أيام الصحوة...الحلقة (6)
طلعة الأربعاء
من أجمل ما تركته تلك الأيام المشرقة في ذاكرتي ما اصطلحنا على تسميته بــ " طلعة الأربعاء ".. وهي لقاء أسبوعي حُدد له يوم الأربعاء ليكون بعد أسبوع دراسي مرهق، فتأتي هذه الطلعة لتنسينا بما فيها من لعب ومرح وفائدة ولقاء تعب ذلك الأسبوع..
تبدأ إطلالة هذه الطلعة منذ قبيل صلاة العصر، فترانا نتجهّز بكيّ الثياب، ووضع ملابسنا الرياضية في الأكياس، ثم نذهب إلى المسجد للصلاة، لا أخفيكم أن صلاة العصر تلك أكون فيها كالطائر الذي يستعد للخروج من القفص، أشعر بفرحة غامرة، أتخيّل تفاصيل ما سيجري، أريد من الإمام أن ينتهي لأركض خارجاً إلى إحدى السيارات التي تنتظرنا في الخارج..
تنتهي الصلاة فنُهرع للخروج من المسجد، نتحدث مع بعضنا عن كل شيء.. إلى أن يلوح في الأفق طيف سيّارة لإحدى الشباب الذين يأتون ويقلّوننا.. فإذا ما كان عددنا أكبر من أن تستوعبنا سيّارته ركب معه بعضنا وانتظر البعض الآخر لتأتي سيارة أخرى وتحملهم إلى طريق المدينة..
طريق المدينة في تبوك ذلك الوقت هو المكان الذي تنتشر فيه المزارع والاستراحات والبرحات الكبيرة التي يلعب فيها الشباب الكرة، ويخيّمون فيها، وتنتثر فيها العوائل لاحتساء الشاي والقهوة...الخ
كانت أشعة الشمس قويّة تتسلّط على أوجهنا في السيارة لنرى تفاصيل الفرح..
اهتزازات السيارة في الطريق غير المعبّد بين المزارع مازال يحكي لي بعبثيّة عن تلك النفس التي أحبّت الحياة لمّا اكتشفت أولئك النفر..
وبعد عشر أو عشرين دقيقة نصل إلى المقر.. مساحة هائلة الكِبر بين المزارع، صنعنا منها ملعباً كبيراً، ومصلّى، ومكان لاحتساء المشروبات الساخنة، ولذكر الله بعد المغرب.. وتبقى مساحات أخرى ممتدة ننظر إليها من بعيد.. تملأنا رهبة لضخامة حجمها ..
تصل سيّارتنا، فننزل منها نصافح أولئك الذين جاؤوا من أحياء أخرى، نرمق في ابتساماتهم المشتاقة معاني الأخوة.. وبعد دقائق تقبل سيارة أخرى مليئة بالشباب وهكذا إلى أن يكتمل العدد.. فيلبس من يريد لعب الكرة " الطقم الرياضي " ثم نشرع في اللعب..
كنت ألعب حينا، وأجلس على بساط الشاي أحياناً.. وقد كان نزولي إلى الملعب يعني قهقهات تتوالى من كل جانب، إذ أني لا أفقه شيئا في كرة القدم، وقد كنت بعض الأحيان (أشوت) الكرة في مرمى أصحابي، وهذا أمارة على أن الله سبحانه لن يفتح لي في هذا الفن لا أنا ولا أبنائي ولا حتى أحفادي ! على حد وصف الجاحظ لأحد محرومي موهبة الشعر..
قبيل المغرب يأتي إليك أحد المشرفين على الطلعة ويهمس في أذنك أنّ: أذان المغرب عليك..
أتذكر " فهد الحميد " عندما أخبرني أن عليّ أن أؤذن للمغرب.. فشعرت أنّ جبلا قد وضع على رأسي.. حاولت أن أصرف ذلك التكليف عنّي، ولكنّه أصرّ، وأحسن إذ أصرّ.. فلا بدّ أن تتعرض نفسية المتربي لأشكال متنوعة من الأوعية والدوارق حتى تتشكل نفسه بالأشكال الممكنة، ثم بعد ذلك يستقر على ما حببه الله إليه وما أتقنه من مهارات وعلوم.. لأن هذا التعرّض يعرّف المتربي على إمكانيّاته، ويعرف المربّي على مواهب من هو تحت يده ليحسن توجيهه..
