أيام الصحوة...الحلقة (7) والأخيرة
أخي أنت حرّ
قلت وأقول وسأقول أن النشيد أيقونة صحويّة لا يمكن تجاوزها، جاءت بكثير من المعاني الخصبة، والحماس الديني، وشكّلت أرضيّة لنفوس متوثبة للعطاء والخير.. فلا بد من وقفة خاطفة على ضفاف النشيد..
كل من له اطلاع على فن الإنشاد يعلم أن رائد هذا الفن هو المنشد السوري الأشهر " أبو مازن ".. وقد كان هذا الرائد ينشد للجهاد والدعوة من منطلق نضالي جهادي، لا لغرض فنّي، أو امتداد طبيعي لموهبة كانت مكبوتة.. كان يقرأ الدواوين الشعرية ثم إذا اجتمع عنده عدد من القصائد التي تتحدّث عمّا يعيش في روحه من هم.. وما ينبض في قلبه من دم.. وانصبغت بلحن ينبعث من داخله.. وبحرارة دفّاقة تجعل كل كلمة تنتفض بمعانٍ أخرى ليست من ضمن ما سطّره الشاعر.. إذا حدث ذلك كلّه.. ذهب إلى بيت أحدهم بمسجل قديم، وميكرفون.. ثم بدأ ينشد هو وصحبه تلك الكلمات على أمل أن تصل إلى أبناء مدينته وما حولها من ضِياع وقرى.. كان هذا أبعد طموح أبي مازن.. لم يتخيّل أن تتعدّى أناشيده نطاق دمشق ـ. لم يتصوّر أن تصل إلى حمص وحلب وحماة.. وما هو أبعد من حمص وحلب وحماة..
وبعد سنوات قرر الذهاب إلى مصر والعيش فيها، وفي مصر اكتشف نفسه، وعلم أنّ أناشيده هي بالفعل ما يردده المجاهدون في أنحاء الأرض ! وبأنّ صوته صار سيمفونيّة خالدة في أرجاء المعمورة، وبأن تلك الكلمات التي روّاها بروحه قد انتفضت بالحياة.. وصار الجميع يرددها بحماس:
مسلمون.. مسلمون.. مسلمون
حيث كان الحق والعدل نكون..
نرتضي الموت ونأبى أن نهون
في سبيل الله ما أحلى المنون..
الغريب أن أبا مازن عندما خرج من سوريا.. خلع كنية أبي مازن هناك.. وتركها للأبد.. فكان يعمل في مصر ويختلط بأناس يرددون أناشيده ولا يعلمون أنّه هو من أنشدها ذات يوم.. قرر أن يصمت.. ويترك ماضيه الدعوي لله.. فما كان لله لا ينبغي أن يُفاخر ويجاهر به..
استمع فتيان الدعوة في السعودية واليمن والكويت والبحرين ومصر والمغرب وباكستان وإندونيسيا وأوروبا وغيرها من بقاع العالم لأناشيد أبي مازن.. فحرّكت فيهم معان العزّة والصمود والإباء..
أخي أنت حرّ وراء السدود
أخي أنت حرّ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصماً
فماذا يضيرك كيد العبيد
أخي قد جرت من يديك الدماء
أبت أن تذل بقيد الإماء
سترفع قربانها للسماء
مخضبة بوسام الخلود..
صبغت تلك الحنجرة السوريّة المجاهدة كل كلمات الشعراء بلحنها، فصار لا يترنّم مترنم ببيت شعر إلا وجاء على لحن من ألحان أبي مازن.. فتأثر الجيل بذلك العملاق.. الذي ابتدأ جهاده وهو في الثامنة عشر من عمره، وتوقف وهو لم يبلغ الثلاثين.. في عشرة أشرطة تحولت من كلمات إلى دماء تسري في روح الأمة..
بعدها بدأ جهاد الكلمة الملحّنة ينداح في الأرض..
وعلى خطا أبي مازن جاء أبو الجود وأبو دجانة وأبو الحسن وأبو راتب كلّهم من الشام.. يهتفون:
غضب يسري في الأوطان
يمضي يذكيه القرآن
سأعود بنور الإيمان
لأدكّ عروش الطغيان
رحّال والعزم ردائي
واللقب المحبوب فدائي
رحال والمجد أمامي
وجلال التاريخ ورائي
إيماني بالله يقيني
من غدر وخسّة أعدائي..
كتب شعراء الدعوة كلمات تنبض بالعزة والرفعة في زمن اشتاقت فيه النفوس إلى العزة والرفعة..
كتب: يوسف القرضاوي، وعبد الرحمن بارود، وجابر قميحة، وعبد الرحمن العشماوي، وحبيب اللويحق.. وغيرهم
ونشّد: أبو مازن وأبو الجود وأبو دجانة وأبو الحسن وأبو راتب.. ثم امتدّت دائرة الإنشاد الدعوي لتصل إلى الخليج..
