الليلة السادسة
يطرُقُ المتْعَبون بابَ العشر بِلهفة الرَّجاء.
أنْ يملأَ اللهُ بالعَفو الجِرار.
يتنَحّى سَبعون، أو ثَمانون، أو مِليون قَلب.
يَبكُون:
يا الله.
لا تَجعلنا رَذاذاً يَهيم في كلِّ وادِ.
لُمَ شَعثنا عَليك !
يا خَفِيّ الُّلطف.
أدْرِك ضَيعتنا.
واجعَل نَبض الفُؤاد شَفيعاً لَدَيك !
يا ربِّ.
طَهّرنا.
واغرِس في قُلوبنا نُوراً (كالنُّور السّاكن في تُراب البَقيع) !
ها نَحنُ نُفَتِّش عن أنفُسنا بين الصّفا والمَروة.
عل جَوابا يتَفجّر لنا.
لِماذا نَتوغّل في الطِّين يا الله ! ونُبعثر الغَيث تُرسله لنا !
تأتيك الإجابة بالِغة في شَعيرة الحَجِّ في قوله تعالى { فاذْكُروا اللهَ كَذِكْرِكُم آباءكم أو أشَدّ ذِكرا } !
إذ نحنُ نشتَعل في مواسِم الشّعائر ؛ ثُمّ نَغيب في سَديم السّهو.
.
ثم نَتلَف مِن جَديد !
والله يُريد لكَ أن تَصطَحِب الشّعيرة إلى كلِّ أيّامك ؛ مثل ما تَصطحب نَسبك حتّى المَمات !
اصحب ذكره ففيه أسرار الفردوس الجليلة.
" أنتَ في الأرضِ هو أنتَ في السّماء ".
ما المعنى؟!
المعنى أنه إذا اشتَدّ الشَّغف فيكَ في ليلِ الضّراعة ؛ حتّى تَجَلَّت علَيك الهِبات.
ورَحَلَت الشّمس في إثْرِ خُطاك.
فأنتَ أنتَ.
لأنَّ اللهَ إذا أرادَ بعبده خيراً ؛ حبَّب إليهِ ذِكره.
حتّى يُخلّصه مِن شَظَف السّيئات !
اذكُره.
إذ الّليل ذَرّ على صَفحة عُمرك الغَسَق !
اذكُره.
فَهو مَن يأتيكَ بالمواسمِ ؛ كيْ تَنزع عنكَ خَفِيّ الشّوك مِن عَملك !
اذكُره.
فَقلوب الخَلق وألسِنتهم ؛ تَلهج فِيك.
بما يَهمس به الملأُ الأعلى حَولك ويُدندنون !
اذكره.
وانطَرِح في صَحراء فَقْرِك.
فَبِذكره ؛ تَسعى بين يَديك الحُقول !
يقول إبن القَيّم:
" لو سَمِعْتَ صَـرير أقلام الملائكـة، وهي تكتبُ اسـمك في الذّاكريـن لله ؛ لـمُت شـوقـًا " !
يا لِحروف اسمك تُسافر في حِبر الملأ الأعلى.
فلا تُمحى بعد ذلك أبدا !
انظر إلى عبد العَزيز المقدسي كيف يَنحتُ الذكرُ في روحه.
فقد كان يُراقب اللهَ في نفسه، ويَعُدُّ زلاّته، فَوجدها لا تُجاوِز ستّة وثلاثين زلّة.
فقال.
لقد استغفرتُ الله - عز وجل - لكلِّ زلّة مائةِ ألف مرة !
هذا عبدٌ ؛ صَنع من الذّنب باقات فَرح مَهيب.
وفَهِم أنّ الذّنب حلقة الفراغ بَيننا وبين الله ؛ فَردَمها بالذِّكر !
وكان ابن كَمال الدَمهنوري.
قدْ سَمَا وعلا في زمنه مِن كثرة الصلّاة على النّبي ﷺ ؛ إذْ كانَ يُصلي عليهِ في اليوم والليلة مائة ألف مرة !
عبدٌ مُحِب يُشعل مُروج الأجرِ بِشُموعٍ ؛ زيتُها يُوقَد مِن بركة النّبي ﷺ !
قال لكم { فاذكُروني } بالتّذلل.
{ أذكُركم } بالتّفضّل !
