رهائن الآخرة
تحدث الأوّلون عن إيمان كإيمان العجائز.. وقصدوا النقاء والعمق والخشية، وفهمنا السطحيّة والبرود ومسحة جهل..
ولكن دعني أحدثك عن هذا الإيمان الذي تأملته فوجدته أخصب ما يكون، وأعمق ما يكون، إيمانا متوشحا برداء الخوف من الله.. وحبه.. والدندنة بذكره آناء الليل وأطراف النهار..
هل سبق وسمعت سبعينياً يقرأ القرآن وهو ماهر في تلاوته؟ إنّك إن مرّ عليك ذلك فلا بد وأن تحدثني عما دهمك من معاني الخشوع، والهيبة، والجلال..
إنّ الشيخ الكبير إذا قرأ القرآن كان لتلاوته أثر على النفس لا تبلغه تلاوة الشاب المتقن ذي الصوت النديّ والتطريب العجيب، إن الشيخ الكبير يقرأ بصوت متعفّر بتراب المقابر التي بات ينتظرها.. وتنتظره.. لا يفهم مقام الصبا.. والحجاز.. والنهاوند.. ولكنه يفهم جيداً مقام الخشية والإخبات والتحزين..
إذا قال: " كل نفس ذائقة الموت ".. رأيت نعشاً حاضراً.. وبجواره الأكفان تنتفض.. وإذا قرأ: " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " سمعت الحور يحيين أزواجهنّ.. وأصوات خرير الماء.. وإذا رتل: " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله " تخايلت القيامة..
هذا الشيخ القارئ عبد الله خياط _رحمه الله_، تسمع مع تلاوته السهلة، غير المتكلفة، أفواجاً من عصافير الجنة تسبّح الله.. وتكاد قراءته أن تُجلسك على ركبتيك.. كل ما فيك يسجد لله..
لا شيء من الدنيا يغري قارئا لكتاب الله جاوز السبعين والثمانين أو يلفت نظره.. الدنيا كلّها خَبَرَها، وبات على مدرجة الآخرة، ينتظر قطارها أن يأخذه، فما عادت الدنيا لديه بمكانها ومكانتها لديّ ولديك.. نحن المعمورين بتفاصيل الطين..
تهدُّجُ صوت السبعيني في المحراب كتابُ وعظٍ كامل.. لأنه خارج من قلب متكئ على جدار الغيب.. وكأنه إذ يقرأ القرآن ينصت أثناء قراءته لتسابيح ملائكية.. إنه يفقه كثيراً من أغوار المعاني، لأن قدراً كبيرا من الثقل الدنيوي قد ارتفع عنه..
يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.. فتسمع لها دويّا هائلاً.. إنه دويّ الإيمان واليقين.. فما أجمل جَلسة ذكر تجمعك برهين الآخرة.. الذي تطلبه الآخرة من الدنيا.. طلب الرهائن.. ذلك الذي ما بقي من مكوثه في الدنيا بالنسبة لعمره، إلا كبقاء قطرات الوضوء على ساعديّ المتوضئ.. لا تلبث أن تنشف.. ولا يلبث أن يغادر.. حاملاً أذكاره، وآياته، ولا إله إلا الله.. رطباً بها لسانه..
يتوكؤون على عصيّ منحنية، ويخْطُون خطىً مثقلة بالسنين، وحولهم هالة من اللَّهَجِ بالذكر.. الذكر الذي لا يكاد يفتُر.. وكأن قوّة الشباب انحسرت.. فانحصرت في قلوبٍ الذكر عندها.. ككل ملاذّ الدنيا عندنا..
إنهم يتذوقون الذكر بقلوب حيّة.. ويسمعون الأذان بطريقة عجيبة، أخبرني أحدهم عن جدّه قال، كان إذا سمع الأذان قال: مرحباً يا ذكر الله.. إنه يرحب بهذا الصوت الخالد.. لأنه يعشقه، ويعشق الصلاة التي ستأتي في معيّته..
وإحدى الجدات تقول عند سماع الأذان: " هلا بهالصوت.. يا بعد كل صوت " وما عليك إلا النظر إلى هذا العشق.. ثم إلى لمسة الأنثى في نسج العبارة.. لتعلم أن القلب هو من قالها لا اللسان..
وإحداهن تقول: " عساه حسّ ما ينقطع " والأخرى تعبر بـ " جعله حسّ ما يطفى ".. ما هذا الشغف العجيب؟
ذكر الله لدى الشيخ الكبير والعجوز المسنّة هو كل ما يربطهم بهذه الدنيا..
ابحث عن معاني الإيمان العتيق.. إيمان ما قبل كتب الفلسفة لدى هؤلاء، ستجده على حاله التي تركها عليه الأولون من قدماء السلف..ستجد لديهم خوف سعيد، وبكاء محمد بن المنكدر، وورع بشر الحافي، وصفاء إبراهيم بن أدهم..وإخبات الفضيل بن عياض !
أتريد أن ترى قطعة من الجنة، حدّق في سجّادة عجوز، تمكث عليها الضحى مسبحة، وقبيل صلواتها ذاكرة، وبعد صلواتها داعية، ومن آناء الليل غارقة في تلاوة لا أجمل منها إلا الجنة..