كانت أناشيد تلك الأيام تأتي بكُنى المنشدين.. فإذا لم يكن للمنشد الشهرة الكافية كانت تأتي بأسماء المراكز الصيفية التي انطلقت منها.. كأناشيد: الدمام، والعقيق، والشفا، والصدّيق.. الخ
زرت بيت خالتي وأنا في الابتدائية، فأسمعني أبناء الخالة أناشيد الدمام 2.. فلم أدر لحظتها ما هي ميزة هذا الشريط ليتحلّقوا حول المسجّل لسماعه.. في المساء أعادوا تشغيله، فإذا بي أتفاجأ وألفت نظرهم بأن تلك الأغنية بلا موسيقا !
فأخبروني أن جميع ما سمعناه دون موسيقا.. فقلت: مستحيل.. فقط هذه.. فأعادوا علي الأناشيد كلّها فإذا بها خالية من الموسيقا، ثم أخبروني أن هذه اسمها أناشيد وليست أغان !
تلك هي لحظة تعرّفي على الأناشيد الإسلامية..
في ابتدائية زيد ابن حارثة خرج أحد الطلاب للإذاعة وهتف:
بسم الله ابدا كلامي
وصلاتي وسلامي
ع المظلل بالغمامي
محمد رسول الله..
وبعدها بأيام أنشد:
من أين أبدأ يا عيون الشعر يا وطن الجدود..
الله أكبر في قلوب الصيد تقصف كالرعود..
في الأولى المتوسطة، عندما اشترى أخي المسجل الرمادي، جاءتني هدية من أحد أقربائي مجموعة من الأشرطة كانت أهم هدية أتلقاها في تلك السنين: الشريط الأهم في تلك المجموعة، والذي يعتبر أشهر الأناشيد السعودية على الإطلاق هو شريط " صمتاً "..
صمتاً فقد نطق الرصاص وحسبنا
أن الرصاص إلى الجهاد ينادي
في سفح نابلس لهيب معارك
وعلى جبال القدس صوت جهاد
كل يلوذ بنخوة عربية
كل يردد صرخة استنجاد
كان هذا النشيد آخر ما وصلت إليه فنيّة اللحن والأداء..
ولا زلت أذكر تلك النشيدة القديمة التي تتحدث عن الأذان:
نبّهت للصلاة من كان أغفى
رددت حيّا فاستجاب وخفّى
وتداعى العباد من كل صوب
ليؤدّى الصلاة صفّا فصفّا..
أذكر آخر شريط يمكن أن يكون نهاية مطاف الأشرطة القديمة، والتي تتميّز بنمط متقارب: أصوات مجاميع، أناشيد طويلة، عدم المبالغة في التلحين أو تحسين الصوت، أيضاً عدم وجود أسماء للمنشدين.. هذا الشريط الذي اعتبره آخر الأشرطة التي من هذا النوع هو شريط " كنّا جبالا "..
من ذا رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
كنا نقدم للسيوف رؤوسنا لم نخش يوما غاشماً جبارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
وكانت آخر أنشودة في هذا الشريط كالمودّعة لذلك المنشد الحزين الذي سجّل بصوته أعذب الكلمات وأروع المعاني.. ليأتي عهد منشد آخر له طريقته الأخرى..
تقول آخر أنشودة في شريط كنا جبالاً بلحن حزين مميّز:
مسكين يا غرّيد يا حزين
يا باحثا عن صوتك السجين
في الماء في الهواء في الرمال
في نظرة عذرية حلال..
انتهى بهذا الشريط عهد من الكلمة الجميلة.. وأتى بعده عهد جميل آخر.. بحناجر جميلة أخرى..
جاءت بإبداعات محمد المساعد، وتألق أبي معاذ، وألحان عمر الضحيان، وهدوء أبي عبد الملك، وتوهّج أبي علي.. وغيرهم من أصحاب الحناجر النديّة، والمقاصد العليّة.. أولئك الذين زرعوا فينا مع من قبلهم بالكلمات التي صدحوا بها: حب الخير، والحماسة للدين، والانشغال بحال الأمة..
وفي بيوت الله كانت لنا أيام
أول محاضرة حضرتها في حياتي كانت في مسجد حنيظل، وأنا في الأولى متوسط، لم أكن بعد قد صرت صحويّاً..
صلينا المغرب، ولفت نظري عدد المصلين الكبير ذلك اليوم، وبعد الصلاة رأيت مجموعة يهيئون المكان الذي يجلس فيه الشيخ، ويضعون المايكات على الطاولة..
قام الشيخ فإذا به فارع الطول، حسن الهيئة.. إنّه الشيخ محمود عباس المحروقي.. المدرّس بالمعهد العلمي..
ولأوّل مرّة في حياتي أجلس ما بين المغرب والعشاء في المسجد.. وهكذا كان المسجد هو المكان الأهم في أيام الصحوة، لا قاعات الدورات، ولا الاستراحات، ولا المسارح الضخمة.. كانت بيوت الله هي منشأ ومتفيأ الصحوة المباركة..
صارت المحاضرات حدثا شبه أسبوعي في تبوك، ولا بد أن نحضر كل المحاضرات طوعاً لا كرهاً.. سواء كان الملقي معروفاً مشهوراً، أم خاملاً مغموراً..
