" ما ينقض التوبة "
" ما ينقض التوبة "
إن التوبة مقام ينبغي أن يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه إلى آخر حياته، فإذا كان التائب قد جمع همَّه وقصده وتاب توبةً نصوحًا، فعليه ألا يرجع إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع؛ فإن رجع إلى المعصية وعاود الذنب فقد نقض توبته؛ إذ إن صحة التوبة حينئذ مشروطة باستمرارها؛ فإذا تاب العبد من ذنب معين ثم عاود فعله فإنه حينئذ يُعَدُّ ناقضًا لتوبته بسبب معاودته ذلك الذنب.
ولكن إذا تاب العبد من الذنب ثم عاوده، فهل يعود إليه إثم ذلك الذنب الذي قد تاب منه ثم عاوده بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر وإن مات مُصِرًّا؟ أو أن ذلك قد بطل بالكلية، فلا يعود إليه إثمه، وإنما يعاقب على هذا الأخير؟
قلتُ: الصحيح أنه لا يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه بنقض التوبة؛ لأنه قد ارتفع بالتوبة، وصار بمنزلة من لم يعمله، وكأنه لم يكن؛ فلا يعود إليه إثمُه بعد ذلك، والعائد إثمه عليه هو المستأنف لا الماضي، ولأن التوبة المتقدمة حسنة، ومعاودة الذنب سيئة، فلا تُبطل معاودة الذنب هذه الحسنة، كما لا تبطل السيئة الأخيرة ما قارنها من الحسنات.
وللعلماء في هذه المسألة بحث أجمله في المسألة التالية:
هل العودة إلى الذنب مفسدٌ للتوبة:
بمعنى أن الشخص إذا تاب من ذنب ثم عاد إليه هل يعود إثم هذا الذنب عليه لأنه رجع إليه؟
تفصيل هذه المسألة على النحو التالي:
1- إذا تاب واستمر على توبته، وكانت التوبة مستوفية للشروط خالية من الموانع، فهذه توبة صحيحة لا خلاف فيها بإجماع العلماء.
2- أن يتوب من الذنب، ثم يعود إليه، ثم يتوب منه، ثم يعود إليه؛ فإذا كانت كلُّ توبة مستوفية شروطها، فإن كل توبة صحيحة.
3- أن يتوب من الذنب، ثم يعود إليه، ويموت على ذلك، فهل يؤخذ بالأول والثاني، أم يؤخذ بالثاني وأما الأول فقد جبَّتْه التوبة ورُفع عنه الإثم؟
في ذلك قولان لأهل العلم:
الأول: أنه يؤخذ بالأول والثاني، وتكون معاودته الذنب مرة أخرى ناقضة للتوبة السابقة؛ وذلك لأن التوبة مشروطة باستمرارها والموافاة عليها، وهذا لم يستمر عليها، ولقوله تعالى: " وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "، وقوله تعالى: " وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [البقرة: 217].
الثاني: أنه لا يؤخذ إلا بالثاني، وأما الأول فقد مَحَتْ أثره التوبة، وصار بمنزلة ما لم يعمله، ويدل لذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أذنب عبدٌ ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أنه له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك» ( رواه البخاري ومسلم ) وهو الموافق لسماحة دين الإسلام؛ لما فيه من الترغيب للتائبين والمقبلين على الاستقامة.
قال الله تعالى: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " [الأنفال: 38].
القول الثاني هو الراجح، وما ورد من أدلة للقول الأول فإنه محمولٌ على الموافاة بالكفر والموت عليه.
مختارات