنا إلى البئر المجاورة لبيتنا كان أهلي (أبي رحمه الله أو أمي أو هما مع بعض أخوتي لست أتذكر بدقة) لكن الذي أتذكره جيدا أنني استوقفت زميلي هناك، وقلت له أخبرهم ماذا قال الأستاذ عن ترتيب الطلاب،
فقال لهم: قال الأستاذ:أنا وعبدالله الأول (مكرر)،
تنفست الصعداء عندها، وأذهبت الشكوك التي كنت أتوهم أنها تراود أسرتي بسبب عدم ذكر الترتيب في شهادة التفوق،
لم يكن أبوي يعيران هذا الترتيب معنى ولم يضعوا شروطا لمحبتنا ومع ذلك
فمنذ تلك اللحظة أو ربما قبلها، بدأت معاناة المكانة، ومخاوف التقييم، والرعب من معايير المجتمع، ومسطرة المقارنة،
والتي عبر عنها بدقة الفيلسوف البريطاني دو بوتون بعنوان هذه المقالة (القلق الخبيث) في كتابه الجميل (قلق السعي إلى المكانة)
حيث يقول عنه: قلق خبيث إلى حد يجعله قادرا على إفساد مساحات شاسعة من حياتنا، ويساورنا خشية فشلنا في مجاراة قيم النجاح التي وضعها مجتمعنا.
وخشية أن يتم تجريدنا نتيجة لهذا الفشل من شرف المنزلة والاعتبار.
لقد قرأت كتاب بوتون: وتأثرت به، ثم أردت الكتابة في ذات الموضوع.
هل سأكرر ما قاله أو ألخصه أو آخذ شيئا منه؟
، أو أقول معنى يشببهه، ؟
أو أكتب عن مشاعري تجاه الموضوع وأفكاري فيه بعيدا عنه؟
كلها إسئلة مفتوحة ليس لدي أجوبة محددة عنها، وسأترك الإجابة للقارئ بعد قراءة الكتاب والمقالة معا.
الفكرة المركزية التي أتفق فيها مع الكتاب أننا نعاني فعلا،
ونحن من زاوية التعاطف مع ذواتنا نبدو ضحايا،
فقلق المكانة الذي تضخم في مشاعرنا، لم نكن نحن وحدنا من صنعه، بل تضافرت عوامل كثيرة جعلتنا عالقين فيه منذ طفولتنا
منذ نعومة أظفارنا حين نتأخر دراسيا فإن هذا لا يعني أن هناك فروقا فردية ولا أننا نتمتع بأنواع من الذكاء ليست هي التي تختبرها المدرسة، بل يعني عند من حولنا أننا فاشلون وكسالى، وأننا مخفقون لأننا نستحق الإخفاق والمهانة والازدراء، ربما نحظى بأبوين رحيمين، لكننا هذه الكلمات ستأتينا من الناس حولنا
وحين يكون الأطفال الآخرون أكثر وسامة وطولا وجمالا منا فهذا لا يعني أننا نتمتع بجمال خاص مختلف عنهم أوأننا لسنا مسؤولين عن جيناتنا وتاريخنا الوراثي، بل يعني أننا قبيحون وغير جاذبين وربما غير نظيفين ولا مهذبين
ومهما كان الطفل ذكيا أو جميلا فلا بد أن يساوره القلق من الانحدار إلى جحيم من يراهم دونه أو يسحقه من فوقه،
الجو مكتظ بأجمل وأحسن وأفضل وأقوى وأذكى وأسرع وأنظف وأنبل وووو من أفعال التفضيل الذي تنشر الرعب وتزرعه في نفوس الأطفال الطرية
حين يتم تكريم طالب متفوق فإنهم يلقون عليه الكثير من الثناء الذي ليس له علاقة بجدارته وتعبه، مثل القول أنه طالب مؤدب وذكي ورائع وقدوة وذو مستقبل، يعني هذا للآخرين أنهم غير مؤدبين وأغبياء ولا يصلحون أن يكونوا مثالا في أي شيء
هنا تبدأ الفطرة بالتعفن ويظهر فيها فطريات الحسد، حيث يتمنى الصغار أن يخفق هذا المتفوق لأن تفوقه يعني أنهم بلهاء وغير جديرين بالاحترام بل حتى أنهم غير صالحين لأن الذكي متفوق ومؤدب
لم يكن لدينا ولا لدى الكثيرين حولنا قدرة على التفريق بين ما الشيء الذي يعبر عن كفاءتنا والشيء الذي لا علاقة لنا به ولا نستحق الذم ولا المدح أيضا بسببه.