قيل لنا أن شيخاً اسمه " د. ناصر العمر " سيلقي محاضرة في جامع الملك عبد العزيز، فانطلقنا أنا وموفّق مشياً على الأقدام إلى ذلك الجامع البعيد.. كانت تفصلنا عنه مسافة كبيرة جداً، فالخالدية جنوب غرب تبوك وذلك المسجد في شمال شرق تبوك ! بمعنى أننا مشينا حوالي عشرة كيلوات لحضور محاضرة الشيخ ناصر العمر..
ومن الطريف أني كنت أظن الدكتور ناصر العمر طبيباً، لأني وقتها لم أكن قد سمعت بأن لقب الدكتور يطلق على غير الطبيب في المستشفى ! وبالفعل فقد كان طبيباً للأرواح، وكان شيخاً مهذِّبا لسلوكياتنا وتصوّراتنا.. ومحاضرة الحكمة خير مثال، وشيخاً مستبقاً للزمن.. وكتاب البث الفضائي خير مثال، وشيخاً عارفاً بل ومتعمُقاً بقضايا تغريب مجتمعه.. ومحاضرة فتياتنا بين التغريب والعفاف خير مثال..
وأتى إلى تبوك شيخ لم أسمع به لا قبل ولا بعد ولعلّه معروف في مدينته اسمه " محمد مرزا عالم " وكان أسلوبه شيّقا.. ونبرة صوته جميلة جداً..
ولا بد أن نمكث يوما أو اثنين بعد المحاضرة نتحدث عن الأحاديث والقصص التي سردها الشيخ الملقي للمحاضرة..
وأذكر محاضرة لشيخ شاب اسمه " سعد البريك " في جامع القاعدة، وقد غصّ المسجد بالحضور، واستغربت كون ذلك الشيخ بلا لحية ! فبان لي بعد ذلك أنّ شعيرات لحيته قليلة لدرجة أنّ البعيد عنه لا يكاد يراها..
ومحاضرة أخرى للشيخ عبد الله حماد الرسّي.. بكى فيها وأبكى..
وانهلّت المحاضرات على مدينتي الصغيرة، وصرنا ننسق للذهاب، فنجتمع في مكان معيّن فيأتينا أحد المتطوّعين بسيارته فنذهب معه لحضور تلك التجمّعات الإيمانيّة..
كانت المحاضرات تشحننا وتزكّينا وتعلّمنا، وكانت أيضا من مظاهر الالتقاء الشبابي..
ومن ذكريات تلك الأيام التي لها علاقة بالمحاضرات هي أننا كنّا نذهب مشيا في ظهر الجمعة إلى جامع أبي بكر الصديق لحضور خطب الشيخ المحروقي.. والمسافة التي تفصل بيوتنا عن جامعه كبيرة جداً.. فنصل وقد أنضجتنا الشمس ! وما زلت إلى اللحظة أتذكر مقدّمة خطبه العصماء: " الحمد لله حتى يرضى، والحمد لله إذا رضي، والحمد لله بعد الرضا، والحمد لله على حمدنا إياه..
في السماء ملكه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر عظمته، وفي النار سطوته، وفي الجنّة رحمته "
لم يكن المحروقي يعترف بالورقة في خطابته.. كان سيلا مندفعاً هكذا.. ينثر الحماسة في كل اتجاه..
كان المسجد يمتلئ، ويفيض بالمصلين الباحثين عن الخطيب الذي يتكلم بحرارة، ويحرّك في قلوبهم المعاني الخامدة..
أذكر أنّ الإخوة قالوا لنا أن هناك محاضرة لأحد المجاهدين الأفغان في " مكتب الدعوة والإرشاد " بعد المغرب، فذهبنا إلى المكتب فإذا بحوش المكتب الكبير قد فُرش..
كان الملقي _إن لم تخنّي الذاكرة_ الشيخ جميل الرحمن الأفغاني، كانت محاضرة عن الجهاد وفضله.. ثم ألقى في اليوم التالي محاضرة في جامع من جوامع تبوك أظنه الملك عبد العزيز.. كان الحضور غفيراً، فالجميع تلك الأيام يريد سماع شيء عن الجهاد الأفغاني، فكيف إن كان المتحدّث مجاهداً أفغانيّا وعالماً سلفياً؟ بعد سنة من تلك المحاضرة تقريباً جاءنا خبر اغتيال الشيخ جميل الرحمن.. رحمه الله وجعل الجنّة مثواه..
ولأن الحديث مازال عن حقبة الخالدية ولم أنتقل بعد للحديث عن حقبة المعهد العلمي أو أيام جدّة والرياض فلن أتحدث عن دروس الشيخ حميدان الجهني والتي كنا نأتيه لأجلها يومياً في بيته لقراءة زاد المعاد، ولا دروس الشيخ سفر الحوالي الأحدية في جامع الأمير متعب بجدة، ولا دروس الشيخ محمد مختار الشنقيطي الأربعائية في جامع الملك سعود بجدة، ولن أتكلم عن درس الشيخ عبد العزيز بن باز ودروس الشيخ البراك والراجحي وعبد الله السعد وغيرهم ممن تشرفت بحضور شيء من دروسهم والاستفادة من شيء من علمهم المبارك..