حَدّثْ كبيرا في السن عن الله.. ثم تأمل عينيه.. لا بد وأن تثعبان بدمع أصفى من السلسبيل.. إن الله في قلب هذا المحدودب الظهر له مكانة لا تعلمها لا أنت ولا كميّة محفوظاتك التي التهمتها على حين رياء تبطّنته.. أو ادّعاء توطّنته.. أقسم بالله أنّه يفهم من عظمة الله ما لو سمح الله به لجعله يدكدك قلبه الضعيف.. ولكن الله رحيم بعباده.. وأنا وأنت نقرأ المصحف عاكفين على النظر إلى الخلق.. وما أبشع النظر إلى الخلق..
أحدهم يقول: في كل سيّارة من سيّارات أبي وأعمامي مصحف لجدّي.. يقرأ فيه عند التنقل..
وأنت لا تحتاج إلى هذا النص.. لأنك دائما تراهم قبيل صلاة الجمعة، وقبيل الصلوات كلها يقلبون صفحات المصاحف بشغف.. ويرتلونه بلا كلل.. وكأنّهم اكتشفوا فيه ما فاتهم من ملذات الحياة.. بل وما هو أعظم من ملذات هذه الفانية.. اكتشفوا فيه أنسام الجنّة.. وكأن مشاعر خالدة آتية من الفردوس تدهمهم وهم يتأملون بنظرهم الضعيف الحروف المرقومة بخط النسخ العظيم..
وإذا ما أردت أن يرتجف فؤادك، وأن تغمر الموعظة الحقة جنانك فأنصت لذلك الأشيب وهو يقول بُعيد الإقامة وقبيل التكبير: " اللهم أحسن وقوفي بين يديك ".. لا إله إلا الله.. ما أجلّها من كلمة.. تنظر كل حروفها إلى عرش الجبار.. بخوف وهلع..
أما إذا ما خرج من صلاة الفجر.. ومازالت الأرض نديّة ببقايا الليل.. والسماء مالت إلى الزُرقة.. فقف أنت والدنيا كلها في صف واحد واستمعا إليه وهو يلبس حذاءه المهترئ ويقول: لا إله إلا الله.. أو اللهم افتح لي أبواب رحمتك.. أو غيرها مما يصدح به الكبار.. كل من عليها يطل برأسه.. حتى ملائكة السماء يخيل إليك أنها تتسابق لكتابتها.. إنها مغمورة بفيض لؤلؤي.. متوهج.. نابض بالصدق.. بالصدق.. بالصدق
أما دعواتهم.. فلهم معها ولها معهم شأن عجيب.. قليلة الأحرف.. بسيطة الكلمات.. هائلة الأثر..
أحدهم مات صاحبه في الصحراء فاهتم حتى رأى في الأفق طيف أعرابي كبير.. فسعى إليه وطلبه أن يساعده في تجهيز ميته.. فكان ذلك.. وبعد الصلاة انصرف الأعرابي.. ونام الرجل فرأى صاحبه الميّت يقول له: غفر الله لي بدعوة الأعرابي.. ففزع من نومه ولحق بالأعرابي وسأله عن دعائه في صلاته فلم يذكر إلا قوله: اللهم هذا ضيفك.. ولو كان ضيفي لأكرمته.. وأنت أكرم الأكرمين..
وكان هؤلاء يجهزون ميازيبهم قبل ذهابهم إلى مصلى الاستسقاء، يقينا بأنّهم لن يرجعوا إلا والسماء تصب صبّاً.. إن الله لا يستكثر الكرامات على أصحاب القلوب الحية.. إنه يغمرهم بها.. إنه يجعلها في حياتهم.. كالعثار في طُرُقنا..
ولا تكاد دعواتهم ترد.. وإن أردت مستجاب الدعاء فابحث عنه لدى كبار السن من أحلاس المساجد.. مع هضم لأنفسهم، وعدم رؤية لها.. فيدعو لك ويرى أنك المتفضل عليه، فإذا استجيبت دعوته، يكون لديه يقين بأن ذلك راجع لسبب آخر غير دعوته الصادقة.. ماذا تفعل؟ هكذا هم أهل الله.. وهكذا هي الولاية.. لا تسكن إلا قلوب أولئك الذين يتيقنون ملء السماوات بأنهم أبعد الناس عنها !!
تشعر بحضرة أحدهم أن ذلك الحاجز بين الغيب والشهادة قد بات لديهم رقيقاً.. شفافاً.. يرون من ورائه أطياف الحياة القادمة.. ويسمعون همسات غريبة.. تأتي من عوالم تنتظرنا جميعاً.. فتراهم يجدّون في العمل.. وكأن انحناءاتهم محاولة منهم للإنصات لصوت غيبي يقول: " وجاءت سكرة الموت بالحق "..
إن كان في بيتك شيخ كبير أو امرأة عجوز.. ففي بيتك باب من أبواب الجنة.. فاحرص على المكوث بجواره ؛ لعل أنسامها تهب على قلبك.. اغسل عن أقدامهم.. قبل رؤوسهم.. قرب إليهم كل ما يحبون.. اسألهم عن الله.. ثم أنصت إلى دموعهم..
مختارات