" الحديقة الخامسة : حديقة بر الوالدين "
" الحديقة الخامسة: حديقة بر الوالدين "
صنيعة من صنائع المعروف لا تعدلها صنيعة، من أين أبدأ الحديث عنها وكيف أنتهي!! بر أوصى به الله بعد توحيده، وحثَّ عليه نبيُّه صلى الله عليه وسلم وحثَّ عليه، وأفاض فيه العلماء والوُعَّاظُ والخطباء، فماذا عساي أن أقول بعد قول الله تعالى: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا " [الإسراء: 23-25].
وماذا بقي لي أن أقول بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» [رواه مسلم].
غير أن المصيبة أننا ننسى أن شجرة بر الوالدين سريعة الإثمار، دانية القطاف، يراها صاحبها عيانًا بيانًا في دنياه، ويدخر له العظيم منها في أخراه، فلماذا تهز فتن الدنيا يقيننا بهذا، حتى تميل بنا عن برنا لوالدينا، بئست الحياة من غير جميل أو رد جميل، وجميل الوالدين أي جميل.
إن برَّ الوالدين – بعد توفيق الله – سر الفلاح في الحياة، والنجاة من كثير من الكروب، به تسعد النفوس، وتنشرح الصدور، ويرى البار بوالديه السعادة بأم عينيه، بركة في صحته وماله وذريته.
أرعِ لهذا الحديث سمعك، والتفت إليه بقلبك، وتأمل فيها صنائع البر والمعروف، وكيف كان جناها:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني، وأنه نأى بي ذات يوم الشجر، فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرَّجَ اللهُ منها فرجةً فرأوا منها السماء». [رواه مسلم]، وهكذا صار كل واحد من الثلاثة يدعو الله بعمل صالح تقرب به إلى الله حتى فرج الله عنهم كربهم وخرجوا من هذا الغار.
لقد رأوا الحياة بعد الموت، والنجاة بعد الهلاك؛ إنه قطاف البر، وجنى المعروف، إنه قطافه وجناه الذي ستراه أيها البار في صلاح أولادك ومحبتهم لك، ورعايتهم لأمهم وحبهم لها، فاهنأ ببرك في دنياك وآخرتك.
وماذا – بربكم – سيجني من عَقَّ والديه غير نكد في العيش، وضيق في الصدر، وشؤم في الأرزاق، وعقوق من الأولاد، يا ويل تلك النفوس الغليظة على الوالدين إن لم تعد إلى الله، يا ويل تلك الأيادي الباطشة بالوالدين إن لم تتب إلى الله، يا ويل تلك الألسنة السليطة على الوالدين إن لم تستغفر الله.
رَبَّتْه أمُّه على ضعف، وسقته من دمها، وغذَّتْه من لحمها وعظمها، يقوى وتضعف، وينام وتسهر، تُظْلِمُ الدنيا في وجهها إذا أصابه مكروه، وتبتسم الحياة أمامها إذا ابتسم، تعاف لذائذ المتع من أجل راحته، وتؤثره بأحلى الطعام وأهنأ الشراب، تهدهده صغيرًا، وترى فيه أملها كبيرًا، فإذا بلغ قوته واشتد ساعده وانطلق لسانه، زوَّجته المرأة التي يحب، ففرحت بفرحته، وسعدت أكثر منه لكنني – أيها القارئ الكريم – فوجئتُ بصوت الهاتف يقرع سمعي فإذا بي أسمع صوتًا مبحوحًا باكيًا... ممتزجًا بحشرجة صدر مريض... ونبرات بكاءٍ تقطع نياط القلوب... إنه صوت أم مسنة أخذت تقص حكايتها الأليمة لي في عقوق ولدها لها فتقول: لقد توفي والده بسكتة قلبية، ومعي ولد يبلغ من العمر عشر سنوات تقريبًا، وأنا مصابة بعدد من الأمراض المزمنة، وهو الآن يسكن مع زوجته في الدور العلوي، إنه يهينني كلما نزل ومر بي، وينهال علي بأبشع السباب والشتائم، وكلما تشاجر أخوه الصغير اليتيم مع ولده أخذ يهلك أخاه ضربًا في غاية القسوة وأنا لا أستطيع الدفاع عنه لشدة مرضي ولكبر سني، ولا يكتفي بهذا بل يمسك أخاه من يديه ليمكن ولده منه فيرهقه ضربًا وركلاً حتى يبرد ما في خاطره، ويترك أخاه يذوق منه مرارة القهر والحرمان بدلاً من الحنان والأخوة؛ بل إنه يمر عليَّ أحيانًا وقد غطى وجهه عني حتى لا يراني، ويقول لي بكل جفاء: أنت لست أمي... ويتبعها بما لا يقوله من في قلبه شيء من رحمة أو رأفة... وإنه ليفعل ويفعل...ما كنت أحسبني أسمع مثل هذا الحديث المفجوع في مجتمعاتنا المحافظة، ولكنه الشذوذ والشقاوة فحسب، فبدأت أعرض عليها نصيحتي له، علّه أن يفيق من غفلته، فقالت لي بكل خوف: لا... لا تكلمه. أخشى أن يؤذيني ويؤذي أخاه، وما بي حيلة عليه وعلى قوته وبطشه، وطالت الشكوى بألوان من القسوة والغلظة... فلم أحتمل، فقلت لها: إذًا أرفع أمره إلى القضاء، فعلا صوتها قائلة: تقول قضاء!! أشتكي على نور عيني!! أشتكي من ربيته بيدي، وسقيته من صدري؟! إنه حبيبي... إنه ولدي حشاشة فؤادي... هل أرضى عليه بالخزي والفضيحة... إنما أرفع أمره إلى الرحمن الرحيم أن يهدي قلبه، ويصلح شأنه...فعرفت أنها آهة مكلومة أرادت أن تنفس بها صدرها وتخفف عنها ثقلها...لا إله إلا الله... كم للأم من قلب حنون... وصدر رحيم...أيها الأحبة: لقد علمتُ من حاله بعد ذلك بأنه يعيش مع نفسه مشدود الأعصاب... مضطرب الأحوال... ولا غرابة فقد ضل عن سبيل حديقة البر الهانئة... وابتغى بدلها قفر الشقاوة وصحراء العقوق...فلنتعظ بغيرنا؛ فالسعيد من وعظ بغيره.
مختارات