صار المسجد هو الجامعة الصحوية الأهم، والتي نهل منها جلّ أبناء الصحوة علماً وبركة وسلوكاً إيمانياً..
الصحوة وقضايا السنن والمخالفات
أذكر عندما كنت صغيراً أنني وجميع المصلين _تقريباً_ نرفع أيدينا بعد الركوع وكأننا ندعو قائلين: ربّنا ولك الحمد.. ثم ننزل أيدينا قبل أن نهوي ساجدين ! فلما انتشر الصحويون في المساجد وصاروا يطبّقون الصورة الشرعية لرفع اليدين.. تقلّصت تلك الصورة الخاطئة شيئا فشيئاً إلى أن اضمحلّت، وأظن قارئ هذه الكلمات إن لم يكن من تلك الحقبة سيستغرب كلامي هذا..
جاءت الصحوة، وأحضرت معها سنناً نبوية قد اندثرت فنفخت فيها روح التطبيق حتى باتت ممارسات عادية لا تحتاج لتؤديها إلى أن تعلم دليلها.. الكل يطبقها، إذن فهي سنة !
كنّا نرفع السبابة أثناء التشهد بطريقة معيّنة، لا نضمّ معها أصابعنا، نرفعها مع شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقط، فجاءت الصحوة لتخبرنا بالطريقة الأصحّ لتطبيق هذه السنّة..
كنا بعد الصلاة نصافح الذين عن يميننا وعن شمالنا، في بدعة محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، فجاءت الصحوة لتخبرنا ببدعيّة التزام مثل هذه المصافحة في هذا الوقت..
كان الكثير من المصلين يقوم بين خُطبتي الجمعة ليصلي ركعتين، وها قد تلاشت هذه البدعة بفضل الله ثم بانتشار الفتاوى التي تقول ببدعيتها عبر مشايخ الصحوة وأشرطة الصحوة ومنشورات الصحوة..
المخالفات المتعلّقة بالمسجد كثيرة، والسنن المتعلقة به أكثر جاءت الصحوة المباركة لتلغي المخالفات وتذكّر بالسنن.. فتجدد الدين في قلوب وسلوك الناس..
ولو خرجنا من المساجد لرأينا ما هو أكثر وأشهر من السنن المتروكة والمخالفات المعمول بها سواء كانت مكروهة أم محرّمة أم مبتدعة..
ومن هذه السنن وأشهرها مقولة " إني أحبّك في الله " فقد ذربت بها ألسنة الصحويين، فصاروا يقولونها بلا استغراب، وانتشرت في المجتمع حتى بات الجميع صحوي أو غير صحوي يقولها ويسمعها باعتيادية، بعد أن كان لفظ الحب ومرادفاته من المحظورات المجتمعيّة..
قل مثل ذلك في سنة زيارة المريض والتي باتت متغلغلة بشكل مبهج جداً، كنا لا نذهب لزيارة صاحب لنا أو قريب في المستشفى إلا ونمرّ على بقيّة الغرف لنسلّم على أصحابها وندعو لهم بالصحة والعافية..
ومما أذكره أنّه وصلنا خبر أحد الأصدقاء (أحمد المهدلي) وأنّه قد وقع عليه وعلى صُحبته في السيارة حادث قريباً من محافظة أملج.. فانطلقنا من تبوك ظهراً لنصل إلى أملج منتصف العصر، فإذا بنا لا نكاد نبلغ غرفته التي كانت في أقصى مستشفى أملج بسبب زحام الناس في المستشفى، فلما بلغنا غرفة صاحبنا اكتشفنا أن أولئك العشرات بل المئات من الشباب الذين غصّت بهم المستشفى إنما جاؤوا خصيصاً لزيارة صديقنا وصحبه ! مع أنّهم لا يعرفونه أبداً ! فقط وصلهم خبر بأنّ أخاً لهم في الله أصيب بحادث، فهُرعوا لزيارته.. كان هذا قبل أن تظهر مواقع التواصل الاجتماعي.. جعلتنا الصحوة متواصلين دون الحاجة إلى تويتر وفيس بوك !
ومن السنن المهجورة التي أحيتها الصحوة في واقع الناس سنّة النصيحة، وكأن أول حديث حفظته في أول يوم صحويّ لي هو حديث " الدين النصيحة " ولعلّه أول حديث طبّقته وعملت به..
فمن الأمور الاعتيادية جداً أن يسلّم عليك أحد الشباب ويأخذك جانباً ليوصل إليك ملاحظة معيّنة في كلامك أو سلوكك أو تصوّرك لأمر ما.
الصلاة في النعال من السنن التي لم أجدها عند غير الصحويين، وقد استنكرتها أول ما رأيتها ثم بيّنوا لي أنها السنّة، خاصّة في صلاة البريّة أو المساجد غير المفروشة..