ابتعدت قليلاً عن الشباب، ثم أذنت أذاني الأول.. كان أذانا بالغ الحياء ! بعد أن أذنت أقبل إليّ " علي القاضي " وشكرني وابتهج بأذاني ثم نصحني بلطف حول كيفية نطقي لـــ " أشهد أن لا إله إلا الله " حيث أنّي كنت أشدّد نون (أنْ) !
بعض المرات نتحلّق ليعلمنا أستاذنا " علي الرميش " أذكار المساء، ثم بعد ذلك تقام الصلاة ونصلي..
يُخيّل إليّ أن أغصان تلك الأشجار التي اكتظت بها المزارع حولنا تتمايل على صوت " فهد الحميد " وهو يقرأ بالحاقة.. وأن رمال البساط الرملي تكاد تبكي على صوت " فرحان البلوي " وهو يرتّل هل أتى على الإنسان.. أما " ناصر عقيل " فقد كان يأخذنا جميعاً إلى مكان بعيد من الخشوع..
رحمها الله من أيام كانت فيها قلوبنا تستشعر آيات الله كما لو أنّها نزلت للتوّ علينا بين المزارع..
وبعد الصلاة.. نسبّح ونذكر الله ونصلي الراتبة.. ثم نجتمع على بساط كبير.. نرتشف الشاي مع البسكويت لدقائق، ونتبادل النكات والتعليق على لعبنا الفائت.. ثم يبدأ أستاذنا بالتمهيد لدرس تلك الليلة وبعدها يبدأ أحدنا بقراءة أو سرد درسه..
وما أجمل أي كلمة تسمعها في ظلام الليل.. حيث النجوم تراقب المكان بألق.. وأنسام ما بعد المغرب تتحرّك بلطف فتشعرك بدفء ما تسمعه من كلمات..
نصلي العشاء كما صلينا المغرب.. ثم نركب سياراتنا وقد أتخمنا مرحاً وضحكاً وإيمانا.. ونعود إلى بيوتنا لنبدأ بعدّ الساعات والأيام التي بقيت على الأربعاء القادم..
هذه هي طلعة الأربعاء التي لم أتخلّف عنها طوعاً لمدة عشر سنوات ! والتي كانت تعتبر من الواجبات (غير الشرعية) على الصحويّ، لا يتخلف عنها أحد أبداً.. وحتى لو كان لديك عذر في تخلّفك فإنّك لن تخلو من المساءلة اللطيفة والمشجعة..
سمعنا فيها مئات المواعظ والكلمات والأحكام والقصص والموضوعات الثقافية والتاريخية والتربوية..
لعبنا فيها أنواع اللعب..
تعرفنا فيها على مئات الأوجه، ومئات الأرواح، ومئات الشخصيات: عرفنا الغضوب، وتعاملنا مع المرِح، واستطعنا أن ندلف إلى نفس الانطوائي، واكتشفنا أغوار الموهوب، وعرفنا الفقير كيف يفكر، والغني كيف يتأمل، قرأنا أحلام اليتيم، وأطماع المستبد..
صُقلت مواهبنا فيها: منّا من أذّن، ومنّا من صلى، ومنّا من ألقى درساً في السيرة، ومنا من قدّم موعظة قرآنية، ومنّا من أقام مسابقة ثقافية، ومنّا من نسّق ورتّب، ومنّا من صنع العصير وأعدّ الشاي ورتّب المكان.. وتتكرر هذه المهام مع تكرر هذه الطلعات إلى أن عرف كل منا ما يجيد: فأفصح العيي، وحفظ البليد، وأتقن الأخرق.. ناهيك عن أصحاب المواهب الذين تألقوا وأبدعوا وتميّزوا.. وانصرفوا إلى الجامعات التي زادتهم علماً.. ثم هم الآن في شتى قطاعات هذا البلد يبذرون الخير في هذه الحياة..
مركز ثانوية تبوك
قبيل انتهاء الاختبارات النهائية لثاني متوسط من عام 1411ه سمعت من الشباب " عوض وحاتم وطلال والبقيّة " حديثاً عن المركز الصيفي، وبأنّهم قرروا أن يلتحقوا بمركز ثانوية تبوك..
لم يسبق لي أن سجّلت في مركز صيفي، بل لم أكن واعيا بماهيّة هذا المركز، ولا بالأنشطة التي ستقام فيه، ولكني مع ذلك تحمّست للفكرة، يكفي أنّني سأذهب إليه بمعيّة رفاق الحي..
