الليلة الخامسة
هل هذِه شَعيرة الهِجرة إلى زَمن الِقيامة.
هل هذِه { أيام مَعدودات } ؛ جاءَت كي تَختَزِل لَكَ كلّ خارِطة الحَشر !
" لَبَّيكَ الَّلهمَّ لَبيك ".
يُوحي لكَ الصّوت ؛ بأنَّ القَوم ابتَدأوا رِحلة الحِساب.
حيثُ لا غَفلة في الخُطى المُتَّجِهة إلى المصائر !
يُبعثُ النّاس ؛ وقد هَيَّأَت لهم السّماء مَساراتهم.
شَيء ما ؛ كان يَترسّب هُناك مِن سَعينا.
لكأنَّنا نقبِض خطوة النّهاية التي ابَتدأناها في زَمنِ الأَرض !
فيا للذِّكريات.
حِينها ؛ كيفَ تَستردّ الألم ؛ حتّى كأنّه السّاعة السّاعة !
ويا للهِ.
كيفَ تستلُ الصّحائف كلّ هذا الحَشد مِن التّفاصيل المَنسِيّة !
في الحَشر.
يَرتَجِف النّاس مِن ذِكرياتهم.
يَتمنّون لو تَصمت.
في الحَشر.
تَنفي الأرضُ زَيفها ؛ فَيعلو زَبَد الكلام، وتُكشف حُمولتنا.
لِيرتدّ إلى النّاس ذلك كلّه ؛ حزناً لا يَنتهي !
فيا للرُّوحِ.
إذا عَرُيت من خَباياها.
وهوَت صُورنا في عتَمة السَّوءات.
وانَكشفت الأجسادُ في تَماهٍ عجيب ؛ بين كشف المَخبوء، وبروز المُعلَن !
" لبّيك الّلهمَّ لبَّيك ".
يا لِصوت الحَجيج وهو يحكي صوت الوُجوه يوم القيامة ؛ تكدّسَت بالخَوف تنتَظر المَصير !
و ياللّهفة.
حين يَحمل كلٌ نَفسَه إلى اللهِ بينَ يديه.
يحمِل مِغزله الذي أبَرم به كلّ نَسيج حياته !
في يومِ الحِساب.
تقصُر المسافة بين الخَفِيِّ في أعماقِنا ؛ وبين المَسطور في الصّحائف.
ملمومة كلّ التّفاصيل ؛ حتّى كأنّها قيدٌ وَثيق !
يَشعرُ المرءُ كأنَّ أيّامه سقَطت عليه.
وكأنَّ حكاياته هي المَعنية بقولِ الله { لا يُجَلِّيها لِوقتِها إلا هُوْ } !
يبحثُ الحَجيج عن شَجرة.
عن ظلِّ خَيمة.
عن فَيءِ حاني.
فيا ويحَ قلبي.
إذا كانت أشجارُنا في القيامة أقصرُ من أن تُظَلِّلنا، وشَرُد الغيمُ عنّا ؛ فلا سُقيا.
وبَقينا في الهَجير !
ما الحَجُّ إذن.
إلا مَشهد الحَشر نَحتشدُ فيه.
تتَلاصقُ الأجسادُ في الحَجِّ.
وتَئِنُّ الأماكنُ مِن كثرةِ العِباد.
ويَتهادى الحَجيج على المَطايا !
وفي الحَشر.
يسوقُ النّاس أعمالهم ؛ مثل نياقٍ ضُروعها لا تَدرُّ الحَليب.
فقدْ جفّت بالعَثرات !
كيفَ تُبعث الأعمال باهِتة ؛ كأنّها أعمال صمّاء !!
يَعلوها غُبار الحِيرة !!
يَحملونها ؛ مثل أعوادٍ يابِسة شاخَت بالخَطايا !!
كيف !
وغيرهم في حُقول السّنابل يحصُد.
ففي الحشرِ ؛ لا قَمح إلا في تَنُّور الصّالحين !
يُقلِّب النّاس بين أيديهم الأحزان.
يُقَلّبون المَسغبة.
يُقَلِّبون الصّمت العَقيم !
يَبدو اصْفِرار الشَّفَق في ملامحِ أعمالهم.
ويَرتعشُ الجواب على شِفاههم مِن ثقل الأحمال !