أما المخالفات التي كان للصحوة الفضل في تبيينا والتحذير منها فحدّث ولا حرج.. ومن أهمّها التهاون في قضايا الحجاب وتغطية الوجه، فمن المعتاد جداً في مجتمعات الناس تلك الأيام دخول الحمو على زوجة أخيه، ودخول المرأة لتقديم الطعام إلى المجلس حيث يجلس ضيوف الزوج، قد لا يبلغ الأمر للمصافحة ولكن كشف الوجه كان وارداً جداً مع التحيّة وإلقاء السلام.. فجاءت الصحوة بحنجرة سعيد بن مسفر وعائض القرني ومحمد المنجد وغيرهم فنبهت الغافلات من المؤمنات إلى تحريم مثل هذه الممارسات.. وما هي إلا سنوات حتى اختفت تماماً _ أقول تماماً وأنا أعني تماماً _ هذه الظاهرة التي مردّها إلى الجهل، لا إلى اتباع شهوة أو نقص غيرة..
باب المخالفات واسع وباب السنن أوسع.. ولكن الغريب أن باب شكر الصحوة على هذه المنجزات بات باباً موصداً..
بروتوكولات صحوية
ليست من الدين، ولكنّها من المتعارف عليه صحويّاً..
_وأول هذه البروتوكولات الاستغناء عن لُبس العقال، فترى الجموع الشبابية في المحاضرات والمراكز والمساجد وقد ألغوا العقال من زيّهم، وكأنّهم بذلك ألغوا شيئا من تعلّقهم بالدنيا.. أليس العقال جمالاً؟ إذن لماذا يستغنون عن هذا الجمال..
فأول تطبيق للزهد في حياة الصحوي يطبّقه في عقاله.. فينزعه لينزع به شيئا من الدنيا عن قلبه واهتمامه..
بل إن منظر الملتزم الذي يرتدي العقال في تلك الأيام يعدّ غريباً، ويشي بشيء من التعلّق بالدنيا.. إنها إحساسات غامضة، لم تكن مما يُتفوّه به، أو ينظّر له..
_ومن بروتوكولات الصحوي لبس الساعة في يمينه، هذا المظهر الذي لم تعد تسمع له ركزاً في حياة اليوم، كان مظهراً شائعاً ذائعاً، وقد قاومه بعض المشايخ ولكنّ سطوة الشبابية والأخذ بما يظنونه عزائم أقوى من توجيهات المشايخ.. في دلالة على أن الصحوة وإن كانت تنهل من معين العلماء إلا أن تيّار الشبابية والحماسة كان له دور في كثير من مظاهر الصحوة..
_وكنت تعرف الصحوي بأشرطة كثيرة منتثرة على غير انتظام في سيّارته، وكان يعتبر إشارة المرور الحمراء فرصة دعويّة ثرّة، فتجده يبحث عن المناسب عند إشارة المرور ليناوله عن طريق الجالس بجواره شريط موعظة أو قرآن يستغل به وقته.. فصارت الصحوة تشع من وفي سيارات جميع أفراد المجتمع ذلك الوقت.. تقريباً..
_بعض الصحويين أتوا ببدعة غريبة في الصلاة، وهي رفع الكتفين، وأذكر أنّي اكتشفت أن أحد الجيران بات صحويّا عندما رأيته يبالغ في رفع كتفيه بعد تكبيرة الإحرام دلالة الخشوع.. فحرصت بعدها على التعرّف عليه، والتحدّث معه بعد الصلاة..
ولا أفشي سرّا إن قلت إني مارست هذه البدعة حيناً من الدهر، وكنت أظن أن من لا يرفع كتفيه يعاني من نقص ما في إيمانه أو خشوعه !
_وإن كان التجافي في السجود من السنن إلا أن بعض الصحويين _ لعلّي أتحدث عن بيئتي الصحوية _ كانوا يبالغون في التجافي، وكنت منهم إلى أن نصحني " صالح ضاري " رحمه الله بعدم المبالغة في ذلك، فقلت له إن ذلك من السنّة، فقال: ليست من السنة بهذا الشكل أبداً..
_ومما انتشر في تحايا الصحويين الإجابة عن سؤال: كيف حالكم؟ بــ: طيّبون.. بالرفع.. في دلالة على انتهاج الفصحى والاعتداد بها..
_تربية الشعر من مظاهر بعض الصحويين، ثم بعد ذلك باتت علامة على الجهاديين تحديداً _ والجهادي هو من يُعنى بشؤون الجهاد أكثر من شأن الدعوة وطلب العلم _.
_لُبس الخاتم أيضاً من سيما بعضهم.. اقتداء بسنّة النبي صلى الله عليه وسلم..
_العود وما أدراك ما العود، كان العطر المفضّل للصحويين، نعم قد يتعطر البعض بغيره من الأطياب، ولكنّه يظل في المقدّمة، تزخر به مجالسهم، ويتسلل إليك عبقه في كل مكان يوجد به صحوي..
من الصعب حصر بروتوكولات الصحويّ، وأظنّها تختلف في النوع وفي الدرجة من بيئة لبيئة.. ولكن عموماً فقد أتت الصحوة لتشكّل ثقافة دينية وحياتية ومصطلحيّة.. وتشظّت في جميع نواحي الحياة.. وأصبحت واقعاً يتلحّف به الواقع السابق.. وحقيقة تتدثّر بها حقيقة المجتمع.. وجذوراً تندس تحت نبتة الحياة..
