96. عثمان بن مظعون
عثمان بن مظعون
"آثر ابن مظعون جوار الله على كل جوار"
كانت العرب في الجاهلية ترى أن العيش كل العيش في كأس خمر ينتشي (١) الشاربون بحمياها (٢).
وغانية (٣) لعوب يستمتع المعجبون بجمالها.
وغزوة على ظهور الجياد الصافنات (٤) يستحل بها الغزاة ما حرم الله من دماء العباد وأموالهم.
لكن عثمان بن مظعون - أحد حكماء العرب في الجاهلية - كان يرى أن للحياة غايات أسمى من ذلك، وأهدافا أجل …
من أجل ذلك؛ حرم الخمرة على نفسه؛ فما عرف لها طعما …
ولما سئل عن ذلك قال:
تبا (٥) لكم …
أأشرب شيئا يذهب عقلي …
ويضحك مني من هو دوني …
ويجعلني أنكح كريمتي لمن لا أريد …
والله لا أذوقها ما امتدت بي الحياة.
* * *
ولما أشرقت جزيرة العرب بنور الإسلام، وبعث الله نبيه ﷺ بدين الهدى والحق؛ كان عثمان بن مظعون من المبادرين (٦) إلى الدخول في دين الله ﷿.
إذ لم يسبقه إلى هذا الخير غير اثني عشر رجلا.
* * *
ولإسلام عثمان بن مظعون؛ قصة رواها عبد الله بن عباس (٧)؛ قال:
بينما كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه جالسا بفناء بيته في مكة؛ إذ مر به عثمان بن مظعون غير آبه له، أو ملتفت إليه؛ فقال له النبي:
(ألا تجلس إلي يا أبا السائب نتحدث ساعة)؟.
قال: بلى (٨).
ثم جلس أمامه …
وبينما هو يحدث النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ رآه وقد شخص ببصره إلى السماء، وثبت نظره فيها قليلا من الوقت …
ثم جعل يهبط ببصره إلى الأرض شيئا فشيئا حتى استقر فيها …
ثم أخذ يتحرف (٩) عن جليسه عثمان بن مظعون؛ حتى بلغ المكان
الذي وضع بصره فيه …
ثم جعل يحرك رأسه كأنه يستفهم عن شيء يقال له …
كل ذلك جعل عثمان بن مظعون ينظر إلى النبي دهشا مما رأى؛ مستغربا ما وقع.
فلما بدا الرسول صلوات الله وسلامه عليه وكأنه وعى جميع ما قيل له؛ أخذ يرفع بصره نحو السماء شيئا فشيئا؛ كأنما يتتبع أحدا …
ثم علق بصره بذلك الذي توارى (١٠) في السماء.
كأنه يتملى (١١) منه ويودعه.
ثم عدل إلى عثمان بن مظعون ببصره وجسده؛ كما كان أول الأمر.
* * *
عند ذلك حدق عثمان بن مظعون ببصره في وجه الرسول صلوات الله وسلامه عليه طويلا، وقال:
يا محمد، لقد جالستك قبل ذلك كثيرا؛ فما رأيتك تفعل فعلك اليوم.
فقال النبي ﷺ: (وهل تنبهت إلى ذلك يا عثمان)؟!.
قال: نعم لقد تنبهت إليه.
فقال النبي:
(أتاني رسول الله جبريل آنفا (١٢) وأنا جالس).
فقال عثمان: تقول رسول الله؟!.
فقال النبي ﷺ: (نعم).
قال: وما الذي قاله لك؟!.
قال: لقد قال لي: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء (١٣) ذي القربى، وينهى عن الفحشاء (١٤) والمنكر (١٥) والبغي (١٦)، يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (١٧).
قال عثمان: يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى!! …
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي!!.
نعم ما جاءك به؛ فلقد أمر بلباب (١٨) الخير.
ونهى عن جذور الشر كلها.
* * *
قال عثمان:
فما إن سمعت ما سمعته منه؛ حتى استقر الإيمان في قلبي …
وصار محمد ﷺ أحب إلي من نفسي وولدي …
ثم أسلمت لرب العالمين، وأسلم معي ابني السائب وأخواي: قدامة، وعبد الله.
* * *
لم تنكر قريش في باديء الأمر على المسلمين إسلامهم …
فما كانت تزيد - إذا رأت محمدا يمر بها - على أن تقول في هزء (١٩):
إن غلام بني هاشم يكلم من السماء ويتنزل عليه الوحي منها.
فلما عاب النبي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا …
غضبوا لذلك أشد الغضب …
وأوقدوا على الرسول ﷺ وأصحابه نيران العداوة والبغضاء.
