فقه الصبر (١)
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)} [العصر: ١ - ٣].
وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)} [البقرة: ١٥٥ - ١٥٧].
وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)} [آل عمران: ٢٠٠].
الإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر، ومدار سعادة الدنيا والآخرة عليهما.
فلله على كل عبد عبودية في حال العافية، وعبودية في حال البلاء، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر.
وساحة العافية أوسع للصبر من ساحة البلاء، لكن بعد نزول البلاء فليس للعبد أوسع من الصبر، وأما قبله فالعافية أوسع له كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ وَمَا أعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه (١).
والصبر: هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن ما لا يحمد.
وحقيقة الصبر:
هو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به الإنسان من فعل ما لا يحسن فعله، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، والثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وحدُّ الصبر: أن لا يعترض على التقدير، فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر.
والشكوى نوعان:
أحدهما: الشكوى إلى الله، فهذا لا ينافي الصبر كما قال يعقوب - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: ٨٦].
الثاني: شكوى المبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذه لا تجامع الصبر؛ بل تضاده وتبطله، وفرق كبير بين شكوى الرب، والشكوى إليه.
والصبر والجزع ضدان كما قال سبحانه عن أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (٢١)} [إبراهيم: ٢١].
والنفس مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام، والزمام للمطية، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب، ففسدت وأفسدت.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ في كل نفس قوتين:
قوة الإقدام.
وقوة الإحجام.
فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره.
فرحم الله عبداً جعل لنفسه خطاماً وزماماً، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله.
فالصبر عن محارم الله، وعلى طاعة الله، وعلى أقدار الله، أيسر من الصبر على عذاب الله وعقابه.
والصبر نوعان:
صبر محمود.
وصبر مذموم.
فالمذموم كالصبر على التعب والألم والشدائد للوصول إلى ما حرم الله من الفواحش، والكبائر، وسائر المحرمات.
والمحمود كالصبر على أنواع الطاعات، والصبر عن ما نهى الله عنه من الأقوال والأعمال، والصبر على أقدار الله.
وهذا النوع متعلقاته كثيرة، وله ارتباط بمقامات الدين من أولها إلى آخرها، وله مراتب وأسماء بحسب متعلقه:
فإن كان صبراً عن شهوة الفرج المحرمة سمي عفة، وضدها الفجور والزنى والعهر.
وإن كان صبراً عن شهوة البطن، أو تناول ما لا يجمل منه سمي عفة، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً، وإن كان على قدر من العيش يكفيه سمي قناعة، وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب سمي حلماً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة سمي وقاراً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهروب سمي شجاعة.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الانتقام سمي عفواً وصفحاً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جوداً.
فللصبر عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله الصبر.
والصبر والتصبر والاصطبار أسماء تختلف معانيها بحسب حال العبد مع نفسه ومع غيره.
فإن حبس نفسه ومنعها من إجابة داعي ما لا يحسن إن كان خلقاً له وملكة سمي صبراً، وإن كان بتكلف وتجرع لمرارته سمي تصبراً، وإذا تكلفه العبد صار سجية له، ومن يتصبر يصبره الله.
وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر.
فالصبر حال الصابر في نفسه.
والمصابرة حاله في الصبر مع خصمه كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(٢٠٠)} [آل عمران: ٢٠٠].
وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر، فالتصبر مبدأ الاصطبار، كما أن التكسب مقدمة الاكتساب، فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (١٤٦٩)، واللفظ له، ومسلم برقم (١٠٥٣).
مختارات