الصحوة بين القطار والسفينة
لم نكن نعتبر أنفسنا كصحويين مسافرين في قطار فات البعض، ونحن ننعم بالحديث في مقصوراته الفارهة.. لا..
بل كنا نعتبر أنفسنا في سفينة أنقذت البعض، وجاء دورنا لمحاولة إنقاذ بقيّة الغرقى في جهات السفينة الأربع..
كنّا نسهر الليالي لنخطط لهداية إنسان، أو إلقاء موعظة تذكيرية، أو ابتكار طريقة جديدة لإيصال شريط أو كتيّب لشخص تكاد تبتلعه أمواج الغفلة..
وسبق وذكرت حرصنا أنا وموفق على نصيحة ذلك العامل في " استريو غازي " وكيف أنّا ابتكرنا الطريقة التي رأيناها مناسبة لنصيحته بأن كنت أغلّف له الأشرطة وأكتب له الرسالة ويتولى موفق إيصالها ونصيحته الشفهية له.. وما زلنا على ذلك إلى أن بشّرني موفق بأن الرجل قد غيّر مجال عمله.. فكانت فرحتنا بذلك لا توصف..
أتذكر أن أبا عمر أوصاني أنا وأحمد بأن نتعاهد أحد الملتزمين الجدد بالمصاحبة والإكرام، فكنّا نذهب معه إلى كافتيريا سماح، ونباشر عليه، ونتألفه، وسعدت كثيراً عندما رأيته بعد أسابيع أو أشهر قصّر من ثوبه، في إشارة واضحة إلى انتقاله إلى عالم الصحوة الرحيب..
ومرّة أعطاني أبو عمر مجموعة من الأشرطة أتذكر من عناوينها: " حاول وأنت الحكم "، وشريط " الشباب والتجدد " للشيخ البريك.. وقال لي: وزّعها بطريقتك..
فكنت لا أتحرّك إلا وفي جيبي قنبلتين من هذه الأشرطة، لم تكن قنابل تميت الأجساد بل تحيي الأرواح.. وكنت أهتبل الفرص لتوزيعها وأبتكر الأساليب لإيصالها..
ذات يوم زارنا في الخالدية شاب من جماعتنا وفي مثل أعمارنا أنا وموفق، وكان يسكن في المدينة العسكرية، فشعرت بأن الشريط في جيبي يكاد أن يقفز إليه، فصرت أمثّل أنا وموفق حتى يصل إليه شريط " حاول وأنت الحكم " بطريقة سلسة عفوية.. فتصنّعت اندهاشي كون الشريط مازال في جيبي، ثم سألت موفق: هل معك مثل هذا الشريط؟ فقال: نعم.. فسألت صاحبنا، فأجاب بالنفي.. فأخبرته أن هذا الشريط زائد عن حاجتي وسوف يتكرّم إذا خفف عليّ من حِمله.. وقد كان..
بعد أسبوع أخبرني موفق وقد كان مبتهجاً أن لقاءهم الأسبوعي ضمّ أبا صاحبنا وأنّه صار يثني على الشيخ سعد البريك ويوصي بالسماع له !
بعد أشهر أخبرني موفق أن ذلك الأب قد أطلق لحيته.. والتزم بدين الله..
بعد سنة أو اثنتين.. توفي ذلك الرجل الصالح.. وهو على هداية واستقامة..
لم نكن متيقنين من أننا السبب في هدايته، ولكنّنا نبذل الأسباب ونسعد إذا رأينا بوادر تشي بنجاحاتنا في هداية الخلق لله..
كنا ندفن خلافاتنا إن مرّ شاب غير ملتزم بنا، ونتصنّع الابتسامة فقط لنجذبه إلينا..
كنا ندفع من أموالنا، ونبذل من أوقاتنا، ونوزّع من ابتساماتنا، ونلين من خطابنا، ونهش ونبش لكل مارّ بنا، أو مقترب من حياتنا، أو من تظهر عليه بوادر هداية..
كنا نستشير معلمينا ومربينا في شأن ضال ما، أو مبتعد عن الطريق وكيف لنا في أن نصل إليه، فتأتينا الأجوبة الناصحة، والمرشدة.. فلم نكن نكتفي بوجودنا على ظهر السفينة.. كنا نتحرّق حزناً على أولئك الذين نرى الأمواج تبتلع بعضهم وتخطط لابتلاع بقيّتهم.. فتصرخ قلوبنا بصدق " غرقى فمن ينقذهم؟ "
وأخيراً: كنّا نبكي من قلوبنا.. إذا ما استقرّ أحدنا على ظهر السفينة.. وألفنا وجوده وألف وجودنا، ثم وفي ليلة سوداء خرج لبعض شأنه فإذا بنا نسمع ارتطامه بمياه المحيط.. كنا نسمي تلك الظاهرة بالانتكاسة.. وكنا نبكي لأجلها.. ولم نكن نتخلى عن أولئك المتساقطين أبداً..
