موسمُ الحاجةِ إلى لحية!
مازالت رائحة العود الفاخر تنبعث عن خشب مكتبه، وبشته الذي يرتديه لخطبة الجمعة ينظر إليه بصمت غريب..
استقرّ وائل أمام مرآة غرفته يتفرّس في وجهه المتضمّخ ببقايا التقوى القديمة، ويتأمل شعيرات لحيته التي ندّت عن مسار الأغلبية الصامتة، أمسك بوهن مقصّه الصغير، وأخذ في تنفيذ حكم الإعدام على تلك الخارجات على النظام..
لم يكن متحمّساً لما يفعله كبقيّة الأيام، بل كان يشذب لحيته وهو في حالة وهن غريبة.. وكأن صراعاً ما يطحن أضلعه، لقد سئم هذا " اللوك ".. وبات يتطلّع إلى تجديد ما.. خاصة بعد أن صافحته ابتسامات أنثوية عقب نشره لمقالته الأخيرة عن " هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".. كانت ابتسامات من نوع آخر.. لها نكهة فريدة بعيدة كل البعد عن نكهة العود الكمبودي..
أبعد المقص عن وجهه قليلاً وأخذ يُعمله في الفضاء، وكأنّ صوته سيمفونية مرحلة جديدة يمرّ بها.. تخيّل أن ذاك المقص يتسلل إلى عقله ويتّجه إلى الحبل الذي ربطت به سنين التوبة والأوبة حزم مبادئه فيهتكه لتنتثر أعواد تلك الحزمة على بلاط عقله.. فيحدث اصطدامها بذلك البلاط صدى.. إنه صدى الإنتكاســ..
قطع عليه حبل أفكاره اتصال جاءه من رئيس التحرير !
" غريبة!! " قالها قبل أن يضغط على زر الـ(OK).. جاءه صوت رئيس التحرير " أبو ناصر " متخماً بالأخوية.. مشجّعاً على نقلة جديدة في مقال الأسبوع القادم.. لم يكن يأمر بشيء، كان يشير إشارات إلى فتوى انتشرت وكأنه يوعز بكتابة شيء عنها..
كان يستمع وائل إلى عبارات أبي ناصر وهو يهزّ رأسه مؤيّداً، ثم وبعد أن شعر بأن الرسالة التي أراد رئيسه إيصالها قد اكتملت قال وائل بتردد:
طال عمرك ما ردّيت عليّ بخصوص الـ..
_لا. أنا رديت عليك.. تكفى يا وائل استمر على ما أنت عليه.. نحن نحتاجك كما أنت..
_ ولكن تراني زهقت..
_ ولو.. ثم يا عزيزي تراك _ قالها بنبرة ضاحكة_ تراك أكثر جاذبية وأنت باللحية..
انتهت المكالمة..
شعر وائل بكميّة من الغثيان، وهو يرمق وجهه الذي لم يعد يطيق منظره... صارت لحيته المزوّقة تجلب له قرفاً خاصاً.. يريد أن ينهي هذه الازدواجية، يريد أن يتواءم مع ذاته.. كما قالها لرئيسه ذات مساء طافح بالنشوة..
قام من مقعده، ونظر إلى زوجته وهي نائمة، لم يكن منظرها في تلك اللحظة باعثاً على المغامرة.. تركها على ما هي عليه وفتح جهازه، فتح مستند " الوود " الذي جمع فيه بعض أرقام " كاسرات البركسيات ".. وبدأ بدخول بعض المواقع التي أدمنها من أشهر.. كان يتأمل أشياء تبعث على المغامرة.. توقف لبرهة.. وتساءل: طيب ويش فيها لو حلقت اللحية؟ مع استمرار نشر مقالاتي بصورتي القديمة..
شعر بشيء يبتسم في داخله..
شعر برقصة فرح تمارس نفسها في الجزء المخصص بـ " الكشكشة " داخل روحه التي لم تظلم تماماً..
قام من كرسيه وخرج من الغرفة بصمت.. كانت أضواء الضحى تفرش الصالة بأنس مشعّ.. ورائحة العودة تنبعث عن كل قطعة أثاث في المنزل..
بقرب الحمام فتح الدرج وأخرج ماكينة حلاقة اشتراها قبل شهرين تقريباً ولكنّه عطّلها عن دورها الرئيس.. لأسباب تعود إلى أبي ناصر.. وما إن التقت عينه بشفرة الحلاقة المركبة على رأس المكينة حتى رنّت في أذنه عبارة سابقة لأبي ناصر:
لحيتك أهم عندنا من قلمك..
رفع رأسه للمرآة وقال بصوته الأنثوي: معقولة هاللحية أهم من مقالاتي.. أبو ناصر يبالغ..
شبك فيش الماكينة، ثم دفع بطرف أصبعه زرّها فإذا بصوت أزيزها يغتال صمت الضحى..
قرّبها قليلاً من لحيته، فإذا بشظايا لحيته تتناثر بعبث..
زادها قرباً وأمعن في حشرها فإذا بشعيرات لحيته الأكثر طولاً تتساقط على أرض الحمام تماماً كما تساقطت حزم مبادئه ببلاط عقله قبل دقائق..