كان في تبوك ثلاثة مراكز: مركز ابن خلدون، ومركز ثانوية تبوك، ومركز المعهد العلمي.. قيل لي أن المركز الأليق بنا هو مركز المعهد العلمي بحكم قربه من حي الخالدية، ولأن علي الرميش سيكون مسؤولاً فيه، ولكن ولأسباب لا أعلمها الآن لم تفتتح جامعة الإمام مركزها ذلك العام في تبوك، مع أنه كان يقام في السنوات السابقة واللاحقة لذلك العام..وبانتظام !
كان مركز ثانوية تبوك في مقر ثانوية تبوك، عبارة عن ثلاثة أدوار لفت نظري أول ما دخلت المركز ذلك الشاب الموجود في جميع أركان المركز بنشاطه وحيوته، إنّه كما قيل لي بعد ذلك " جمال بن بشر " كان حديث التخرّج من الثانوية، والملفت لنظري الآن أن المتخرّجين من الثانويات من شباب الصحوة تلك الأيام كانوا رجالاً بكل ما تعني الكلمة: يُعتمد عليهم في كل شيء، ويرأسون الأسر، ويصلّون بنا، ويكونون مسؤولين عن اللجان: الثقافية والاجتماعية والرياضية، وكانوا يهتمون بأخذنا وإيصالنا إلى بيوتنا، بل وكانوا يلقون الكلمات عقب الصلوات وفي مقرّات الأسر ! مرّت الأيام بعد ذلك فصرت أرى طلاب الجامعات بل وبعض المعلّمين أقل فاعليّة في إدارة أعمال المراكز من أولئك حديثي التخرج، بل ممن كانوا في السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية !
وقد كان يحتوي المركز علاوة على ما فيه من تعارف على الشباب الذين يشابهونك في توجّهاتهم وأفكارهم، وعلاوة على ما ستسمعه من محاضرات وكلمات وتوجيهات.. كان يحتوي على بعض المصطلحات الغريبة التي أسمعها لأول مرة، وسآتي عليها على عجالة:
1_ الأسرة: الأسرة مجموعة من الطلاب عشرون فأكثر يرأسهم مسؤول للأسرة يّسمّى " الرائد " يكون عادة أكبر منهم وأخبر بمثل هذه الأنشطة، وله نائب في العادة أصغر منه وأكبر من البقيّة.. وكان عدد الأسر في مركز ثانوية تبوك ثلاث أسر، مقرّاتها في الدور الثاني، وكل أسرة تتكون من ثلاثين طالباً أو أكثر بقليل، وأذكر أن رائد أسرتي هو " جمال بن بشر "..
2_ مقر الأسرة: هو الغرفة أو الفصل الذي تجتمع فيه اجتماعات فترة العصر، والتي تكون ثلاث حصص أو اجتماعات: فترة ثقافي، وفترة رياضي، وفترة اجتماعي.. ولابد في المراكز ألا يكون شكلها مقارباً لشكل الفصل الدراسي، فتخرج جميع الطاولات والكراسي، ويستعاض عنها ببساط كبير، ثم كل أسرة ترتّب وتزيّن مقرّها بحسب تفاعل أفرادها، وهمّة رائدها..
3_ الأنشطة: سبق وقلت أن هناك أنشطة أو فترات رياضية وثقافية واجتماعية..
أما الفترة الثقافية: فتملأها الأسرة بجلسة شعرية، أو مسابقة ثقافية، أو كلمة لأحدهم، أو سماع لمحاضرة.. وهكذا.. وأذكر أنّي وفي أوّل جلسة ثقافية في مركز ثانوية تبوك استمعنا لشريط للشيخ سعد البريك وما زلت أذكر بعض عبارات ذلك الشريط، لأن رائدنا " جمال " كان يوقف الشريط ويعيدها لنحفظها، فجزاه الله خيراً، ومن تلك العبارات عبارة الحسن البصري الشهيرة التي يتحدث فيها عن أمراء السوء: إنّهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين: إن ذل المعصية لفي رقابهم.. وعبارة ابن عساكر: اعلم رحمك الله أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الانتقام من منتقصيهم معلومة..