المتساقطون
الانتكاسة من أشهر مصطلحات الصحوة، وتعني السقوط من سفينة الصحوة ! أو إن أردتّ التفصيل فهي عودة الشاب الملتزم والذي ظهرت عليه بوادر الاستقامة على دين الله عودته إلى سابق حاله من البعد عن أهل الخير، وعدم المحافظة على الصلاة، والتلبّس ببعض المعاصي كسماع الغناء، والاستغناء عن مظاهر دينية كان قد تمسّك بها كإعفاء اللحية وتقصير الثوب..
بعد التوهّج الديني في حي الخالدية، والذي انقسمنا بسببه إلى جلستين مكتظتين بالشباب، بدأت ظاهرة الانتكاسة تغزو واقعنا الجميل..
كنّا مجتمعين في مكان فسيح نلعب فيه كرة القدم في مساءات تلك الإجازة، فجاءات سيارة هايلوكس حوض وقد وقف في حوضها أحد الشباب المؤثرين بأسلوبهم.. يبكي، كان شكل السيارة القادمة علينا بهدوء وبكاء صاحبنا مثيراً بما فيه الكفاية، اقتربت السيارة فسمعنا ما يردده ذلك الشاب والذي أتقن نقل الخبر بطريقة مسرحية رهيبة: فلان الفلاني انتكس !
كان الخبر محزناً، ولكن طريقة إيصال الخبر كانت مؤلمة جداً..
فلم نتمالك أعيننا وبكينا على فقدان ذلك الشاب الرائع، والذي كنّا جميعاً نعتقد أنّه أقوى منّا إيماناً، وأشدّ نقاء، بل وأحرص منّا جميعاً على صيام الاثنين والخميس..
صرنا بعد انتكاسة صاحبنا هذا، نشكّ في بعضنا البعض، فليس منّا من يمكن أن يكون مبرأ من الانتكاسة، الانتكاسة شيء يمكن أن يقع فيه أي شخص منا..
بعد أشهر، جاءنا الخبر الثاني والذي كان أكثر غرابة !! صاحبنا الذي كان يبكي في حوض الهايلكس انتكس هو الآخر !!
بعد أسابيع: بعض من بكوا على انتكاسة هذين الأخوين انتكسوا أيضاً..
وكثر المتساقطون.. وكثرت فجائعنا.. وصرنا نجتمع في جلسة واحدة، فلم يعد هناك من حاجة إلى جلستين فقد صار عددنا أقل بكثير، وصرنا لا نسير في زقاق من أزقة الخالدية إلا ونرمق أحد هؤلاء الذين كانوا ملء السمع والبصر.. هؤلاء الذين كنا نعتقد أنّهم أقرب إلى الله منّا.. وأتساءل: ما بالهم استغنوا عن الله بهذه السرعة؟
لم أكن سعيداً ببقائي ملتزماً بقدر خوفي من هذا الكابوس الذي ينتشلنا واحداً تلو الآخر ! صرت أتساءل: كيف ستكون انتكاستي؟ وهل يمكن أن أترك هذه الأجواء الرائعة، وهذه الأوجه المضيئة.. ثم أتساءل بحرقة: وماذا سيحدث لو تركتني هذه الأوجه المضيئة وانتكست؟
كنت خائفاً..
يبدو أن مجتمع الخالدية بات مجتمعاً مهدداً بالانتكاسة، وأن مرضاً ما بات يغزونا من الداخل.. في تلك الأثناء صار بعض المنتكسين، أو من هم قاب قوسين من الانتكاسة ينشرون شائعات عن بعض الشباب، صرنا نعيش في واقع مليء بالريبة والشكوك..
كنت في تلك الأثناء أعيش في واقعين صحويين.. واقع الخالديّة، وواقع آخر جديد.. كنت قد انقسمت إلى شخص يعيش في النهار مع واقعه الجديد ويعيش مساءه في حقبة الخالدية الجميلة.. ولكن تلك الأجواء الجديدة، والانتكاسات المتوالية.. والإشاعات التي كدّرت صفاء الخالدية.. جعلتني أتنازل عن حياة الخالدية.. وأضعها في رفّ الماضي.. وأصادق واقعي الجديد.. فأعيشه في الصباح طالباً.. وفي المساء صديقاً..
ولاكتشاف هذا الواقع الجديدة، والحقبة الصحويّة الجديدة قصّة سأختم بها هذا الجزء من أيام الصحوة.. لأبتدئ فيما بعد حديثاً أكثر إثارة وتشويقاً وأكثر تنوّعاً وغرائبيّة.. عن هذه الحقبة الجديدة.. إنّها حقبة " المعهد العلمي ".. والتي امتدّت لأربع سنوات، ولثلاث مدن: تبوك، وجدّة، وفيفاء..
نور آخر النفق..
تحدّثت سابقاً عن مدرستي، وعن واقعي الدراسي، وكيف أنّي صرت أراه واقعاً مظلماً، فلا الطلاب يشبهونني في اهتماماتي الجديدة، ولا المعلّمون يتفهّمون تطلعات جمجمة صبيّ مثقلة بهموم جديدة..
