الليلة الخامسة
هل هذِه شَعيرة الهِجرة إلى زَمن الِقيامة..
هل هذِه { أيام مَعدودات } ؛ جاءَت كي تَختَزِل لَكَ كلّ خارِطة الحَشر !
" لَبَّيكَ الَّلهمَّ لَبيك "..
يُوحي لكَ الصّوت ؛ بأنَّ القَوم ابتَدأوا رِحلة الحِساب.. حيثُ لا غَفلة في الخُطى المُتَّجِهة إلى المصائر !
يُبعثُ النّاس ؛ وقد هَيَّأَت لهم السّماء مَساراتهم..
شَيء ما ؛ كان يَترسّب هُناك مِن سَعينا.. لكأنَّنا نقبِض خطوة النّهاية التي ابَتدأناها في زَمنِ الأَرض !
فيا للذِّكريات..
حِينها ؛ كيفَ تَستردّ الألم ؛ حتّى كأنّه السّاعة السّاعة !
ويا للهِ..
كيفَ تستلُ الصّحائف كلّ هذا الحَشد مِن التّفاصيل المَنسِيّة !
في الحَشر..
يَرتَجِف النّاس مِن ذِكرياتهم.. يَتمنّون لو تَصمت..
في الحَشر..
تَنفي الأرضُ زَيفها ؛ فَيعلو زَبَد الكلام، وتُكشف حُمولتنا.. لِيرتدّ إلى النّاس ذلك كلّه ؛ حزناً لا يَنتهي !
فيا للرُّوحِ.. إذا عَرُيت من خَباياها..
وهوَت صُورنا في عتَمة السَّوءات..
وانَكشفت الأجسادُ في تَماهٍ عجيب ؛ بين كشف المَخبوء، وبروز المُعلَن !
" لبّيك الّلهمَّ لبَّيك "..
يا لِصوت الحَجيج وهو يحكي صوت الوُجوه يوم القيامة ؛ تكدّسَت بالخَوف تنتَظر المَصير !
و ياللّهفة..
حين يَحمل كلٌ نَفسَه إلى اللهِ بينَ يديه..
يحمِل مِغزله الذي أبَرم به كلّ نَسيج حياته !
في يومِ الحِساب..
تقصُر المسافة بين الخَفِيِّ في أعماقِنا ؛ وبين المَسطور في الصّحائف..
ملمومة كلّ التّفاصيل ؛ حتّى كأنّها قيدٌ وَثيق !
يَشعرُ المرءُ كأنَّ أيّامه سقَطت عليه.. وكأنَّ حكاياته هي المَعنية بقولِ الله { لا يُجَلِّيها لِوقتِها إلا هُوْ } !
يبحثُ الحَجيج عن شَجرة..
عن ظلِّ خَيمة..
عن فَيءِ حاني..
فيا ويحَ قلبي..
إذا كانت أشجارُنا في القيامة أقصرُ من أن تُظَلِّلنا، وشَرُد الغيمُ عنّا ؛ فلا سُقيا..
وبَقينا في الهَجير !
ما الحَجُّ إذن.. إلا مَشهد الحَشر نَحتشدُ فيه.. تتَلاصقُ الأجسادُ في الحَجِّ.. وتَئِنُّ الأماكنُ مِن كثرةِ العِباد..
ويَتهادى الحَجيج على المَطايا !
وفي الحَشر..
يسوقُ النّاس أعمالهم ؛ مثل نياقٍ ضُروعها لا تَدرُّ الحَليب.. فقدْ جفّت بالعَثرات !
كيفَ تُبعث الأعمال باهِتة ؛ كأنّها أعمال صمّاء !!
يَعلوها غُبار الحِيرة !!
يَحملونها ؛ مثل أعوادٍ يابِسة شاخَت بالخَطايا !!
كيف !
وغيرهم في حُقول السّنابل يحصُد.. ففي الحشرِ ؛ لا قَمح إلا في تَنُّور الصّالحين !
يُقلِّب النّاس بين أيديهم الأحزان.. يُقَلّبون المَسغبة.. يُقَلِّبون الصّمت العَقيم !
يَبدو اصْفِرار الشَّفَق في ملامحِ أعمالهم.. ويَرتعشُ الجواب على شِفاههم مِن ثقل الأحمال !