فهمنا ونحن صغاراً عبارة ابن عساكر أن لجميع المسلمين حرمة ثم للعلماء مزيد توقير، وفهمها بعض أساتذة الجامعات اليوم أن ليس للحوم العامة أيّة حرمة وأنّها تدعو لغيبة كل من ليس بعالم، وأنها تحوّل العلماء إلى كهنة...الخ يبدو أنّهم بحاجة إلى (الصحوة) حتى يتعلّموا كيف يفهموا الكلام !
والفترة الاجتماعيّة: كانت عبارة عن ألعاب حركيّة، أو أناشيد، ويتخللها عادة شرب الشاي وأكل الكيك أو المعجّنات.. وما زلت أذكر أول جلسة اجتماعية لنا مع رائدنا جمال وكيف أنّه لعّبنا اللعبة الشهيرة: جمل ماشي، ع المماشي، جيت أضمّه، خطف شاشي ! كانت هذه الفترة محبوبة لنا، لما فيها من البساطة والترويح الجميل..
الفترة الرياضية: كانت أبغض شيء على نفسي ، لأني شخص لا أحب الرياضة، ومع ذلك فقد تعلمت فيها بعض قوانين التنس، ومهارات الفرفيرة، ولعبت فيها الطائرة.. وبالعموم كانت فترة لا بأس بها.. يحرّك الإنسان منا فيها قدميه، ويتحدّث مع أصحابه بحريّة أكثر..
كانت مدّة كل فترة خمسة وأربعين دقيقة تقريباً.. وعصريات الصيف طويلة كما هو معلوم مما يساهم في استيعاب الوقت لجميع الأنشطة..
4_ الاستعداد للصلاة: قبيل صلاة المغرب بعشر دقائق تتوقف جميع الأنشطة.. ويبدأ الطلاب يستعدون للصلاة بالوضوء، وبفرش سجادات الصلاة، وكانت تهيئة مكان الصلاة بالتناوب كل يوم على أسرة، تجهّز المكان ويكون عليهم الأذان والصلاة للمغرب والعشاء، وكلمة قصيرة بعد صلاة المغرب.. فكنّا نتعلّم الجرأة، ونحفظ الأذان، وشيئا من القرآن، وأحكام الصلاة.. وهكذا في دروس عمليّة متوالية.. نخطئ فيصوبوننا، ونصيب فيشجّعوننا، ننسى فيذكروننا، ونتحمّس فيهدئوننا.. كنّا مع قامات سامقة.. نادرة التكرر !
5_ الجَمْع: الجمع هو أمر عبر صفارة المسؤول الرياضي لجميع طلاب المركز أن يتجمّعوا في الساحة.. وعادة يكون قبل بدء الأنشطة في تمام الساعة الرابعة عصرا وقبيل صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء.. كل أسرة تتجمع على هيئة طابور، يتقدّمها رائدها، وتعلو أصوات الهتافات الحماسية والتي كنّا نسميها " الصيحات "
كانت صيحة ياسر جحلان الشهيرة: لبيك إسلام البطولة..
وصيحة عبد الرحمن الشهري الشهيرة: ربي سالك يا إلهي مسألة..
ولكل أسرة صيحة، وهاتف بها..
ومهمّة (الجمع) التأكد من التعداد، وتربية الطلاب على روح الانتظام والاستعداد، وليشعر الطالب بفاصل واضح بين كل نشاط ونشاط آخر مغاير له..
6_ أما فترة ما بعد المغرب إلى العشاء فقد كان لكل يوم شكل: فيوم يُستضاف أحد مشايخ تبوك لإلقاء محاضرة عامّة لنا، ويوم نقضيه في نشاط رياضي حركي، ويوم مسابقات ثقافية، وكان يوم الأربعاء مخصص للمسرح !
7_ فترة بعد العشاء: نصلي العشاء ثم نجتمع على هيئة طوابير للمغادرة، وكانوا بعض الأحيان يكرموننا بعشاء، ثم بعد ذلك يحصل الانصراف..
8_ المسرح: نشاط أربعائي يكاد يكون ضمن بروتوكولات جميع المراكز، ويهدف _ كما أعتقد _ علاوة على الترفيه إلى اكتشاف المواهب، فكنّا نؤلف المشاهد ونخرجها ونمثلها، وكنا ننشد، نستغل فراغات الأسبوع لتنظيم ذلك اليوم ليخرج بأجمل شكل، وكان إعداد المسرح كل أسبوع على أسرة، فلا ينتهي المركز وهو عادة سبعة أسابيع إلا وقد نظّمت كل أسرة المسرح مرّتين، أما الأسبوع السابع فيكون لمنتخب المركز حفلاً مسرحياً كبيرا يدعون إليه بعض الشخصيات الشهيرة في تبوك، من أمير أو رئيس محاكم أو مدير تعليم وهكذا..
