الموعظة التاسعة
الموعظة التاسعة
قال عبد الله بن عبد الخالق رحمه الله: سبى الروم نساءً مسلمات، فوصل الخبر إلى أهل الرقة (مدينة في العراق) وكان الخليفة هارون الرشيد مقيمًا بها آنذاك فجيء إلى واعظ الرقة وزاهدها العبد الصالح منصور بن عمار رحمه الله فقيل له: لو اتخذت مجلسًا بالقرب من قصر الخليفة، فوعظت الناس فيه ورغبتهم في الغزو والجهاد. ففعل المنصور كما أشاروا عليه، فبينما هو ذات يوم في مجلسه يحث الناس على النفير والجهاد في سبيل الله، إذ بخرقة مصرورة مختومة، ومعها كتاب مضموم إليها تصل إلى يد منصور بن عمار الواعظ، ففك الكتاب فقرأه فإذا مكتوب فيه: إنني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات، وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك لهم في النفير، ولم أكن مستطيعة للنفير وللغزو، فعمدت إلى أكرم شيء في بدني، وهما ذؤابتاي (أي ضفيرتاي) فقطعتهما وجعلتهما في الصُّرة المختومة التي مع هذا الكتاب، وأنشدك الله العظيم أن تجعل هاتين الذؤابتين قيدًا لفرس غاز في سبيل الله تعالى؛ فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال نظرة فيرحمني ويغفر لي !! فما كاد منصور يفرغ من قراءة الكتاب حتى أجهش بالبكاء، وأجهش الناس معه، وعلا الضجيج وارتفع البكاء والنحيب، وأمر هارون الرشيد بالنفير العام لغزو الروم، وغزا بنفسه على رأس الجيش الإسلامي فهزم الروم بإذن الله وحرر السبايا المسلمات، وفتح الله على المسلمين يومها فتحًا عظيمًا (كتاب صفة الصفوة – لابن الجوزي -).
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني على تجاهل أحبابي وإخواني
إذا اشتكى مسلمٌ في الهند وإن بكى مسلم في الصين
ومصر ريحانتي والشام وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
وفي العراق أكف المجد ترفعني عن كل باغ ومأفون وخوان
ويسمع اليمن المحبوب فيستريح إلى شدوي وألحاني
ويسكن المسجد الأقصى قبته في حبة القلب أرعاه ويرعاني
أرى بخارى بلادي وهي وأستريح إلى ذكرى خراسان
شريعة الله لمتْ شملنا وبنت لنا معالم إحسان وإيمان ( للأستاذ: عبد الرحمن بن صالح العشماوي «شاعر الأمة الإسلامية»).
قدمت بعض جيوش الروم المنهزمة أمام المسلمين في معركة من المعارك على ملكهم وعظيمهم هرقل وهو في مدينة أنطاكية، فدعا رجالاً من عظمائهم، وقال لهم: ويحكم أخبروني!! ما هؤلاء الذين تقاتلونهم – يعني المسلمين - أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى !! قال: فأنتم أكثر عددًا أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن! فقال: ويلكم! فما بالكم تنهزمون كلما لقيتوهم؟ فسكتوا ولم ينطقوا، فقال شيخ كبير منهم: أنا أخبرك أيها الملك من أين يأتون! ولماذا ينهزمون !! إنا إذا حملنا على المسلمين صبروا، وإذا حملوا علينا صدقوا، ونحمل عليهم فنكذب، ويحملون علينا فلا نصبر!! فقال هرقل: ولماذا هم كذلك، وأنتم بخلاف ذلك؟ فقال الرجل الكبير: لأن القوم يصومون بالنهار، ويصلون بالليل، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يظلمون أحدًا، ويتناصفون فيما بينهم، ونحن نشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغضب، ونظلم، ونأمر بما يسخط الله تعالى، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض !! فقال هرقل حينها: والله لقد صدقتني القول!! والله لأخرجن من هذه القرية فما لي في صحبتكم خير وأنتم هكذا (كتاب: عيون الأخبار – لابن قتيبة -) !!.
كتب عبد الله بن المبارك إلى الفضيل بن عياض رحمهما الله حاثًا على الجهاد في سبيل الله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خده فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهبُ
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذبُ
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فمحب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام يغار لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى! وإنْ زعم أنه من المحبين، والدين كله تحت هذه الغيرة؛ فأقوى الناس دينًا أعظمهم غيرًة !! وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، ولذلك جعل الله تعالى علامة محبته ومحبوبته: الجهاد (كتاب روضة المحبين – لابن القيم -).
فيا رب، نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس !!
أخي: ألم تشتق نفسك إلى أرض الجهاد وإلى موطن العزة والكرامة، إلى المنبع الأصيل وإلى الريح النبيل؟ فلم يقم الإسلام إلا بالجهاد، ولم يقم الجهاد إلا بالإسلام.
فلقد نسينا- أو تناسينا- أمر الجهاد حتى أصبحنا عالةً على أنفسنا في أرض الله !! وجعلنا أذلاء ومحتقرين بسبب تفريطنا وجهلنا لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم الذي لم يأت عبثًا ولا لعبا في حقوق الإنسان؛ بل أتى في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كلام مؤلف الكتاب: عبد الجليل الأحمد).
مختارات