ثَمّة أقوام قد ابتدأوا الخُلود.. ينثِرون صُبحهم من الصّحائف ؛ فقد كانوا يُخبؤّون الشّموس ليومِ العَتمة..
يَسكبون أعمالهم في الكُؤوس تَعبق رِيَّا..
يتمنّى القوم بعض مَكانهم..
هَيهات هَيهات..
فقد تَسنّموا شاهِقاً مِن العُلوِّ من بواكيرِ أعمارهم !
يُبْعَثُ الإنسان بحقيقة الطِّين فيه.. ويَرى نفسه في القيامة ؛ بِناءٌ يَنهار.. إن لمْ يكن قد أُسِّس على التّقوى !
كلُّ عُمْرِ بلِا التّقوى ؛ عُريان.. هذا عُنوان الرحلة.. وفي القيامةِ البُرهان !
وما سِوى ذلك.. فأعمالٌ لو نَطَقتْ في الدّنيا لقالتْ لكَ ؛ إنَّني وَقودها.. وإنَّني بعضُ الشَّرَر !
ما المَسافة بين الحجِّ والحَشْر؟! أهِيَ يَقظةُ قَلْب..
أمْ هي انتباهةُ رُوح.. تَنشقُّ لها حُجُب الغَيب ؛ فَترى وَحشة الذُّنوب في أرضِ المَحشر، فَتُعاجلها اليوم بِتَوبة تَمنحها انعتاقاً !
يشَتدُّ العَطَش بالحَجيج في مناسِكهم..
وفي الحَشر ؛ يشتَدُّ الجَفاف..
يَنبشُ النّاس في كَثيب المَحشر ؛ فلا يَجِدون إلا السّراب !
يا أهلَ المَحشر..
هذا سرابٌ وُلِدَ مِن أزمانٍ سَحيقة.. وُلِد مِن جَفافٍ قَديم !
يَلتاع النّاس مِن الحَقيقة المُعلَنة ؛ إذ لاشيء يَغيب في مدافِن الزَّمن..
وفي مكانٍ مَرئي ؛ تَهُبُّ على المَحشورين في ظِلِّ العَرش نسائمُ الرّحمة، وتَهجر مَن تَبّقّى !
ينْصُب الحَجيج خِيامهم.. يَشُدُّونها.. ويُلجِمون الرّيح ؛ أن تعبَثَ بِها !
وفي القِيامة.. تُقوّض خِيام الشّيطان.. تُمَزِّقها حِجارة الرَّجم مِن أعمالِ المُؤمنين !
تُصبح أشلاءَ.. فيا خَسارة مَن بَركَت رواحِلُه عِند خِيام العَدُوّ في الأرض !
ماذا بَقي له !
يجمعُ الحَجيج الحَصى ؛ ويَرجمون بها الشّيطان..
وفي عَرَصات المَوقف ؛ تكثُر حصَى الآلام في طُرقات العاجِزين عن الرَجم في دارِ الابتلاء !
في الحج..ِّ كلّ شيء في الفَضاء المَكشوف.. مِنى.. مُزدلفة.. عَرفات.. السّير في فِجاجِ مكّة.. وكذا يوم النُّشور !
فيا للعَجب !
إذ ترِدُ آيات الحَجّ في سورةٍ أولها { اتّقوا رَبّكم إنّ زَلزَلة السّاعةِ شَيءٌ عَظِيم }..
ثمّ تكون الوصية في زادِ الحجّ هو { وتَزَوّدوا فإنّ خيرَ الزّاد التّقوى }..
فيا لِتشابُه الرِّحلتين ؛ في الزّاد والمّآل !
فما التّقوى؟
التّقوى.. هي لونُ الوضُوء ؛ إذْ يُطفيء الشّهوة الثّائِرة !
هي قولُ السّلف:
إنّك لا تنالُ ما تُريد مِن الله ؛ إلا بِتركِ ما تَشتهي !
هي بَيعةُ الرُّوح.. أن لا تَخونَ الله في سِرٍّ ؛ بلْ تَصنعُ مَعه عَهد الخَبيئة !
زادُ الحَج ؛ّ التَّقوى..
ولا يَقدِر على التّقوى ؛ إلا مَن يَبْنون مَحاريبَهم داخِل السّريرَة.. حيثُ لا يَصِلُها الشَّيطَان !
مختارات