9_ الرحلات: تنظّم بعض الأسر أو حتى منتخب من جميع الأسر رحلات، تكون بعضها لزيارة بعض الشركات أو الجهات الحكومية: كمكافحة المخدّرات، أو مزرعة أسترا، أو غير ذلك.. وبعضها يكون ترفيهي لا يخلو من الأنشطة الثقافية.. وعادة تحتوي هذه الرحلات على مسابح.. تكون ضمن الأنشطة الرياضية.. وكانت هذه المسابح عنصر جذب للطلاب..
10 _ الرحلة الختامية: تكون لمدينة ضباء أو حقل أو مكة أو المدينة.. الخ يختار مسؤولو المركز المميزين من طلاب المركز ليقوموا برحلة عبارة عن أربعة أيام تقريباً، وعادة تكون هذه الرحلة هي أجمل شيء وأبقى شيء في الذاكرة..
لا أنسى أبداً رحلة حقل مع مركز ثانوية تبوك، تجمّعنا صباحاً عند مركز ابن خلدون، وتفاجأنا أنّهم دمجوا مركزين في رحلة.. شعرنا بحزن لأن مركزنا كان أقليّة، وبينما أنا في الباص والشباب ينشدون ويتناولون السندوتشات إذ بصوت غريب ينادي من الخلف: علي جابر..
قمت وبحثت بعيني، فلم أحصل على بُغيتي ! تساءلت: من هذا المشاغب الذي يناديني..
بعد دقيقة عاد الصوت، فالتفتّ سريعاً فإذا به: علي طالع عسيري ! زميلي في المدرسة ! مالذي أتى به؟: تساءلت.. لعلّه من طلاب مركز ابن خلدون..
شعرت بوخزة حزن، فقد ذكّرني بالمدرسة، ومع ذلك فقد أسعدني وجوده.. نزلنا من الباص بعد ساعتين أو أكثر في حقل، وسلمت عليه، ثم بدأنا بنصب الخيام وتوزيع الأسر.. وكانت أياماً لذيذة.. مع أنّها أول رحلة في حياتي.. تعلمت فيها الكثير الكثير:
كيف أتوضأ لصلاة الفجر بماء البحر البارد..
_ كيف أنام في الهواء الطلق ليس فوقي إلا السماء..
_ كيف أعاقَب بالزحف على الرمال لأني تأخرت في الجمع..
_ كيف (أدبّر نفسي) في شؤون الوضوء وقضاء الحاجة.. فأملأ الإبريق وأذهب في ظلام الليل خلف التلال الموحشة.. فلا حمّامات ولا يحزنون..
سمعنا كلمات ومحاضرات وندوات.. ومسابقات، وأذكر أنّي نمت في درس ألقاه الشيخ عبد الله المبارك حفظه الله.. وأتذكر رؤوسنا وهي تخفق في حلقة ما بعد صلاة الفجر التي كنا نتلو فيها القرآن.. وأتذكر كل شيء جميل لتلك الأيام الجميلة..
هذا هو المركز الصيفي باختصار شديد.. أو هذا هو أول مركز صيفي أدخله.. تعرفت فيه على أوجه جديدة، وقلوب جديدة، وأشياء جديدة..
دخلنا المركز ونحن مواد خام، نفسيّات لم تتشكل بعد فما انتهى المركز إلا وقد علم المنشد مساحات صوته، وعلم الممثل موهبته، وتأكد طالب العلم من طلاقته في إلقاء الكلمات، ومارس قارئ القرآن إمامة المصلين وتعوّد عليها، وحفظ الصغير الأذان، وصار الرسّام على إلمام بأنواع الألوان وأحكمت قبضة أصابعه مسك الريشة، وأتقن الكبير الخطابة، وبات الكل متفننين في تنظيم الأعمال.. جنينا من تلك السبعة أسابيع كمّا هائلا من الفوائد، والأهم من كل ذلك القدر الكبير من المُثل والقيم التي استقيناها من تعامل رواد الأسر والمشرفين، والتي سمعناها في المحاضرات والكلمات، والتي وعيناها في الرحلات والمشاهد الممثلة، والتي تسللت إلى نفوسنا من تلك الأحاديث الجانبيّة مع من هم أكبر منا أو أخبر منا أو أقدم منا في هذا الطريق اللاحب..