وفي يوم من أيام الخالدية كنت على موعد مع شكل جديد للاجتماعات:
قيل لنا أن هناك إفطاراً جماعياً في إحدى الأيام، لعلّه يوم اثنين، وأن علينا أن نصوم ثم نجتمع قبيل المغرب ونُحضر معنا من بيوتنا المتيسّر من الطعام لنتناوله سويّا، كانت فكرة رائعة، فاجتمعنا بجوار إحدى مزارع طريق المدينة، وكان النسيم البارد يحمل معه عبق أشجار المزارع، ويحرّك أغصان شجر الكين الفارع فتحدث خلفية جميلة لأحاديث متنوعة، وجدت في ذلك اللقاء أوجهاً جديدة، بعضها في عمري وبعضها يكبرني قليلاً، وكان هناك شخصيّة كبيرة، لفت نظري حماسها في الكلام، وصوتها الحادّ جداً، كان الشيخ حميدان، والذي سيصبح فيما بعد أيقونة تربوية في حياتي أستفيد منها كثيرا.. أزعجني أنّه لم يلتفت إليّ مطلقاً، ولكن حديثه كان جاذباً لي جداً لأنّه كما يقال _ وطئ على الجرح _ ! كان يتحدّث مع اثنين ويحاول إقناعهما بالانتقال في السنة القادمة إلى المعهد العلمي في تبوك والذي كان مدرسا فيه، ويخبرهما بمزايا المعهد، وكيف أنّه يركّز على مواد الشريعة واللغة، وكيف أن أساتذة المعهد أصحاب علم ورقي في التعامل، وتحدث عن الاجتماعات والطلعات التي تقام في المعهد، عمل دعاية مكثّفة للمعهد، ولم يدر أن ذلك الشاب الذي لم يأبه لوجوده كان أحوج ما يكون لتلك الدعاية، قررت _ وبدون تفكير_ الانتقال إلى تلك المدرسة التي _ ولا شك_ ستكون أفضل من مدرستي التي لم أرتح فيها يوماً..
انتهى ذلك اللقاء.. وصار المعهد العلمي هاجساً في نفسي.. كنت أذهب الصباح وأعود الظهر من مدرسة الأبناء الثالثة ولكن صورة المعهد العلمي لا تغيب عن مخيّلتي.. تلك المدرسة التي لن أجد فيها معلّماً يمسكني من تلابيبي ويهزني بعنف لأني أنكرت عليه التصفيق ! ولن أجد فيها معلّماً يجعل أسئلتي له عبارة عن محاولة لإسقاطه وفضح مستوى ثقافته الضحل، ولن أجد فيها معلّما يسخر بطريقة نطقي لحديث نبوي شريف.. حزمت أمتعة العزم، وقررت قراري الذي لا رجعة فيه.. وما أن انتهت السنة حتى صرت من طلاب المعهد العلمي.. أنتظر وعلى أحرّ من الجمر اليوم الأول في الدراسة..
مرّ الصيف سريعاً، كنت فيه أحلم باليوتوبيا الجديدة التي سأعيش فيها حياة جديدة.. وأتخيّل تفاصيل أيامي فيها..
جاء اليوم الأول.. دخلت من بوابة المعهد.. شعرت بأشياء تبتسم في داخلي..
هل يعقل أني أصبحت طالباً في المعهد العلمي؟
كان صوت الطالب " علي عسيري " يصدح في أرجاء المعهد عبر المايكرفون.. كان صوته صباحيّاً بدرجة كبيرة، يشبه تغريد العصافير، وحفيف الأشجار، ونداوة الفجر.. تفاجأت: فأعداد الملتزمين كبيرة.. من الطلاب والمعلّمين ! ما هذا؟ هل أنا في الجنّة؟ شعرت بسعادة غامرة، تركت متوسطة الأبناء الثالثة ببنائها الرائع.. واتجهت إلى المعهد العلمي ببنائه العتيق.. ولكنّه كان يحوي مجتمعاً مثالياً رائعا..
ابتسم الشيخ حميدان الجهني عندما رآني.. بحثت بعد ذلك عن الأخوين اللذين كان الشيخ حميدان يقنعهما بالانتقال إلى المعهد العلمي.. ولكنّي لم أجد لهما أثراً في المعهد.. يبدو أنّي كنت الشخص الذي قدّر الله على الشيخ حميدان أن يتحدّث عن المعهد من أجله..
كان ذلك اليوم الجميل، بداية حقبة صحويّة بالنسبة لي.. اجتذبتني وأبعدتي عن حقبة الخالدية الجميلة الجليلية..
ختام
انتهى هنا الحديث عن الجزء الأول من أيام الصحوة " حقبة الخالدية ".. وسأكمل إن شاء الله الحديث فيما أستقبله من أيام عن الجزئين اللذين يتحدثان عن " حقبة المعهد العلمي "، و " حقبة الجامعة "..
أستغفر الله عن الخلل والزلل.. وأعتذر عمّن تجاوزت الحديث عنه سهواً.. ومن تجاوزت في الحديث عنه خطأ..
أسعد بقراءة ملاحظاتكم.. وتوجيهاتكم.. والتي ستفيدني حتماً قبل تحويل الحلقات إلى ملف PDF مدعّماً ببعض الصور للأماكن المذكورة في الحلقات..
وصلى الله وسلم على سيّدنا محمد.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
مختارات