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، وطفقت ترهقهم من أمرهم عسرا (٢٠)، فتضرب أجسادهم بالسياط …
وتكوي أبدانهم بالنار …
وتطرحهم على الرمال الملتهبة في رمضاء (٢١) مكة؛ لتردهم عن دينهم.
والرسول يرى بعينيه ما يحل بأصحابه؛ فيتفطر (٢٢) قلبه أسى (٢٣) عليهم ولوعة (٢٤) على ما يعانون ولا يملك إلا أن يقول لهم:
(صبرا صبرا؛ فإن موعدكم الجنة).
عند ذلك؛ أذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة؛ فارتحلت إليها طائفة من المؤمنين …
مخلفين وراءهم الأهل والوطن …
مودعين العشيرة والسكن …
فارين بدينهم إلى الله.
وكان في طليعة المهاجرين عثمان بن مظعون وابنه وأخواه.
* * *
لم يمض على هجرة المسلمين إلى الحبشة طويل وقت؛ حتى جاءتهم الأخبار كاذبة أن جل (٢٥) قريش قد دخلوا في دين الله، وآمنوا بما أنزل على محمد رسول الله ﷺ؛ فعاد كثير منهم إلى مكة، وهم لا يعلمون ما يخبئه؛ لهم القدر من ابتلاء (٢٦) …
وكان في طليعة العائدين عثمان بن مظعون.
وما إن وطئت (٢٧) أقدامهم أرض مكة …
حتى استقبلتهم قريش بمثل ما ودعتهم به من تعذيب وتنكيل (٢٨) …
وأحلت بهم من الأذى والضر ما لا يطيقون.
فدخل عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة سيد بني مخزوم، وأكبر زعماء قريش، ووالد سيف الله خالد (٢٩) …
فقد كانت تربطه به بعض الأواصر العريقة (٣٠) القديمة.
* * *
عاش عثمان بن مضعون في حمى (٣١) الوليد بن المغيرة، ولقي في جواره
أقصى ما يطمح إليه من السلام والأمن، ولكنه لم يطب نفسا بهذه الحماية …
فقد كان ينغص (٣٢) عليه حياته الوادعة الآمنة أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ يلقى من أذى قريش ما يلقاه، وأن إخوته في الله يعانون من بطشهم (٣٣) ما يعانون …
مما جعله يتهم نفسه بالأثرة (٣٤) والجبن، وضعف الإيمان …
ويتقلب على نار هادئة من تعذيب الضمير.
* * *
فلنترك لعثمان بن مظعون الحديث عن أزمته النفسية هذه؛ حيث قال:
لما رأيت ما فيه أصحاب رسول الله ﷺ من البلاء، وأنا أغدو وأروح في أمان من الوليد بن المغيرة؛ قلت في نفسي:
تبا لك يا بن مظعون …
إنك تعيش آمنا مطمئنا في جوار رجل مشرك، والنبي ﷺ وأصحابه يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبك …
إن في ذلك لنقصا كبيرا في نفسك وضعفا خطيرا في إيمانك …
ثم مشيت إلى الوليد بن المغيرة، وقلت له:
يا أبا عبد شمس؛ لقد وفيت لي بذمتك (٣٥)، ولقيت في حماك السلامة والأمن …
ولكني أريد أن أرد إليك جوارك.
قال: ولم يا ابن أخي؟ …
لعله آذاك أحد من قومي؟!.
فقلت: لا، ولكني أثرت (٣٦) جوار الله على كل جوار؛ فلا أريد أن أستجير بأحد غيره.
قال: إذا كان لا بد من ذلك فانطلق معي إلى المسجد؛ فاردد علي جواري على ملإ من قريش؛ كما أجرتك على ملإ منهم.
فانطلقنا حتى أتينا المسجد؛ فقال الوليد:
يا قوم؛ هذا عثمان بن مظعون جاء يرد علي جواري.
فقلت: صدق؛ وإني وجدته وفيا كريم الجوار …
ولكني أردت ألا أستجير بغير الله؛ فرددت عليه جواره.
* * *
قال عثمان بن مظعون:
ثم انصرفت؛ فمررت بمجلس لقريش توسطه لبيد الشاعر، وجعل ينشد القوم شيئا من شعره والناس يسمعون.
فقال لبيد:
"ألا كل شيء ما خلا (٣٧) الله باطل".
فقلت: صدقت.
فأتبع يقول: "وكل نعيم لا محالة زائل".
فقلت: كذبت؛ إن نعيم الجنة لا يزول …
فاستشاط (٣٨) لبيد غيظا من كلمتي هذه وقال:
يا معشر قريش؛ والله ما كان يؤذى جليسكم؛ فمتى حدث فيكم هذا؟!.
فقال رجل من القوم: إن هذا رجل سفيه من جماعة سفهاء؛ قد نبذوا (٣٩) آلهتنا …
وفارقوا ديننا؛ فلا يغيظنك قوله.