الصلاة على الميّت يرحمكم الله
مما لا أظنّ أنّي سأنساه: أنّا كنّا ذاهبين للمركز أنا وعوض وبعض الإخوة نسيتهم الآن، وكنّا ننطلق من شدّة الشوق للمركز قبيل أذان العصر حتى نصل أول الوقت، بل قبيل أول الوقت، وكان الوقت صيفاً، وكأننا لم نكن نحسّ بأشعة الشمس وطول المسافة ! أو أن لهفة الشوق أنستنا كل ذلك..
أدركتنا صلاة العصر ذلك اليوم في المسجد الأثري، وهو مسجد عتيق، يقال أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في موضعه عندما أتى إلى تبوك، والعلم عند الله، وعلى أي حال فهناك أنس غريب أشعر به في ذلك المسجد لا أدري هل السرّ في عتاقته أم لأنّ أشياء من الماضي أجدها بين جدرانه وأسطواناته وحول إطار محرابه، وفي صوت إمامه الجميل العتيق !
أنهينا الصلاة، فإذا بالإمام يشعرنا أن ثمّة جنازة !
جنازة !
كانت أوّل جنازة أصلّي عليها في حياتي.. صلينا على الميّت، ثم بعد الصلاة طلب أهل الميّت من المصلين أن يتبعوهم لدفنها، فتحمّس " عوض " لدفنها بُغية الأجر، فذهبت معه..
كانت المقبرة شيئا جديداً عليّ، مساحة شاسعة ممتدّة مليئة بالنتوءات الموحشة.. خطواتنا كانت بطيئة، حذِرة، وجدنا قبراً محفوراً، كانت عينيّ مسمّرتين على الجنازة.. كنت ألحظ حركة ذلك الجسد اليسيرة فوق خشبة الجنازة جرّاء اهتزازها ! ذعرت بشدّة ! تساءلت: هل سأكون يوماً ما مثل هذا الجسد الصامت؟
أنزلوا الميّت قبره، كان الجميع يعملون باجتهاد لمحاولة مواراته حُفرته، وكانت خلايا مخّي ممعنة في حفر تلك الصورة في تلافيف ذاكرتي.. صار التراب هو لون كل شيء في عينيّ.. رأيت أوجههم المتربة وهم يعزّون بعضهم، جاءني عوض.. ركبنا السيارة أوصلونا إلى المركز.. نزلنا بأوجه مليئة بالتراب، وثياب مسوّرة بالغبار، ونفوس مصدومة..
مكثت أسبوعاً تقريباً وأنا لا أنظر إلى شخص ما إلا وأرى فيه تلك الجنازة، ولا أستمع لنبض حياة في شخص إلا وأنصت من بين فورتها وثورتها لصمت ذلك الميّت.. ولا أبصر حركة ما إلا وأتذكر حركة ذلك الجسد الراحل..
صدمني الموت بشدّة.. لم أتخيّله بهذه الصراحة..
هكذا، وبسرعة شديدة، نصبح تحت الأرض؟
ولا يخطر ببالي شكل الطوب فوق الميّت إلا وأختنق.. لعلّ رُهاب الاختناق الذي كنت _ ويبدو أنني ما زلت _ مصاباً به ساعد في تعميقه ذلك المشهد بالذات..
بعدها صرت أرى في كل شخص حيّ، نصف جنازة ميّتة ترمقني بفتور..
لعلّ سبب كثافة مشهد الموت في نفسي ما كان يلفني من طوباوية مشاعر، ورهافة إحساس.. تجعل كل صورة مكبّرة عشرات المرات، وكل شعور مكثف مئات المرات.. ومع كل هذا فلست مستاء لذلك المشهد المرعب، لا شك أنّه ساهم في كبح جماحي فيما بعد عن كثير من ترّهات الحياة، وتجاوزات النفس الجامحة..
التسجيلات الإسلامية
إذا كان الكاسيت الإسلامي من أهم اختراعات الصحوة، فإن التسجيلات الإسلامية من أهم المراكز التي انداحت من خلالها دائرة الصحوة، فباتت أكثر اتساعاً، وأشد تأثيراً، وأصخب تنوّعاً..
