إذا نقصت الإحاطة خفَّت الشروط! (قاعدة في تقييم دعاوى الثلب والثناء)
بسم الله الرحمن الرحيم
رأيت متخصصين في بعض الفنون يشحون في الثناء على الكتب التي في تخصصاتهم، بينما يطالع أحدهم كتابا أو يسمع مادةً في غير فنِّه، فيمطرها بوابل الثناء، وهذا يفيدك أن الثناء إذا أتاك من متخصصٍ في مجالٍ فسيكون -إذا خلا من عوارض أخرى كالمجاملة- دقيقًا ! وذلك نحو ثناء أبي محمد ابن حزم على سعة علم الإمام محمد بن نصر بالآثار فقال:
(لو قال قائل ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما أبعد عن الصدق)
وهذه الشهادة العريضة يعرف لها العارفون وزنَها وذلك لخروجها من قلمِ رجلٍ ممتلئ كأبي محمد؛ فحتما لن يرسل الدعاوى الهائلة دون فحصٍ لمدلولاتها! لذا تلقَّفَ هذه الشهادة العريضة الإمام الذهبيُّ واحتفى بها قائلا:
(هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزمٍ لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيفَ لابن نصر!)
ومن جهةٍ أخرى إن رأيت الثلب والتنقص من متخصصٍ على كتبٍ أو أعلامٍ داخلَ محيط تخصصه وما أفنى فيه وقته وزمانه، فربما كانت دقيقةً، وربما كانت خارجةً من رَحِمِ تطلُّبِ الكمال التام، فهي تلائم حال قائلِها أكثرَ من سامعِها! لذا حين قال أبو المعالي الجويني عن ابن قتيبة بأنه (هَجَّامٌ ولوجٌ فيما لا يحسنه) فقال الحافظ ابن حجر: (كأنه يريد كلامه في الكلام) أي في علم الكلام؛ علَّق العلامة السيد صقر بقوله:
(ولابن قتيبة كلامٌ عن هذا العلمِ، لا يروقُ في نظر رجلٍ انغمس فيه من فرَقه إلى قدمه)
فالمنغمس في علمٍ ما من فرَقِه إلى قَدَمِه حتما ستضيق في نظره دائرةُ المبدعين فيه، وربما مع شدة التوغل في فَنٍ ما تضيق دائرة الانبهار هذه حتى لا تسع إلا رجلا واحدا، فكما يقول محمد بن إسماعيل (ما استصغرت نفسي عند أحد إلى عند ابن المديني!)
وهكذا أنتَ رأيتَ –رحمك الله- أنه كلما نقصت الإحاطة؛ خفَّتِ الشروط!
مختارات