الليلة التاسعة
يَمتليُء بكَ المكان يا رسولَ الله.. ويراكَ الحَجيجُ قابَ قَوسَين حَولهم؛ أو أدْنى !
يَرهفون السَّمع..
فَهُنا القَصْواء.. ناقةُ النّبي ﷺ مِثل ظَبية تَحمِل عِشقها !
تَتَهادى القَصواء ؛ مِثل عروسٍ مِن عالَم الأسَاطِير..
تَغرقُ خَطوتها في بَحرٍ مِن النَّعم.. فَنهرُ النُّبوة على ظَهرها..
يَضْطرَبُ إيقاعُ الكَون مِن وَقْع قَدميها ؛ وَجلاً أن تمر تحت الخُفِّ حَصاةٌ و يَهتَزّ الحَبيب ﷺ !
يَلتَفّ الصَّحْب آلافاً ؛ مِثل شُهُب تَفرّدت في ظُلمة العّتْم..
ويَمضون مَع الرَّكْب المُبارك نَحوَ عَرَفه..
وعلى ضَفّةٍ أُخرى مِن التّاريخ ؛ يَطوي الحَجيج الّليلة أمْتِعَتهم إلى عَرفة !
ثَمّةَ مَخاضٍ يَنتظرُ الكون غَداً..
ثَمَّة مِيعادٍ مَع ألفِ ميلادٍ ومِيلادٍ.. فيا لَهفْ قَلبي:
(كيفَ يَغَفو الّليلة مَن في قَلبه شَغَف)؟!
يا هَيْبة الَفجر..
إذ تُلَوحُ أشعةُ الشّمس مَلامح النَّبي ﷺ بِأُلق النّور..
أهذا وَهْجُ التّجلي المُحَمّدي ّ.. أمْ رَجفةُ الأكوانِ ؛ وهي تُحصي أنفاسَ المَلائكة النّازِلين لاستقبالِ قافلةَ النّبي وَوفدِ النّعيم !
يَتَراصّ الحَجيج على الرّواحل، ويَتدفّقون إلى عَرفه..
فاليومُ.. سَتُتلى لهم فاتِحة البَدء مِن حَكاية فضلٍ لن تَنتهي !
يَمدُّ الحَجيج الخُطى..
ومابين النّبضة والنّبضة ؛ تَخفِقُ أرواح !
مابينَ النّبضة والنّبضة ؛ يَطيرُ حمامُ القلبُ إلى عَرفه !
فاليومُ المَوعد مَعَ الله !
فيا مَكّةَ الله..
يا بَلدةَ اللهِ فاضَ الفَضلُ فانْهَمِري !
تقتَرِبُ الشّمس مِن رِحال النّبي ﷺ تَلتمس مِن شُعاع النُّبوة شُعاعا..
تَنتَصِف الظّهيرة، ويَتبدّى ظِلّ مُحَمّد ﷺ مَزروعاً أبداً في الرِّمال !
تَزهو القَصواء ؛ إذْ تَحتَشد المَلائكة والصّحابة حَولها لِخُطبة الوَداع..
فيا للهِ..
كيفَ يتَآخَى الوَجعُ والفَرَح ؛ زَهو القَصواء وخُطبة الوَدَاع؟!
تَرِفُّ أجنِحة المَلائكة قابَ أنفاسِ النّبي ﷺ وهُوَ يَخطُب الخُطبة الأخيرة..
تَتْبَعهُ النّجمات.. وتصغي للصّلاةِ الأخيرة !
هُنا..
الوقتُ بالنَّماء يَمتَلِئ..
يَزرعُ مُحَمّد ﷺ الفِردوس بِكلماته..
ويُراق رَحيق النُّبوة في الأحداقِ الدَّامعة..
وتُتْلى الوَصية:
[إنّ دِماءَكم وأموَالكم حَرامٌ علَيكم ؛ كَحُرمة يَومِكم هذَا، في شَهرِكم هَذا، في بلِدكم هذا..
ألا كلّ شيءٍ مِن أمرِ الجَاهلية ؛ تَحتَ قَدمي مَوضُوع] !
يَلتَفِتُ الحَجيج اليوم إلى ثِيابهم ؛ هل اكْتَمَل الإحرامُ مِن بياضِ الحَلال؟!
يَتمضْمَضون تاريخاً مِن الشّوك ؛ فقد ابْتَلَت الأفواهُ كثيراً مِن أعراضِ النّاس !
ينتَحّي حَاجٌّ ويَبكي:
" يا رَبّي.. احْدَودَبَت أرواحُنا مِن ثِقَل ما فِيها..
يا َربّي.. إنّ علَينا مِن شَعَث الجَاهِلية هُموما وهُموما..
يا رَبّي.. أدْعوكَ وشَوكُ المَعاصي على شفتَي..
يا رَبّي.. لا تَجعل رُجوعي مِن هُنا مُرّا " ً !
يغرَق الحَجيج في أسرارِ صَمت تُنبؤُك َ؛ أنَّ في الخَوابي دَمعٌ يُخفيه القَوم !
يُداري شابٌ اخْتِنَاقه..
ما أصدق الدّمع وهوَ يفضَح ُصاحِبه !
يَنتَبِذ رجلٌ عَن خَيْمَتِه في نَوْحٍ شَهِيّ:
" يا رَبِّ.. هَبْ ضَعفي يداً بَيضاءَ مِن غيرِ سُوء تَمتَدّ إليكَ.. و ادّخِرني لَدَيك " !
تَرْتَجّ البِقاع.. ويَشتَدّ النّاس في الوَجَل..