وعلاقتي بالتسجيلات الإسلامي هي امتداد لعلاقتي بالشريط الإسلامي، كان للتسجيلات في أول أيام انضمامي لركب الصحوة نكهة خاصة، كانت معيناً تثقيفياً، ومحضناً تربويا ألتقي فيه ببعض أهل الفضل وأنهل من نصائحهم العابرة، بل ومكاناً للترويح وإزجاء الوقت..
كانت التسجيلات تدفع يومياً بعدد من الأشرطة الجديدة، فقد كان رباعي الصحوة " العمر والحوالي والعودة والقرني " في أوج نشاطهم العلمي والدعوي.. فلا يمر أسبوع إلا وهناك سبعة أشرطة جديدة منهم فقط.. تزيد أو تنقص.. لأن الشيخ سفر له نشاطان أسبوعيان وكذلك العودة والقرني.. بعضها خطب وبعضها دروس وبعضها محاضرات وبعضها إجابة عن أسئلة أسبوعية..
والتسجيلات يصلها شريط واحد من كل محاضرة أو خطبة أو أناشيد ثم يقوم الموظف في التسجيلات بنسخ مئات النسخ، لبيعها..
كان حسّ توزيع الأشرطة بالمجان مرتفعاً لدى أهل الخير.. ليس هناك صحوي إلا وقد مارس توزيع الأشرطة لجماعة مسجده أو حيّه أو عمله أو أقاربه..
لم يكن في تبوك في تلك الأيام غير ثلاثة تسجيلات.. سأتحدّث عنها باقتضاب:
تسجيلات رياض الصالحين: أول تسجيلات أدخلها، على طريق المدينة في تبوك بجوار صيدلية تبوك، أقدم وأشهر صيدلية وكانت هي الصيدلية الوحيدة المناوبة !،، شعار رياض الصالحين قبّة ومئذنة مسجد مرسومة في طرف الشريط، شعرت لما دخلتها وكأنّي طفل دخل عالم ديزني.. كل شيء فيها مبهر بالنسبة لي، أشرطة لا متناهية العدد..
والمعروف أن أول مالك لها هو الشيخ متعب الزهراني _ حفظه الله _ (وهو أحد مدرّسيّ المعهد العلمي ولي معه ذكريات سآتي على ذكرها إن شاء الله) وهذه تُحسب للشيخ متعب، إذ أن أول مركز صحوي توعوي يبث العلم والدعوة في تبوك كان من إنشائه.. ولا أدري كيف نسي دعاة تبوك الشيخ متعب، وكيف لا يسعون لتكريمه، وقد فارق تبوك منذ أكثر من عشرين سنة.. واستقرّ بأبها..
كانت تسجيلات رياض الصالحين مستقر مطاوعة تبوك، يجتمعون فيها كل الأوقات، ثم إذا ما ارتفع صوت أذان المغرب أو العشاء خرجوا مشياً إلى جامع أبي بكر الصديق القريب منها، وكان إمامه " المحروقي " من أشهر الشخصيات الدعوية في تبوك، عُرف بحفظه، وصوته الجميل، واهتمامه بالرقية الشرعية.. كان طويلاً وسيماً.. له محاضرات حماسيّة.. كان معلّم تاريخ بالمعهد العلمي.. انتقل إلى مكّة عام 1412هـ
وجامع أبي بكر _ استطراداً_ أشهر جامع في تبوك تلك الأيام، كنتَ إذا أردت أن تلقى أحد أصحابك فما عليك إلا أن تصلي في أبي بكر، لأن هناك احتمالية بنسبة 80 % أن تجده.. والشخص الذي لا أكاد أصلي في ذلك المسجد إلا وأراه هو " محمد عفيف "..
في تسجيلات رياض الصالحين كنت تستمع لأحاديث الشباب، وآخر أخبار الجهاد، ومواعيد المحاضرات، وماهي المراكز الصيفية التي يُزمع إقامتها.. وغير ذلك من الجديد..
تسجيلات الأنصار: التسجيلات الثانية في تبوك والتي صار اسمها بعد ذلك " تسجيلات اليقين "، كانت المسافة التي تفصل بينها وبين رياض الصالحين أمتاراً، وكانت هناك منافسة شريفة بينهما.. وكان روّاد هذه التسجيلات هم روّاد تلك.. ولكن كانت تتميّز بالتجدد، وبأنها تسجيلات لها فرع رئيس في جدّة، مما جعل شيئا من نتاج مشايخ جدة يصلنا في تبوك..