قال لكم { فاذكُروني } بالتّعظبم.
{ أذكُركم } بالتّكريم !
قال لكم { فاذكُروني } بِترك الأخطاء.
{ أذكُركم } بأنواعِ العَطاء !
أنواع العطاء في جِنان تَنمو فيها الحَسنات ؛ مِثل زنابق في روابي أكملُ مِن خيال الوَصف.
تَفتح يديك للذِّكر ؛ فتَنفتح فِيهما جنّتان.
ويَغزِل لك الذّكر ؛ عَباءة العِزّ عِند المليك.
ويَصهل المَجد في مِعطفيك !
ألفَ تسبيحةٍ أو ألفان.
ألف تَهليلة أو ألفان ؛ تُعَشّب دهور الفِردوس بِهما !
ويَشهد العُشب ؛ أنّه اعتراهُ المَطر مِن فَمٍ ذاكِر يَعبر الأرض، وشَفتيه تَهمس بالشّوق للأجرِ المُدّخر !
الذِّكر.
غابةُ تَغفو الأشجار فيها ؛ ثُمّ تَهتَزُّ بالياسَمين.
إذا ذَكر الله قَلب ؛ اهتَزّت أصابعه مِن جفلة الحَنين !
فيا أسوارَ الغَيب.
كيف تَتبدّل المَقامات وراءَكِ بالذّكر.
حتّى يَغيب رجلٌ في ظِلّ العَرش ؛ لأنّه ماتَ ولسانه مُعتَكِفٌ في مَلكوت الله !
تتفَتّق أُجور الذِّكر في المَلأ الأعلى ؛ كأنّ كلّ تسبيحة مِيلاد ألف شَمس وشَمس.
كأنّ كلّ تَهليلة ألف يمامة ويَمامة ؛ تَشدو في أعطافِ النّعيم !
وتَخَيَّل لهذا المَعنى قول نَبِيّك ﷺ
لِبِلال: (إنّي سَمِعتُ دُفّ نَعليَك بين يَديْ فِي الجنّة).
كأنّ وَقْعَ قَدَميه في الأرضِ ؛ كانت تَتَلقى صَداها تُربة الجِنان !
مثل مَوجة.
لمْ تتَوقّف أبداً عن الاتّساع ؛ حتّى استَقَرّت على شاطِيء الجَنّة !
ثِقْ.
أنّه لاشَيء مِن رِيحك.
مِن أنفاسِك.
مِن هواء كَلماتك ؛ تُبَدّده الرّيح !
ثَمّة مَعارج تَرحل فيها ألوانُ رُوحك ؛ تَلتقطها السّماء.
لِيَرتسم طَيفك دونَ زَيف.
ولِينقل جَبريل مِن ثَمّ صَوت العَليم إلى أهلِ الأرض:
(إنّي أحبّ فلان فأحِبّوه).
فأنتَ في الأرضِ ؛ هو أنتَ في السّماء !
اسأل نَفسَك في هذا الزّمن المُبارك.
هل لإسمك نصيب في عالَم الملأ الأعلى؟!
هل ذَكركَ الله؟!
هل نَادى باسمك في السّموات و حول العَرش و قال: (إنّي أحبّ فلُان)؟!
لو أنّ ذلك جَرى.
لَحُقّ لك أن يُغشى عليكَ فَرَحا !
اذْكُره كثيراً كيْ يَذْكُرك.
واغتَنم زَمنا يُحِبّ فيه التَودّد إليه.
فَبَعضُ الأزمان ؛ تُختَزَل فيها المَسافات، و تَحتَرق فيها المَراحل.
ولا يَضُرّك التَّفرّد، فإنّ طريق العُلى قليل الإيناس !
تَرَجّل عن غَفلَتِك.
وادلف إلى سرّ الخَزائن التي عِند رَبّك.
" واعتَلي دَرج الصّعود المُستَِمر إلى الصّعود " !
غافلٌ.
هو من يَكتُب اسمه على رمْلٍ مُتُحرِّك !
غافلُ.
هو مَن يجعل مِن عُمره ورَقاً يابِساً !
الغَفلة.
تَكنس وُجودك.
تَجعله في مهَبِّ السّنين !
أمّا الذّاكِرون الله.
فأسماءهم مُعلّقة أبداً على جدرانِ الخُلود !
مختارات