بل حتى في الأوساط الأخلاقية التي تربي على الدين والفضيلة لم تسلم من هذه المشكلة والإسهام في مد قلق المكانة بالوقود، وبناء معاييرها الخاصة كالحفظ والإلقاء وجمال الصوت في التلاوة مع مخاطر المشاعر المضادة بشعور الآخرين بالمهانة وخسارة التقدير
وأسهم الثقافات المجتمعية في تكريس القلق حين شيدت الكثير من المعايير وربطت بعضها ببعض بطريقة اعتباطية، ففي حين تبدو السمات الجسدية قدرا كونيا لا يستحق الإشادة ولا الازدراء، تحولت إلى منصات لبث القلق لدى الإنسان حول مظهره وطوله ولونه وشعره مع دعم غير برئ من الرأسمالية الاستهلاكية التي تعتاش على هذا القلق فقد تسمع عن علاقة جمال شعرك ورشاقة جسدك بجدارتك وكفاءتك بل حتى أخلاقك وقيمك
وإذا كان قلق المكانة الجمالية يثير الرعب لدى الفتيان، فإنه أكثر توحشا في التهام قلوب الفتيات،
وفي كل مرحلة عمرية من الطفولة حتى الكهولة والهرم الكثير مما يوقظ قلق المكانة فينا
ففي حين يغادر الموظف وظيفته، تأتيه إيحاءات القلق من فقد المكانة التي كان يتكئ عليها في وظيفته ومنصبه وتاثيره وقلق المكانة عند عبوره مرحلة الشباب أو الصحة أو الثراء وهكذا تبدو معايير المجتمع التي تقذف بالإنسان في ورطة القلق الخبيث بلا نهاية
وفي محاولة تبدو يائسة للتخلص من مطاردة هذه المشاعر نهرب إلى صناعة مكانة مزيفة نكتب ألقابا كثيرة بجوار أسمائنا، نتوسل الآخرين للحديث عنا، لكتابة قصيدة، أو نقيم حفلة ندعو إليه العديد من المشهورين لعل أضواء شهرتهم تضيء عتمة القلق في نفوسنا، نجتر ما يقوله المجاملون في مديحنا، نقرب الذي يساعدوننا في صناعة هذاالوهم عنا، بل أحيانا نصدق شيئا لا يمكن تصديقه، نمارس نشاطا لا تساعدنا فيه مواهبنا نكتب قصيدة لأول مرة في حياتنا كأنما ولد النابغة في أدمغتنا
يبدو كل شيء حولنا غير قادر على مساعدتنا للتخفيف من قلقنا
لست أتحدث عن الذين يعانون من تأخر مكانتهم في أي معيار اجتماعي
الحديث عن الجميع حتى أولئك الذين يجدون أنفسهم في مكانة عالية تنتابهم نوبات القلق ذاتها من أن ينزلقوا إلى الأسفل ومن مشاعر الضغينة تجاه شركائهم الذين يظهرون بعض التفوق أحيانا.
الجميع يجتذبهم ثقب المكانة الأسود
حتى التحليل النفسي يجعل هذا القلق حاجة أساسية لنا، وأننا مفتقرون لهذا الاحترام مما يجعله يقول لنا استسلموا فأنتم لا يمكنكم العيش بدون الاحترام الذي يتفضل به الآخرون لكم
الحل رغم صعوبته، ورغم تاريخنا المرضي الطويل لا يزال ممكنا، ولكنه بعد قوة الله بأيدينا، بإعادة الكفاح لاستعادة كرامتنا التي منحنا الله إياها لمجرد كوننا آدميين، دون شرط إضافي (ولقد كرمنا بني آدم)
الكرامة الطليقة من معايير اللون والنسب والثروة والمنصب والمؤهل ومعايير الجسد والتباين في الذكاءات
الكرامة التي ننميها بالمعيار الذي وضعه ربنا والذي بيده وحده حسابنا والحكم علينا ووضعنا في المكانة العادلة
وهو معيار التقوى
ليس الأمر سهلا، نحتاج إلى إعادة تطهير ذواتنا من تجاربنا الماضية وتصحيح مفاهيمنا، وإغلاق كل منافذ العبث بكرامتنا
نحتاج إن نعيد الصراخ بأنفسنا أن كل هذه المعاييرالتي تصنع القلق على المكانة في أعماقنا مجرد أوهام وزيف تنهار عند أسوار المقابر حيث يبدو الناس هناك سواء،
يجب أن يكون لدينا الحصانة الكثيفة من مطارق التقييم التي تقهرنا للعودة للقلق بشكل لحظي وآني كل يوم
بنبغي أن نستعيد حرية أرواحنا من ابتزاز العواطف حولنا،
ومن تسول الحب الذي يجعلنا مرتهنين للمكان، حين نعتقد أنهم لن يحبوننا إلى في الوضع الذي يشترطونه،
وكل حب مبنى على شرط ينهار عند فقده، وكل الشروط الدنيوية ستنهارحتما الثروة والجمال والصحة والظرافة والشباب
ويبقى الحب بالمعيار الإلهي هو الذي يتعدى اسوار المقابر ومن يمنحون حبهم لله لا يثيرون أي مشاعر للقلق.
مختارات