الليلة السادسة
يطرُقُ المتْعَبون بابَ العشر بِلهفة الرَّجاء.. أنْ يملأَ اللهُ بالعَفو الجِرار..
يتنَحّى سَبعون، أو ثَمانون، أو مِليون قَلب.. يَبكُون:
يا الله.. لا تَجعلنا رَذاذاً يَهيم في كلِّ وادِ.. لُمَ شَعثنا عَليك !
يا خَفِيّ الُّلطف..
أدْرِك ضَيعتنا.. واجعَل نَبض الفُؤاد شَفيعاً لَدَيك !
يا ربِّ..
طَهّرنا.. واغرِس في قُلوبنا نُوراً (كالنُّور السّاكن في تُراب البَقيع) !
ها نَحنُ نُفَتِّش عن أنفُسنا بين الصّفا والمَروة.. عل جَوابا يتَفجّر لنا..
لِماذا نَتوغّل في الطِّين يا الله ! ونُبعثر الغَيث تُرسله لنا !
تأتيك الإجابة بالِغة في شَعيرة الحَجِّ في قوله تعالى { فاذْكُروا اللهَ كَذِكْرِكُم آباءكم أو أشَدّ ذِكرا } !
إذ نحنُ نشتَعل في مواسِم الشّعائر ؛ ثُمّ نَغيب في سَديم السّهو... ثم نَتلَف مِن جَديد !
والله يُريد لكَ أن تَصطَحِب الشّعيرة إلى كلِّ أيّامك ؛ مثل ما تَصطحب نَسبك حتّى المَمات !
اصحب ذكره ففيه أسرار الفردوس الجليلة..
" أنتَ في الأرضِ هو أنتَ في السّماء "..
ما المعنى؟!
المعنى أنه إذا اشتَدّ الشَّغف فيكَ في ليلِ الضّراعة ؛ حتّى تَجَلَّت علَيك الهِبات..
ورَحَلَت الشّمس في إثْرِ خُطاك.. فأنتَ أنتَ..
لأنَّ اللهَ إذا أرادَ بعبده خيراً ؛ حبَّب إليهِ ذِكره.. حتّى يُخلّصه مِن شَظَف السّيئات !
اذكُره..
إذ الّليل ذَرّ على صَفحة عُمرك الغَسَق !
اذكُره..
فَهو مَن يأتيكَ بالمواسمِ ؛ كيْ تَنزع عنكَ خَفِيّ الشّوك مِن عَملك !
اذكُره..
فَقلوب الخَلق وألسِنتهم ؛ تَلهج فِيك.. بما يَهمس به الملأُ الأعلى حَولك ويُدندنون !
اذكره..
وانطَرِح في صَحراء فَقْرِك.. فَبِذكره ؛ تَسعى بين يَديك الحُقول !
يقول إبن القَيّم:
" لو سَمِعْتَ صَـرير أقلام الملائكـة، وهي تكتبُ اسـمك في الذّاكريـن لله ؛ لـمُت شـوقـًا " !
يا لِحروف اسمك تُسافر في حِبر الملأ الأعلى.. فلا تُمحى بعد ذلك أبدا !
انظر إلى عبد العَزيز المقدسي كيف يَنحتُ الذكرُ في روحه..
فقد كان يُراقب اللهَ في نفسه، ويَعُدُّ زلاّته، فَوجدها لا تُجاوِز ستّة وثلاثين زلّة..
فقال.. لقد استغفرتُ الله - عز وجل - لكلِّ زلّة مائةِ ألف مرة !
هذا عبدٌ ؛ صَنع من الذّنب باقات فَرح مَهيب.. وفَهِم أنّ الذّنب حلقة الفراغ بَيننا وبين الله ؛ فَردَمها بالذِّكر !
وكان ابن كَمال الدَمهنوري..
قدْ سَمَا وعلا في زمنه مِن كثرة الصلّاة على النّبي ﷺ ؛ إذْ كانَ يُصلي عليهِ في اليوم والليلة مائة ألف مرة !
عبدٌ مُحِب يُشعل مُروج الأجرِ بِشُموعٍ ؛ زيتُها يُوقَد مِن بركة النّبي ﷺ !
قال لكم { فاذكُروني } بالتّذلل.. { أذكُركم } بالتّفضّل !