أبعد الماكينة، وكأنّه يريد أن يستيقظ من تلك النشوة.. فتح باب الحمام، وأخرج رأسه ليتأكد من خلوّ المكان، أغلق الباب.. نظر إلى وجهه ذي اللحية المنهوكة من جانب.. يبدو أنّه وصل إلى طريق اللاعودة..
ضغط الزر مرّة أخرى.. يبدو أن صوت أزيز تلك الماكينة بات أجمل في أذنه من صوت التقاء حادّتي المقص.. وكأنّه مزارع يحصد الغلّة.. صار يحرّك الماكينة ويعمّقها إلى أن أوصلها إلى خدّه.. شعر ببرودة الموس على جلد وجهه.. " يااااه ! " قالها وهو يستطعم ذلك الشعور الجديد..
دقائق يسيرة وإذا بصوت ذلك الأزيز يخفت تماما.. أنزل الماكينة.. وبدأ يتأمل وجهه..
شعر برذاذ الرهبة يعلو تقاسيمه الجديدة.. لم يتوقّع أن وجهه بهذا الحجم، وبأن خديه قد ترهلا بهذه الدرجة..
ومع ذلك فإنه حاول أن يبتسم.. فقد وصل الآن _ والآن فقط _ إلى انسجام تام.. فبما أن مبادئه حليقة فلماذا يكون وجهه ملتحياً إذن؟
غسل وجهه جيداً.. شعر بشوك منابت الشعر يحكّ راحتيه وهو يدعك خديه بالصابون..
خرج.. فإذا ببرودة البيت تصافح وجهه المنتفخ.. لم يفكر بكنس ذلك الشعر المنتثر في أرجاء الحمام.. فهو الآن يريد أن يفاجئ زوجته بوجهه الجميل.. وسيكنس كل شيء فيما بعد !
امتدت يده إلى قارورة العطر المستقرة فوق التلفاز ورش وجهه بها.. شعر بألم.. توقف للحظات حتى خفت الألم ثم توجّه إلى غرفة النوم..
فتح باب الغرفة.. فإذا بتيار الهواء يندفع محرّكاً بشته بعبث.. ذلك البشت الذي مازال واقفاً في زاوية الغرفة بخنوع !
استفاقت زوجته على فتح الباب.. تراجعت قليلاً وهي تنظر إلى ذلك الوجه أو ذلك الكيس الدهني _ كما عبّر أبو ناصر فيما بعد_ الماثل أمامها..
ابتسم.. فإذا بها تتذكر أنها قد رأت هذه الابتسامة في حين من الدهر..
_مين أنت؟
_وائل
_حلقتها؟
_إيه..
_شكلك يخوّف..
_بتتأقلمين مع الزمن..
لم يطل الحوار معها.. تركها تتعارك مع الدهشة وخرج..
بدأت الأفكار والخواطر تتدافع في رأسه: ماذا سيقول أبوه؟ إخوته؟ جماعة الحي؟ صديقه عبد العزيز.. " يااااه.. ستحدث زوبعة ".. قالها وهو يخرج جهاز الجوال من جيبه..
فتح الكاميراً وأبعدها قليلاً ثم التقط لنفسه صورة..
قرّبها من عينيه: شعر لحظتها أن وجهه عبارة عن زيادة لحمية ضخمة.. حتى حاجباه لم يصنعا شيئاً لتغطية تلك المساحة الهائلة التي باتت خلاءً خواءً..
جاءه صوت متوشّح بالحكمة يقول: ستتأقلم.. وسيتأقلم الجميع.. المسألة أسبوع من الصمود.. ثم ينتهي كل شيء..
اختار إرسال.. بحث عن رقم أبي ناصر وأرسل الصورة.. وعندما جاءته رسالة تؤكد وصول الوسائط.. زادت خفقات قلبه..
بحث بأنفه ذي التركيب المعقد عن بقايا رائحة العود.. فإذا برائحة رغوة الحلاقة قد حيّدت رائحة العود وجعلتها بلا شذى !
اصطفت الروائح عند أنفه تتنافس في غزو رئتيه الحليقتين: رائحة التجديد، رائحة التنوير، رائحة الأقنعة.. رائحة العود وحدها هي التي تلاشت تماما..
جاءته رسالة من أبي ناصر.. أمسك بالجوّال وكأنّه يهدده ألا يقتل فرحته بالتخلّص من عبء اللحية.. إنه يشعر بما في الرسالة قبل أن يقرأها..
اصطدمت عيناه بأحرف أبي ناصر:
أنت حمااااار !
تذكر فجأة عنوان كتاب " حسن مفتي " انتحار حمار..
أنشأ رسالة على عجل كتب فيها: بالنسبة لمقال الأسبوع القادم عن فتوى الشيخ الفلاني تراها جاهزة يا أبو ناصر.. وتراها هديّة مني للجريدة.. يعني بدون مقابل.
أراد أن يهدّئ من غضب أبي ناصر.. فلم يتوقّع ذلك الرد الصادم..
لم يمهله أبو ناصر دقيقة للتأمل بل أرسل الرد على جناح السرعة:
لم نعد نريد مقالتك عن فتوى الشيخ.. نريدها الآن عن الشيخ ذاته.. وللمعلومية بحلق لحيتك.. خسرت ثلاثة أرباع قيمتك الصحفيّة.. نحن نحتاج لحيتك _ كما سبق وأخبرتك _ أكثر من حاجتنا إلى قلمك.. أيها الكيس الدهني الدّبِق !
مختارات