فسقى لهما ثمّ تولّى إلى الظلّ كن مجانيّاً .. تكن ربّانيّاً
إنّ الإنسان إذا تشبّع بالإسلام غدت المجانيّة صفة من صفاته، ولم يعد الربح يعني له الكثير ولا القليل.. فقد تجاوز بإيمانه ضرورة النقد المادّي، فهو يعلم علم اليقين أن هناك نقوداً أخرى، لها قيمة أكبر، تأتيه من جهة أعظم، فلا يحرص على أن يأخذ - أو يطالب - بأجر كل عمل يعمله..
موسى عليه السلام كان أحوج ما يكون للطعام، للمسكن، للهدوء النفسي، ومع ذلك لم يحرص على أخذ أجر لسقياه بنتي شعيب عليه السلام.. لأن الذي يطعمه ويسكنه ويهدّئ من روعه هو الله، وقد رآه سبحانه عندما سقى للفتاتين.. هذا يكفي..
" ثم تولى إلى الظل " بكل هدوء وسكينة، دلالة على أنّه انتهى دوره، سقى لهما ثم تولّى إلى الظل، ما أجمل السعي في خدمة الآخرين بدون مقابل، إنّها من أعظم خصال الرجال..
ما أجمل يوم أن توصل الماشين بسيّارتك، فإذا نزل وأراد أن يدفع أجر توصيلك له، تخبره بأنّك لا تريد منه شيئاً.. أنت ساعتها عظيم..
ما أجمل يوم أن تعطي جارك سيّارتك، ليستخدمها دون مقابل، أو تساعد كبيراً يعبر الشارع، أو تحمل طفلا كاد أن يسقط ! ثم تتولّى إلى الظل..
إن أولئك المجّانيين (من المجّانية)، يأخذون أكثر مما يعطون وهم لا يشعرون، هذا قانون الله في مملكته، لا تبديل لقانون الله..
المجانيّ يأخذ الطمأنينة، ويأخذ الرضا عن الذات، ويأخذ الراحة النفسيّة، ويأخذ الأجر من الله، ويعوّضه الله بركة في رزقه، وصحّة في جسده، وصلاحاً في أولاده.. كل هذا وهو لا يشعر.. لأنّه تعامل مع الله، لا مع الناس..
لماذا لا يكون جزء من عملنا لله، وما كان لله يبقى، وما كان لغيره يفنى.. لماذا لا نسقي للناس ثم نتولّى إلى الظل بهدوء..
هذا موسى، لم يكن يحلم بكل ما حصل عليه، لقد سقى للفتاتين دون مقابل، لم يكن يتاجر مع العالمين، كان يتاجر مع رب العالمين.. فلم يمض كثير من الوقت حتى عادت إحداهما تمشي على استحياء تقول له: " إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " ! جاءته المكافأة الدنيويّة فوق كل الأجور التي أتت من الله.. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً..
زراعة الخير فن ! وتحتاج إلى وقت لتثمر ! من المؤكد أنّ هاتين الفتاتين ليستا أوّل من يسقي لهما موسى، ليستا أوّل من يسدي موسى لهما معروفا، لقد قدم خدماته للكثير قبلهما !، من ناكري الجميل، ومن المتجاهلين للمعروف.. هناك من دعا له، وهناك من أهمله، بل وهناك من وقع موسى بسببه في ورطة " فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه فوكزه موسى، فقضى عليه " ! ولكن موسى لا يأبه، لأنّه يريد الأجر من الله، لذلك كانت ثمرة هذا الخير المبذول أن وجد موسى عند شعيب عليه السلام، العمل الشريف، والمسكن الهادئ، والزوجة الرضيّة.. وهل يريد الإنسان في حياته فوق هذه المطالب؟ ثم بعد ذلك تأتيه الرسالة، نعم الرسالة شأنها عظيم، ولن يصطفي الله لرسالته إلا الرجال الأفذاذ، الرجال المتفانين، يستحيل أن يصطفي رب العزّة لشرف الرسالة رجلاً متخاذلاً، رجلاً جباناً، رجلاً بخيلاً.. لا بد أن يكون النبيّ على خلق عظيم.. إذن تلك المجانيّة من أسباب اصطفائه رسولاً، لأنّها دعامة من الدعامات الخلقيّة التي كان يتحلّى بها عليه السلام..
من المؤكد أن الله تعالى لن يصطفيك لتكون نبيّاً لحسن خلقك، أو مجانيّتك، لأنّه لا نبيّ بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن ثق أنّ حسن خلقك يؤهلك لنيل الشرف الديني والدنيوي، لأن عالم السر والنجوى ينظر للخلْق فيختار أصفاهم " وربّك يخلق ما يشاء ويختار " فتهيّأ بالأعمال الصالحة لتكون صفيّ الله في شأن من الشؤون! الله أعلم بذلك الشأن..
نافق وكن دجالاً كيفما شئت ! ولكن لن تنطلي حيلك على الله، لذلك دائماً يقع المنافق في شر أعماله، بقدر ما يبتسم للدنيا، فإنّه يجد التقطيب منها.. لأن مقلب القلوب يعلم كل شيء عنه، فلن تحب القلوب شخصاً يبغضه علام الغيوب !
أحدهم يحدّث بأنّه يتساهل في العادة مع البائعين في الريال والريالين، فيقبض أضعاف ما يتساهل فيه، فصاحب المغسلة يغسل له بنصف القيمة ! وصاحب البقالة يتساهل معه، ويدينه إن لم يكن معه مالا، يقول: ويكفيني الابتسامة والرضا والحب الذي أراه في ملامح البائعين... إن كان سيكلفني ذلك الإحساس ريالين، فإنّي سأدفعهما دون تردد، وأنا الرابح..
إنّ الصبر والمداومة هما سرا قبول الله العمل ومباركته، فلا تظن أنّك بأول بادرة مجانيّة ستجد المقابل، ستأتيك إحداهما تمشي على استحياء ! المسألة ليست منطقيّة بالقدر الذي تظن، إنّها إلهيّة أكثر منها منطقيّة، بل لا تفكر بالمقابل، فالتفكير فيه أوّل دليل على عدم الصدق، كن شهماً وحسب، كن رجلاً مثل موسى، قدّم المعروف ثم تولّى إلى الظل.. قد تأتيك جائزة من الله في المرّة العاشرة أو العشرين يبلغ ثمنها كل ما قدّمت من مجانيّات، وزيادة.. فالله خير وأبقى..
ولا ينبغي للمسلم أن يغفل عن آخرته، فليكن لك عمل تدّخره عند الله، نعم قد يكافئك الله مكافئة دنيويّة، ولكن ليكن التطلع إلى الآخرة هو الأهم، ما أجمل أن ترى شيئاً جميلاً عملته لله يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.. وتذكّر أن الله خير، وأبقى..
مختارات