الليلة الثامنة
الليلة الثامنة
تَنتثرُ خِيامُ مِنى في عَتمَةِ الظَّلامِ ؛ مثلَ قِبابِ النّور.
تَرتفعُ الفَوانيسُ في الخِيامِ.
ويبدو العابدونَ ؛ مثل غرَّةٍ بيضاءَ في ليلةٍ حالِكة.
وتبدو مِنى ؛ مثل حُقولِ القَمر !
يَتآلفُ هديلُ الحَمامِ في منى ؛ معَ صوتِ المُعتكفين على القرآن.
يُرتِّلون بأصواتٍ سَماويَّةٍ.
حتى يَفيض المُصحفُ في قُلوبِهم نورًا أبديًا !
يَرتشفونَ القرآنَ.
ثغورُهم تَفترُ عن ضوءٍ يَنسكِبُ في المَكان !
تَتلألأ خيامُ مِنَى ؛ كأنّها اشتِعالُ الدّهشة.
كأنها ضبابٌ كثيفٌ مِن خَفْقِ النّور.
من أجنِحةِ المَلائكَة !
هنَا.
تُنقَشُ حروفُ الآخرةِ، و تَذبلُ حروفُ الدّنيا !
هنا.
بِدءُ المسافَة إلى صوتِ السّلام في النّعيم !
وهنا.
الليلُ يقيدُهُ صوتُ القارئين !
و يَرتَقي القلبُ من الفَراغِ إلى الجَواب ؛ أنه:
" لنْ يذْبلَ قلبٌ صارَ له القرآنُ ساقيًا ".
وأن كلّ خيرٍ ؛ سيورِقُ من سُطور المُصحَف !
هنا.
تَتلو مكةُ سورةَ الأعلى، ويَلتَفتُ الحجيج ؛ُ فلا أَثَر لِـ{ حَمّالَة الحَطَب } !
يَتدثرُ الحجيجُ برائحةِ الوَحي.
و تَهمِسُ الملائكةُ:
{ يا أيّها المُزَّمِل قُمِ الليلَ } !
يَسقطُ الحزنُ، ويَستفيقُ الغيثُ في: { ألَمْ نَشْرح} !
يُصبِحُ المَدى غيومًا بِـوعد:
{ إنّا أعطيناكَ الكَوثَر} !
تَصفو النجومُ ؛ حتى كأنّ الزمانَ هو:
{ الفجرُ و ليالٍ عَشْر} !
و تَقتربُ الوعودُ المُمطرةُ ؛ حتى تَكاد تَسمع:
{ و لَسوفَ يُعطيكَ ربُّك فَترضَى } !
تَهبُّ نسائمُ الجنة في مِنى ؛ حتى كأنّها تحميكَ من:
{ شرِّ الوَسواسِ الخَنّاس } !
و تُبقيكَ في حفظ:
{ الله الصَمَد} !
و ترَى أبوابَ السماءِ ؛ إذ تنهمر بحجارة من سجيل، وتسمع الحقيقة في قوله:
{ ألم تر} !
فيا للقرآن.
كيف يتجلى في أرواح الحجيج !
تردده مكة ؛ كأنه يتنزل من { الأفق الأعلى } !
في رحلة الحج.
يتعلم الحجيج.
أنه على قدر طول الصُّحبة مع القرآنِ ؛ يمنَحُك القرآنُ من أسرارهِ، وفَيضِ بركاتِه.
ويوقفك على شرفة المستحيل !
أما بلغك أنه ﷺ كان يتبرَّكُ بآيات القرآن، و يستعين بكلمات الله !
كان ﷺ فِي غَزْوَةٍ، فَلَقِيَ الْعَدُوَّ، فَسَمِعْهُ أحد الصّحابة يَقُولُ:
(يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ).
فقَالَ الصحابي:
وَلَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ تُصْرَعُ، تَضْرِبُهَا الْمَلائِكَةُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهَا وَمِنْ خَلْفِهَا !
يقتفي إبن القيم أثر القافلة المحمدية المباركة، ويرتحل خلفها.
واسمعه إذ يقول:
" ولقد مرّ بي وقت في مكـة سَقِمتُ فيه، ولا أجدُ طبيباً ولا دواءً ؛ فكنت أعالجُ نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً، آخذ شربة من مـاء زمزم وأقرؤها عليها الفاتحة مراراً ؛ ثم أشربه، فوجدتُّ بذلك البرء التّام، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ؛ فأنتفع به غاية الانتفاع، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً ؛ فكان كثير منهم يبرأ سريعاً " !
فإن كان لك حاجه.
فأعطِ القرآن على قدر ماترغب أن يعطيك الله في حاجتك !
فقد أوصى الإمامُ إبراهيم المقدسي تلميذَه عبّاس بن عبد الدايم - رحمهم الله -:
[أكثِر من قراءة القُرآن، ولا تتركه ؛ فإنه يتيسّر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ] !
و قال العَبّاس:
" فرأيتُ ذلك وجرّبته كثيراً، فكنتُ إذا قرأتُ كثيراً ؛ تيسّر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ ؛ لم يتيسّر " !
جرّبوا ذلك باليقين.
اقرأوا سورة الفاتحة و سور القرآن !
جرّبوا قراءة سورة { ألم نشرح }.
كرروها ؛ واسألوا الله بها أن ييسر أمركم !
تشبّثوا بالقُرآن.
عامِلوه بما يليق.
وأذَنوا لكلِّ خلاياكم أن تتشرَّبَ شِفاءه، وتتنفّس روحه !
و رحم الله إبن مسعود.
الذي كان اذا قرأ القرآن ؛ كانت مِحبَرَتُه معه.
إذ كان يُسَطِّرُ فيض القرآن فيه !
مختارات