ثَمّة أقوام قد ابتدأوا الخُلود.
ينثِرون صُبحهم من الصّحائف ؛ فقد كانوا يُخبؤّون الشّموس ليومِ العَتمة.
يَسكبون أعمالهم في الكُؤوس تَعبق رِيَّا.
يتمنّى القوم بعض مَكانهم.
هَيهات هَيهات.
فقد تَسنّموا شاهِقاً مِن العُلوِّ من بواكيرِ أعمارهم !
يُبْعَثُ الإنسان بحقيقة الطِّين فيه.
ويَرى نفسه في القيامة ؛ بِناءٌ يَنهار.
إن لمْ يكن قد أُسِّس على التّقوى !
كلُّ عُمْرِ بلِا التّقوى ؛ عُريان.
هذا عُنوان الرحلة.
وفي القيامةِ البُرهان !
وما سِوى ذلك.
فأعمالٌ لو نَطَقتْ في الدّنيا لقالتْ لكَ ؛ إنَّني وَقودها.
وإنَّني بعضُ الشَّرَر !
ما المَسافة بين الحجِّ والحَشْر؟! أهِيَ يَقظةُ قَلْب.
أمْ هي انتباهةُ رُوح.
تَنشقُّ لها حُجُب الغَيب ؛ فَترى وَحشة الذُّنوب في أرضِ المَحشر، فَتُعاجلها اليوم بِتَوبة تَمنحها انعتاقاً !
يشَتدُّ العَطَش بالحَجيج في مناسِكهم.
وفي الحَشر ؛ يشتَدُّ الجَفاف.
يَنبشُ النّاس في كَثيب المَحشر ؛ فلا يَجِدون إلا السّراب !
يا أهلَ المَحشر.
هذا سرابٌ وُلِدَ مِن أزمانٍ سَحيقة.
وُلِد مِن جَفافٍ قَديم !
يَلتاع النّاس مِن الحَقيقة المُعلَنة ؛ إذ لاشيء يَغيب في مدافِن الزَّمن.
وفي مكانٍ مَرئي ؛ تَهُبُّ على المَحشورين في ظِلِّ العَرش نسائمُ الرّحمة، وتَهجر مَن تَبّقّى !
ينْصُب الحَجيج خِيامهم.
يَشُدُّونها.
ويُلجِمون الرّيح ؛ أن تعبَثَ بِها !
وفي القِيامة.
تُقوّض خِيام الشّيطان.
تُمَزِّقها حِجارة الرَّجم مِن أعمالِ المُؤمنين !
تُصبح أشلاءَ.
فيا خَسارة مَن بَركَت رواحِلُه عِند خِيام العَدُوّ في الأرض !
ماذا بَقي له !
يجمعُ الحَجيج الحَصى ؛ ويَرجمون بها الشّيطان.
وفي عَرَصات المَوقف ؛ تكثُر حصَى الآلام في طُرقات العاجِزين عن الرَجم في دارِ الابتلاء !
في الحج.
ِّ كلّ شيء في الفَضاء المَكشوف.
مِنى.
مُزدلفة.
عَرفات.
السّير في فِجاجِ مكّة.
وكذا يوم النُّشور !
فيا للعَجب !
إذ ترِدُ آيات الحَجّ في سورةٍ أولها { اتّقوا رَبّكم إنّ زَلزَلة السّاعةِ شَيءٌ عَظِيم }.
ثمّ تكون الوصية في زادِ الحجّ هو { وتَزَوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التّقوى }.
فيا لِتشابُه الرِّحلتين ؛ في الزّاد والمّآل !
فما التّقوى؟
التّقوى.
هي لونُ الوضُوء ؛ إذْ يُطفيء الشّهوة الثّائِرة !
هي قولُ السّلف:
إنّك لا تنالُ ما تُريد مِن الله ؛ إلا بِتركِ ما تَشتهي !
هي بَيعةُ الرُّوح.
أن لا تَخونَ الله في سِرٍّ ؛ بلْ تَصنعُ مَعه عَهد الخَبيئة !
زادُ الحَج ؛ّ التَّقوى.
ولا يَقدِر على التّقوى ؛ إلا مَن يَبْنون مَحاريبَهم داخِل السّريرَة.
حيثُ لا يَصِلُها الشَّيطَان !
مختارات