وتَسمعُ هَمْس تَائِب:
" يارَبّي سُفُني مَثقوبة..وأشْتَهي الإبحار إليكَ.. وليسَ معي إلا أشْرِعة مُمَزّقة !
يا رَبِّ.. تُذكي خَطيئتي ناراً أنتَ تَعْلّمُها.. فأطْفِئ أُوار النّار " !
تَلْمَحُ عبْداً يَتأرْجَح بينَ احتراقٍ وَرغبةٍ في انْعِتاق..
فيا للهِ ؛ كيفَ يَهتَزّ العَرشُ لِبَعض الدّعوات؟!
كَبياضِ اليَاسَمين ؛ يَرتفعُ صوتُ النّبي ﷺ للأُمِّة:
[اتَّقوا اللهَ في النِّساء، فإنَّكم أخذْتُموهنّ بأمانِ اللهِ] !
تَحشَدُ عَرَفه أصداءَ الوَصِية، وتُصبح الدُّروب مَرْوية بالمَطَر..
أوّاهُ.. لو نُهاجِر مِن جُذورنا إلى جُذورك يا رَسولَ الله !
في قاموسِ البِرّ مَعانٍ كَثيرة.. تَمتَشِقُ الوَصية القُبّة فيها..
أتَذكرُ النّساء في خُطبة الوَداع؟
يا قامَةَ النُور ويا خيرَ البَشَر !
يَستقبِل النّبي ﷺ القِبلة، ويَظَلُّ واقِفاً مِن وقتِ الظّهيرة ؛ حتّى تَصْفَرّ الشّمس ويَغيب القُرص في تَبَتُّلٍ عَجيب..
يَرتَجِف الكَون، وتُهاجر المَلائكة إلى الأرضِ أسراباً.. ويًصمِت الحَمام..
تَقترب ساعة الدُّنوّ.. وتِجفل السّماء.. يُنادي النَّبي ﷺ في الصّحابة:
[السّكينةَ السّكينة]..
تطرُق الأرواحُ، ويَفيض وَهْجٌ خَفِيّ، ويَهتَزُّ عابدٌ مِن شِدَّة الوَجْد ويَصيح:
" يا عافِية العَليل يا عَرَفه..
يا الله.. لا تَترُكني مُلقىً دونَ طَريق !
يا ربِّ.. لا مَسافةَ بينَ الكافِ والنُّون.. لا مسَافةَ إلا في وَهْمِي.. لا مَسافةَ إلا مِن ذَنْبِي فيا مولْاي ؛ أنتَ الحَبيبُ وأنتَ الحُبّ يا أمَلي، مَـن لي سِـواكَ، ومَن أرجوهُ يا ذُخري " !
يا رَبِّ..
في مَوِقفِ عرَفه ؛ أعمارٌ هي ثلاثونَ أو أربَعون أو سِتُّون انتظاراً.. فامْنُن عليها بِدَهشةِ الفَضْل !
في نَاحِيةٍ بَعيدة.. تَسيلُ عينُ حاجٍّ وهُوَ يقولُ:
" يا رَبِّ قَد كََبُرتُ فأعْتِقني..
يا وَيلاهُ ؛ كيفَ قَيَّدْتُ في الهَباء طَريقي " !
فيا لازدحام ِالدّعوات..
ويا لازدحام الدَّمَعات ؛ تُرَتِّل أسماءَ أصحابِها.. و (دَمَعاتُ أهل العِشق تَرتِيل) !
يقومُ عاشِقٌ في عرَفه يَشتهي أن تَقع قَدَمٌ على قَدم.. وهو يقولُ: " قليلَ مِن يَدِ اللهِ كَوْثَر "..
فكيفَ واليومُ هو يومُ الكَثير !
صَدَق الثّورِيُّ إذْ قالَ:
" أخْسَرُ النّاس صَفقةً ؛ مَن ظنَّ أنّ اللهَ لا يَغْفِرُ لِهَؤُلاء " !
تلوحُ خُيوط النّعيم ؛ تَنْسِجُ للحَجيجِل بُردة المَغفرة..
عَبَقٌ شَهيٌّ يَغمُر المَكان..
تُظَلّل السّكينة غُربة التّائهين..
لا قَلَقَ بَعدَ اليوم ولا سَراب..
يَخِفّ وَجيبُ القُلوب لحظةَ الاقتراب الإلهيّ، وتُمسُّ الأحلام ؛ فَقد استُجيبَ الدُّعاء !
يَبكي لاجِئٌ يَمَنِيٌّ ؛ يارَبّ مُنّ عَلينا بِزَمنٍ { فيهِ يُغاثُ النَّاسُ وفيهِ يَعصرُون }..
فَيَردُّ عَليه صَبِيّ مِن الشّام ؛ يا رَبّ آمِين !
يَمنحُ رِجلٌ مِن القُدسِ مِنديلَ شَهيد ؛ لِسَيّدة مِن العِراق ويقولُ لَها:
لَنْ يَجِفّ زَمنٌ فيهِ عرَفَه..
لولا دُعاءُ عرَفَه لصارَ العَالَمُ خراْباً !
تَصْفرُّ الشّمس..
وتُصبح عَرَفه ساحةَ عُرسٍ مُبَلَّلة بالنّدى..
الغُيومُ في أيدِي الحَجيج..
وفي قُلوبهم مَطَر..
يَبتَسِمون للسَّماء..
ثَمَّة ضوءٍ يُعيدُ تَرتِيبهم.. فَقد اكْتَملَ الشَّفَقْ !
مختارات