فأقبلت على الرجل الذي قال فينا وفي ديننا ما قال، وتلاحيت (٤٠) معه، فلطمني لطمة أسالت (٤١) عيني؛ فما عدت أبصر بها.
وكان الوليد بن المغيرة قريبا مني؛ فالتفت إلي وقال:
إن عينك يا ابن أخي كانت - والله - غنية عما أصابها.
فقلت: بل - والله - إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.
فقال: هلم يا ابن أخي؛ فعد إلى جواري - إن شئت -.
فقلت: إني لا أعدل بجوار الله تعالى جوارا.
* * *
ومنذ ذلك اليوم طفق (٤٢) أذى المشركين يشتد على عثمان بن مظعون ويقسو، وأصبح هو وذووه هدفا لنكاية قريش، وبطشهم … مما حمله على أن يكون في طليعة المهاجرين إلى المدينة …
وهناك شهد مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه هو وابنه وأخوه بدرا؛ فأبلوا (٤٣) في ساحتها أصدق البلاء وأكرمه، وأدوا حق الله ورسوله ﷺ عليهم، وخرجوا منها - مع المسلمين - منتصرين فائزين.
* * *
وما هو إلا قليل حتى مرض عثمان بن مظعون مرض الموت، وفارق الحياة.
فلما طار خبر وفاته إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه مضى إليه، وملء جوانحه (٤٤) الحزن …
ورفع الملاءة عن جبينه الطاهر الأغر؛ فقبله …
أحب عليه مرة أخرى فقبله الثانية …
ثم أكب عليه الثالثة فقبله أيضا …
وإذا دموع النبي الكريم ﷺ تتحدر على وجهه المشرق النبيل؛ فبكى من حضر من المسلمين لبكائه.
* * *
رضي الله عن الصحابي الجليل عثمان بن مظعون وأرضاه …
وجعل في أعلى عليين مقره ومأواه.
فقد آثر جوار الله على كل جوار (*) …
_________
(١) ينتشي: ينعم ويهنأ.
(٢) بحمياها: بسورتها وحدتها.
(٣) الغانية: هي الفتاة التي استغنت بجمالها عن الزينة.
(٤) الصافنات: جمع مفرده صافن، وهو الذي يقف على ثلاثة أقدام ويرفع الرابعة.
(٥) تبا لكم: هلاكا لكم.
(٦) المبادرين: المسرعين.
(٧) عبد الله بن عباس: انظره في الكتاب الثالث من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٨) بلى: نعم.
(٩) يتحرف عنه: يتنحى عنه.
(١٠) توارى: اختفى.
(١١) يتملى منه: يملأ عينيه منه.
(١٢) آنفا: قريبا.
(١٣) إيتاء: إعطاء.
(١٤) الفحشاء: الزنى.
(١٥) المنكر: المرفوض شرعا من الكفر والمعاصي.
(١٦) البغي: الظلم.
(١٧) سورة النحل آية ٩٠.
(١٨) اللباب: الخالص من كل شيء، والمراد: الخير الخالص.
(١٩) الهزء: السخرية.
(٢٠) ترهقهم من أمرهم عسرا: تكلفهم من الأمر ما لا يطيقون.
(٢١) الرمضاء: الرمال الملتهبة بحرارة الشمس.
(٢٢) يتفطر: يتشقق.
(٢٣) الأسى: الحزن.
(٢٤) لوعة: ما يجده الإنسان لولده وحميمه من الحرقة.
(٢٥) جل: أكثر.
(٢٦) الابتلاء: الاختبار.
(٢٧) وطئت: داست.
(٢٨) النكال: البطش الشديد.
(٢٩) خالد بن الوليد: انظره ص ١٨٧.
(٣٠) العريقة: أي الأصيلة.
(٣١) الحمى: ما يحمى ويدافع عنه.
(٣٢) ينغص: يكدر.
(٣٣) بطشهم: فتكهم.
(٣٤) الأثرة: اختصاص المرء نفسه بأحسن الشيء دون غيره.
(٣٥) وفيت لي بذمتك: أديت حقي من الوفاء بعهدك معي.
(٣٦) آثرت: فضلت ورغبت.
(٣٧) ما خلا: ما عدا.
(٣٨) استشاط: اشتعل والتهب.
(٣٩) نبذوا: تركوا.
(٤٠) تلاحيت معه: تنازعت معه.
(٤١) أسالت عيني: أفقدتها ماءها فأذهبت بصري.
(٤٢) طفق: أخذ.
(٤٣) فأبلوا في ساحتها: أظهروا فيها بأسهم.
(٤٤) الجوانح: الأضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر واحدتها الجانحة.
مختارات