وعالجت بني إسرائيل
قبل أكثر من عقدين من الزمان
وفي مدينتنا الصغيرة اجتمع نفر من الصالحين والمحبين للعمل الخيري لينشؤوا جمعية خيرية لنشاط دعوي..
وتم لهم ما أرادوا بعد جهود ومراجعات وخطابات وبعد سنوات من التأسيس.
تغير رئيس مجلس الإدارة وحدث خلاف بين عضو من أعضاء المجلس ورئيس المجلس.
ومع حضوري لتفاصيل الخلاف حينئذ فقد نسيت الآن تفاصيله.
لكن الجمعية كانت أول نشاط مؤسسي أشارك فيه.
وجئت بتوقعات مرتفعة عن الجمعية وأعضائها فأصدقائي هؤلاء كلهم يعمل متطوعا ويعاني ويتعب ويضحي دون مقابل مادي أو دنيوي.
تحركه رغبة في الثواب والاحتساب
لقد كانوا قدوات حقيقية في الخير والبذل والنفع. بل هم غاية ما يمكنه تصوره من الخيرية في مجتمعنا الصغير ذاك.
لم يكن من السهل قبول فكرة الصراع في هذه الجو الذي ينبغي - في قناعتي وقتها- أن يكون مثاليا نقيا من حظوظ النفوس وأهوائها.
أحزنني وأذهب الكثير من شغفي بالعمل التطوعي ما رأيت وسمعت أثناء محاولات التوفيق بين طرفي الخلاف.
كنت أشارك مع بقية الأعضاء في إصلاح العلاقة وتقريب المتخاصمين.
وفي الوقت نفسه عزمت على مغادرة هذا الجو في أول فرصة ممكنة.
لم أكن قادرا على التوفيق بين توقعاتي الحالمة شديدة المثالية عن عالم التطوع وبين هذه الحادثة التي بدت لي غير معقولة؛
إذ كيف يبدو الإنسان مصرا على رأيه الذي يضر بالجمعية بسبب خلاف مع آخر.
مع أنه جاء إلى الجمعية متطوعا ليس له أي أطماع من أي نوع.
مع الأيام تبين لي أنني
كنت المخطئ الوحيد من بين شخوص القصة
وأكثرهم بعدا عن العدل والواقعية
وأشدهم عنتا
فالجمعية ليست أكثر من نشاط بشري يعمل فيه الناس بطبائعهم وضعفهم ومشاعرهم وتصوراتهم وإخفاقاتهم وانفعالاتهم
لا يتحولون إلى طبيعة ملائكية حين يدخلون مجال التطوع وليسوا ملزمين بذلك.
نعم هم يجاهدون أنفسهم لكنهم حتما سيتعثرون مرارا وستخذلهم قواهم في مواقف كثيرة.
ليس من الرحمة والعدل تضخيم اخطائهم ولا الصدمة من سلوكهم ولا شطب جبال الخير في نفوسهم بسبب أشواك على سفوحها.
كما كنت مخطئا حين تصورت أن البذل والتطوع سيمنحنى عالما روحانيا وفردوسا أرضيا من الصفاء والسكينة والنقاء وأنني سأعيش في جنة عاجلة من الراحة والشغف المطرد وأن كل الشركاء قد تخلوا عن طينتهم عند أبواب المؤسسات والجمعيات الخيرية وأتو بنفوس قدسية للمكان.
لقد حاولت الهرب لأنني كنت أنانيا أفتش لنفسي عن روضة أتنعم فيها وأغادر ميدان التعب والمصابرة والألم والقلق والغضب والإخفاق والمرارة.
هذه التعانق بين عبودياتنا والبحث عن الراحة العاجلة حتى يكون ذلك شرطا للاستمرار غفلة عن معنى الابتلاء التي سنها الله في الحياة.
أدخل الحرم في رمضان أجد مكانا رائعا هادئا يأتي الإمام الذي أحب قراءته أكبر للصلاة ممنيا نفسي بتحليق روحي للسماء.
يصرخ طفل قريب ويواصل بكاءه أو يأتي مصل فيقحم نفسه في مكان ضيق بيني وبيني مجاوري في الصلاة
أو يصطف بجوارك مدخن للتو ترك سيجارته.
العبودية أن تواصل في كل أجواء التعب.
في عرفة وفي لحظة من دقائق الحضور يقطع دعائك مناد للحديث
كل هذا ليس صدفة ولا خبط عشواء
لكنه يقول لك هنا التعب
والجنة هناك
لقد كانت مريم هانئة بالتعبد في المحراب في عالم من السكينة والنقاء والطهر والبعد عن كل مكدرات الحياة يأتي رزقها بغير حساب.
لكن العبودية أخرجتها من المحراب إلى الحياة إلى مواجهة التهم واللمز ووجوه الأشرار.
العمل التطوعى ليس مكانا لاستجمام الروح أو استرخائها
بل هو معاندة ومكابدة وكلوم وآلام ومصابرة للنفس على مواجهة الحياة بكل ألوانها.
ربما تفضل أن تحظى بجلسة هادئة في مكتبتك أو محرابك على اجتماع عاصف مع موظف في عمل خيري أو تطوعي
لكن ليس الصفاء الروحي هو معيار التفضيل
معيار التفضيل هو الوحي.
أحاول استعراض سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف ذاق كل ألوان التعب وخاطب الناس وتذكرت قول موسى عليه السلام
في الصحيحين وفي ليلة المعراج
لما لقي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام
فَقالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْم، قالَ: إنَّ أُمَّتك لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْم؟ وِإنِّي واللهِ قَدْ جَرَّبْتُ النّاسَ قَبْلَكَ، وعالَجْتُ بَنِي إسْرائِيلَ أشَدَّ المُعالَجَةِ، فارْجِعْ إلى رَبِّكَ فأسْالهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ،
استوقفتني ( وعالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة)
عالجتهم أي: تعاملت معهم ومارستهم ولقيت منهم شدة في الدعوة إلى الطاعة.
أشد المعالجة
ياله من تعبير نبوي يختصر كل آلام الطريق ويضيء عتماتها
أشد المعالجة ينبغي أن يصطحبها المربون والدعاة والعاملون في كل مجال خيري أو تطوعي.
مختارات