التسليم بالقدر
لماذا يموت الأطفال؟ ويتعذب مرضى السرطان والمصابين بالحروق البليغة؟ لم يخلق بعض الناس بتشوهات خلقية؟ إذا كان مصيرنا النهائي محدد سلفا بأن ندخل النار مثلا لماذا نخلق ونعذب؟
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأحلام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
سؤال الشر في العالم، وأسئلة القدر والجبر؛ هي الأكثر حضوراً في أي خطاب إلحادي، أو شكوكي. تجدها في المقالات، وفي الكتب، وفي الروايات، وفي الأفلام السينمائية، وبصيغ متشابهة. الإجابات القديمة والحديثة عن هذه الأسئلة كثيرة ومتشعبة، وتتفاوت في القوة والضعف. ويبقى في هذه الشعاب الغامضة معنىلابد من كشفه.
إن من يبحث في باب القدر عن إجابات بالمنطق الرياضي التام سيواجه مصاعب مستحيلة، ومن يظن أنه لابد من وجود هذه الإجابات الرياضية لإفحام الخصوم فهو غالط.
وسبب ذلك أن القدر سر الله في خلقه، ولا يمكنك إدراك العلل التي كتبها الله لضلال بعض الناس، وهداية آخرين، وعافية أناس، وتقدير المرض الشديد لغيرهم،…الخ. إذا ما الحل؟ لا يوجد حل سوى الإيمان والتسليم. واليقين التام بالحقائق التالية: “ولا يظلم ربك أحدا”، “اعملوا فكل ميسر لما خلق له”، وأن الله يضل من يشاء بحكمته، ويهدي من يشاء برحمته، يقول ابن الجوزي: (رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار، فيقول قائلهم: إن وفّقْتُ فعلت، و هذا تعلل بارد، ولعمري إن التوفيق أصل الفعل، ولكن التوفيق أمر خفي،والخطاب بالفعل أمر جلي فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي). وبغير هذا الإيمان بعدل الله المطلق، وبقصور نظر العبد، وذاتية معاييره، ومحدوديتها، وبتقرير استحالة إدراك سر القدر على وجه التمام، لا يمكن الجواب على هذه الأسئلة، جواباً صحيحاً. وصعوبة إدراك سر القدر راجع إلى انعدام المثال المشابه له في الواقع، فليس يقع في عالم الشهود أن تتحرك إرادة دنيا، وهي تشعر ضرورة بحريتها، مع كونها محكومة بإرادة عليا، لا تخرج عن مشيئتها ألبتة، هذا لا نظير له في دنيا الناس.
ومناقشة الملحد أو المشكك بالأديان أو الإسلام في هذا الباب -في معظم الأحيان- ضارّة، وغير مثمرة، لأن الاعتقاد بالقدر فرع عن الإيمان بالله، وبكماله، وتمام عدله، ولا يمكن بغير هذا الإيمان التدليل الرياضي عليها. والإيمان الإجمالي بهذه المعاني كاف للنجاة في الآخرة. ومن يريد المزيد حول ذلك فلينظر في كتاب “القضاء والقدر” للمحمود، والمجلد الثامن من الفتاوى لابن تيمية، وشفاءالغليل لابن القيم، والعواصم والقواصم لابن الوزير، رحمنا الله وإياهم.
وسمعت من بعضهم أن المسيحية تتصف بالإيمان بالتناقض الأعمى، وأن الإسلام عقيدة معقولة وواضحة، وهذا حق، ولكن الذي ينقص هذا الكلام تقرير القول بأن الإيمان بالشرع لايثبت إلا على قدم التسليم، ليس بالمتناقضات كالتثليث، وإنما بالغيب المحيّر، كالقدر، فالرسل عليهم السلام يأتون بمحارات العقول، لابالمحالات، كمايقول ابن تيمية.
مختارات