علاج الرياء
وإنما يحصل علاج الرياء بأمرين:
أحدهما: قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه.
الثاني: دفع ما يخطر منه في الحال.
فأما قلع عروقه وأصوله: فأصل الرياء حب المنزلة والجاه، وهو يرجع إلى ثلاثة أصول وهي:
لذة المحمدة.. والفرار من ألم الذم.. والطمع فيما في أيدي الناس.
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الله؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» متفق عليه (١).
فالحمية: أن يأنف أن يُقهر.. وليُرى مكانه: هذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب.. ويقاتل للذكر: هذا هو طلب حمد الناس له باللسان.
فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء.
فإذا علم العبد أن الرياء ضار في الدنيا والآخرة سهل عليه قطع الرغبة عنه، فإنه إذا علم مضرة الرياء، وما يفوته من صلاح قلبه، وما يُّحرم منه من التوفيق في الحال، وفي الآخرة من المنزلة عند الله، وما يتعرض له من العقاب العظيم، والمقت الشديد، والخزي الظاهر، فعلمه بذلك يُسهل عليه تركه، ويبعث فيه الرغبة في الإخلاص.
هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، ومن طلب رضاهم في سَخَط الله سَخِط الله عليه، وأسخطهم عليه.
وأي فائدة للمرائي إذا مدحه الناس وذمه الله، وحمدهم لا يزيد له رزقاً ولا يدفع أجلاً؟.
وأما الطمع بما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق كلهم مضطرون إلى الله فلا رزاق إلا هو، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنَّة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب؟. وأما ذم الناس فلم يحذر منه، وذمهم لا يزيده ولا يضره شيئاً لم يكتبه الله عليه، ولا يعجل أجله، ولا يؤخر رزقه، ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة، والناس لا كمال في مدحهم، ولا نقصان في ذمهم.
وأي خير للإنسان في مدح الناس له وهو عند الله مذموم ومن أهل النار؟.
وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين؟.
ومن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد ورضوان الله أعرض عن الخلق، وأقبل على ربه، وأخلص له العمل، وتخلص من مذلة الرياء للخلق، فهذه أهم الأدوية القالعة لأصول الرياء من القلب.
وأما الدواء العملي:
فهو أن يعوِّد نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عباداته، ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله به.
وأما دفع العارض من الرياء أثناء العبادة، فالشيطان لا يترك الإنسان ولو قلع مغارس الرياء من قلبه حتى يشغله أثناء العبادات، ويعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته، وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية.
فلا بدَّ وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء.
وخواطر الرياء ثلاثة:
الأول: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم.
الثاني: ثم يتلوه هيجان الرغبة في النفس في حمدهم، وحصول المنزلة عندهم.
الثالث: ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له، والركون إليه، والقيام به، والحزم في دفع الخاطر الأول ورده حتى لا يتلوه الثاني، فيقول لنفسه: الله عالم بحالك، ومَالَكِ وللخلق، علموا أو لم يعلموا، فإن هاجت الرغبة إلى لذة حمد الناس ذكرها ما في الرياء من التعرض لمقت الله يوم القيامة.
وكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء، فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة.
والرياء فعل الخير لإرادة الخير بطلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، وإرادة العباد بطاعة الله.
والفرق بين الرياء والسمعة:
أن الرياء يكون في الفعل؛ لأن المرائي يري الناس أنه يفعل ولا يفعل بالنية، والسمعة تكون في القول.
والفرق بين الرياء والنفاق:
أن الأصل في الرياء الإظهار، والأصل في النفاق الإخفاء.
وقد يلتقي الأمران الرياء والنفاق الأصغر في عمل المنافق بإظهار مجرد الطاعة كما قال سبحانه في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢)} [النساء: ١٤٢].
وقد يختلفان كما في قيام المنافقين إلى الصلاة كسالى، وعدم ذكرهم لله إلا قليلاً، فالمرائي يظهر النشاط، ويكثر الذكر لينال مكانة عند الناس بخلاف المنافق.
والرياء من الكبائر، بل هو الكبيرة الثانية بعد الشرك بالله؛ لما فيه من الاستهزاء بالحق تعالى، وتقديم المخلوق عليه، ولما فيه من التلبيس على الخلق لإيهام المرائي لهم أنه مخلص مطيع لله وهو بخلاف ذلك.
ولهذا أطلق على الرياء الشرك الأصغر، فهو كل عبادة يراد بها غير وجه الله تعالى، فهو من أكبر الكبائر المهلكة.
والرياء درجات:
فالرياء بما عمله الإنسان كبيرة.. والرياء بما لم يعمله أكبر:
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)} [الماعون: ٤ - ٧].
مختارات