فقه المحبة (١)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)} [آل عمران: ٣١].
وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)} [الحجرات: ٧].
المحبة: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج اللسان بذكره على الدوام.
ومحبة الله ورسوله ودينه وأوليائه هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون.
وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في مجار الظلمات.
وهي الشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال.
والمقامات والأحوال.
والمحبة: توحيد المحبوب بالمحبة، وذلك بسقوط كل محبة في القلب إلا محبة الحبيب، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب، وموافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وأن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.
فتهب إرادتك وعزمك ونفسك وأفعالك ووقتك ومالك لمن تحبه.
وتجعلها حبساً ووقفاً في مرضاته ومحابه.
فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك.
.
فتأخذه منه له سبحانه.
وتمحو من القلب ما سوى المحبوب وما يحب، وهذا كمال المحبة، فما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة.
وحقيقة المحبة:
ميل الإنسان للشيء بكليته، ثم إيثاره له على نفسه وروحه وماله، ثم موافقته له سراً وجهراً، ثم علمه بتقصيره في حبه.
والمحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه، لا المراد الذي قدره الله وقضاه، والمرء مع من أحب، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، وإذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، أثمرت أنواع الثمار، وأتت أكلها كل حين بإذن ربها، وأثمرت الطاعة والموافقة.
ومحبة العبد لربه لا نهاية لها، وكلما قويت المعرفة، وزاد البر، قويت المحبة.
ولا نهاية لجمال المحبوب سبحانه، ولا لجلاله، ولا لبره، فلا نهاية لمحبته، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم، وكانت على قلب رجل واحد منهم، ثم كانوا كذلك الواحد، كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله من المحبة.
وأصل حب الله لا ينفك عنه مؤمن، أما قوة الحب فينفك عنه الأكثرون.
وقوة الحب للرب تحصل بأمرين:
أحدهما: قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد والصبر.
الثاني: قوة معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ثم تبعها العمل.
ويحصل ذلك بمعرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومداومة ذكره، ومعرفة جلاله وإنعامه وإحسانه.
والله تبارك وتعالى جعل الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته، وهو سبحانه كما أنه يحب أن يُعبد، يحب أن يُّحمد، ويثنى عليه، ويُذكر بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، ويحب من يحبه، ويحمده ويثني عليه، وكلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه؛ لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به، ولذا لا يغفر الله أن يشرك به؛ لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة، والتسوية فيها بينه وبين غيره.
ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه، وتنقص بها مرتبته عنده إذا كان من البشر، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة.
والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً، وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات في حقه.
ومتى علم سبحانه بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب، ولم يقربه إليه، هذا مقتضى الطبيعة والفطرة.
أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبودية والمحبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: ١٦٥].
والله عزَّ وجلَّ يحب نفسه أعظم محبة، ويحب من يحبه ويطيعه ويعبده، وخلق خلقه لأجل ذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك.
وهذا محض الحق الذي قامت به السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذي خُلق له، فرضي عنه خالقه وبارئه وأحبه، وإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، أبغضه ومقته؛ لأنه خرج عما خلق له، وصار إلى ضد الحال التي هو لها.
فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه، وعقوبته بدلاً من رحمته.
والأسباب الجالبة لمحبة الله لعبده هي:
قراءة القرآن وسماعه بالتدبر.
والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
ودوام ذكره على كل حال.
وإيثار محابه على محاب النفس.
مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها.
فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محاله.
ومشاهدة بره وإحسانه وآلائه.
ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة.
وانكسار القلب بين يديه سبحانه.
والخلوة به وقت النزول الإلهي آخر الليل لمناجاته وتلاوة كلامه.
والتلذذ بمناجاته ثم استغفاره.
وحضور مجالس الذكر.
ومجالسة المحبين الصادقين.
مختارات