أتذكر عندما نسّقت تسجيلات الأنصار مع الشيخ المحروقي لتسجيل تلاوته، فخرج ألبوم من أربعة أشرطة، كان ألبوما ينقصه النجاح !، لا أدري هل كان الفشل لضعف التوزيع أم لسوء التسجيل، أم أن صوت الشيخ كان جميلا على مستوى تبوك، ولكنّه لا يستطيع أن يكون جميلا على مستوى المملكة !
كان اسم البائع ناصر (يمني الجنسية)، فكنت دائماً أعقد مقارنة في عقلي بين اسمه واسم التسجيلات.. كان طيّباً، هادئاً، بالكاد يتكلم، ويستحيل ألا يبتسم..
تسجيلات الفلاح: لا أظن حجمها يتجاوز الأربعة أمتار عمقاً والثلاثة أمتار عرضاً، تقع على الجادّة في الشارع العام بجوار " كافتيريا سماح "، كنت أذهب لها بشكل شبه يومي أنا وموفق وأحمد.. كنّا فريقاً منسجماً جدّاً.. ونادراً ما نعود إلى بيوتنا دون أن نتحوّل إلى فريقين، أنا وموفق.. وأحمد لوحده.. فقد كان قويّ الشخصيّة، معتدّاً برأيه، ولم نكن نطاوعه في اختياراته للطريق وللمكان الأنسب للجلوس.. فتنشأ بذلك خلافات طفولية جميلة..
كنّا نجلس في تسجيلات الفلاح من بعد العصر إلى قبيل المغرب، نتحدّث مع " عبد الودود " العامل اليمني.. وكان حسن الخط، يكتب أسماء الأشرطة بنفسه، وكنّا نساعده في تسجيل الأشرطة..
كان كل شيء جميل في تسجيلات الفلاح إلا رائحة الهامبرجر المنبعث من كافتيريا سماح.. كان يعكّر صفو سماعنا لمحاضرة أو لنشيد..
كانت كل أشرطة تسجيلات الفلاح نسخاً غير أصلية، وتقريباً لم يكن هناك شريط بنسخة أصلية، ولعلّ أول شريط نزل بالنسخة الأصلية في تسجيلات الفلاح هو أناشيد " كنّا جبالاً ".. أتذكر رسمة الغلاف، كانت قبضة يد وصورة جبل..
وعلى ذكر كافتيريا سماح: أذكر _استطراداً_ أننا اجتمعنا لنفطر في ضحى يوم من الأيام على إحدى طاولات الكافتيريا المنثورة وسط مساحة مزروعة عذبة النسيم.. كنّا مجموعة من شباب الخالدية ومعنا اثنان من غير الخالديّة أحدهما " أحمد رفّاع " فكتب " عوض " ذكريات ذلك اللقاء على الطاولة.. فنظر إليه أحمد رفاع مبتسماً وقال معاتباً: لا ينبغي أن تكتب ذكرياتنا الجميلة على طاولات المطاعم ! نحن ذكرياتنا نحفرها في ذاكرة الأيام.. ذكرياتنا تتردد في المساجد ونكتبها بذكر الله وبتلاوة القرآن (قال كلاما بهذا المعنى).. كانت كلمة كبيرة.. والتقاطة تربوية فاخرة.. أغلق عوض قلمه ومسح بأصبعه ما رقمه من تاريخ وذكرى..
ومما أذكره أني جلست أنا وأحمد قبيل المغرب في الكافتيريا.. فإذا بأحدهم (رجل كبير في حدود الثلاثين) يحدجني بنظره، فلم أرتح لتلك النظرات فأعليت صوتي: لماذا تنظر؟ فرفع صوته هو الآخر: ما لك شغل.. فقلت: كيف ما لي شغل؟ فتلاسنّا، وهددته بأن أقوم وأضربه ! كان أحمد يمسك يدي ويهدّئني، وأنا أصر على أن يحترم ذلك الرجل نفسه.. ولا أدري الآن لو قمت إليه هل كنت سأعود إلى المنزل بدون عاهة مستديمة؟ ولكن يبدو أن الصراخ ورفع الصوت يفيد في بعض الأحيان.. فقد حمل كأسه وغادر المكان..
مختارات