قال لكم { فاذكُروني } بالتّعظبم.. { أذكُركم } بالتّكريم !
قال لكم { فاذكُروني } بِترك الأخطاء.. { أذكُركم } بأنواعِ العَطاء !
أنواع العطاء في جِنان تَنمو فيها الحَسنات ؛ مِثل زنابق في روابي أكملُ مِن خيال الوَصف..
تَفتح يديك للذِّكر ؛ فتَنفتح فِيهما جنّتان..
ويَغزِل لك الذّكر ؛ عَباءة العِزّ عِند المليك.. ويَصهل المَجد في مِعطفيك !
ألفَ تسبيحةٍ أو ألفان..
ألف تَهليلة أو ألفان ؛ تُعَشّب دهور الفِردوس بِهما !
ويَشهد العُشب ؛ أنّه اعتراهُ المَطر مِن فَمٍ ذاكِر يَعبر الأرض، وشَفتيه تَهمس بالشّوق للأجرِ المُدّخر !
الذِّكر..
غابةُ تَغفو الأشجار فيها ؛ ثُمّ تَهتَزُّ بالياسَمين..
إذا ذَكر الله قَلب ؛ اهتَزّت أصابعه مِن جفلة الحَنين !
فيا أسوارَ الغَيب..
كيف تَتبدّل المَقامات وراءَكِ بالذّكر.. حتّى يَغيب رجلٌ في ظِلّ العَرش ؛ لأنّه ماتَ ولسانه مُعتَكِفٌ في مَلكوت الله !
تتفَتّق أُجور الذِّكر في المَلأ الأعلى ؛ كأنّ كلّ تسبيحة مِيلاد ألف شَمس وشَمس..
كأنّ كلّ تَهليلة ألف يمامة ويَمامة ؛ تَشدو في أعطافِ النّعيم !
وتَخَيَّل لهذا المَعنى قول نَبِيّك ﷺ
لِبِلال: (إنّي سَمِعتُ دُفّ نَعليَك بين يَديْ فِي الجنّة)..
كأنّ وَقْعَ قَدَميه في الأرضِ ؛ كانت تَتَلقى صَداها تُربة الجِنان !
مثل مَوجة.. لمْ تتَوقّف أبداً عن الاتّساع ؛ حتّى استَقَرّت على شاطِيء الجَنّة !
ثِقْ..
أنّه لاشَيء مِن رِيحك..
مِن أنفاسِك..
مِن هواء كَلماتك ؛ تُبَدّده الرّيح !
ثَمّة مَعارج تَرحل فيها ألوانُ رُوحك ؛ تَلتقطها السّماء.. لِيَرتسم طَيفك دونَ زَيف.. ولِينقل جَبريل مِن ثَمّ صَوت العَليم إلى أهلِ الأرض:
(إنّي أحبّ فلان فأحِبّوه)..
فأنتَ في الأرضِ ؛ هو أنتَ في السّماء !
اسأل نَفسَك في هذا الزّمن المُبارك.. هل لإسمك نصيب في عالَم الملأ الأعلى؟!
هل ذَكركَ الله؟!
هل نَادى باسمك في السّموات و حول العَرش و قال: (إنّي أحبّ فلُان)؟!
لو أنّ ذلك جَرى.. لَحُقّ لك أن يُغشى عليكَ فَرَحا !
اذْكُره كثيراً كيْ يَذْكُرك..
واغتَنم زَمنا يُحِبّ فيه التَودّد إليه..
فَبَعضُ الأزمان ؛ تُختَزَل فيها المَسافات، و تَحتَرق فيها المَراحل..
ولا يَضُرّك التَّفرّد، فإنّ طريق العُلى قليل الإيناس !
تَرَجّل عن غَفلَتِك..
وادلف إلى سرّ الخَزائن التي عِند رَبّك.. " واعتَلي دَرج الصّعود المُستَِمر إلى الصّعود " !
غافلٌ..
هو من يَكتُب اسمه على رمْلٍ مُتُحرِّك !
غافلُ..
هو مَن يجعل مِن عُمره ورَقاً يابِساً !
الغَفلة..
تَكنس وُجودك..
تَجعله في مهَبِّ السّنين !
أمّا الذّاكِرون الله..
فأسماءهم مُعلّقة أبداً على جدرانِ الخُلود !
مختارات