مراجعة لكتاب "التبرج المسيس" للوهيبي
الحمد لله وبعد،،
بات من الوقائع البدهية التي تعرض اليوم كمعطى للتباحث ظاهرة التغيرات القيمية والتدهور السلوكي في المجتمع المحلي، وخصوصاً فيما يتصل بأنماط العلاقة بين الجنسين، وحدود الاحتشام والفضيلة، ومن الشائع في معالجة هذه الظواهر اعتبارها مجرد حالات انحلال سلوكي أو اعتبارها حالات تطور طبيعية، وهذا بسبب النظر إليها كتصرفات آحاد وأعيان في سياقات جزئية منفصلة، بينما في هذا الكتاب الصادر حديثاً في معرض الكتاب 1435هـ يجادل المؤلف عبد الله الوهيبي بأن هذه الظواهر المحلية هي " أدلوجة سياسية " مرتبطة باستراتيجيات عالمية كبرى ذات أغراض امبريالية، هذا أولاً، وأما ثانياً فهي منظومة مركبة يشدها رباط واحد في قطاعاتها المختلفة الثلاث: في التعليم العالي وسوق العمل والإعلام.
قسم المؤلف كتابه إلى قسمين، في القسم الأول تعرض المؤلف للإطار السياسي الذي يقترحه لتفسير هذه التغيرات، وهو إطار (سياسات مكافحة الإرهاب)، الدولية والمحلية، حيث أشار المؤلف مثلاً إلى تقرير هارت-رودمان 2001م، وتقرير راند 2002م، مبادرة الشراكة الأميركية مع الشرق الأوسط التي أطلقها كولن باول 2002م، ومقالة كونداليزا رايس " تأملات في التحول المنتظر بالشرق الأوسط " 2003م، وخطاب بوش الابن عام 2003م في جامعة كارولينا عن دعم التغيير في الشرق الأوسط، وعرض المشروع في قمة الدول الثمان الصناعية في عام 2004م، وربط المؤلف المعنى العام للاستراتيجيات المضمنة فيما سبق بمفهوم " القوة الناعمة " الذي يذكر أن أول من سبكه هو جوزيف ناي 1990م، وهو الذي يراه الخبراء أنه يجمع مزيتين: أكثر فعالية وأقل كلفة.
وينقل المؤلف من نماذج ذلك ما ذكرته وزارة الخارجية الأمريكية من قيامها ببرنامج التواصل مع المرأة السعودية، وأنها قدمت برامج تدريب للمعلمات خلال السنوات الماضية، ونظّمت (6) برامج تضمنت موضوع النساء كفعاليات قيادية، وقامت السفارة الأمريكية ببرامج تواصل مع صحفيات سعوديات، وعلاقة عمل مع كليتين نسائيتين في جدة، تلقت إحداهما دعماً من مبادرة الشراكة، وذكر المؤلف أنه نقل المعلومات السابقة عن موقع " وزارة الخارجية الأمريكية ".
والتقط المؤلف عدة مواقف في السياسة الأمريكية في استثمار ملف المرأة كسلاح سياسي، ومنها مثلاً قول بوش بعد الغزو الأمريكي الدموي الغاشم لأفغانستان عام 2002م (العلم الأمريكي يرفرف على سفارتنا في كابول، ونساء أفغانستان بتن اليوم أحراراً) ويعقب المؤلف قائلاً (إن استخدام السياسة الأمريكية " حقوق النساء " كمخزون معنوي يوفر لها المشروعية هو نمط تقليدي من سياسات الاستعمار).
ما سبق كان هو الفصل الأول في الكتاب وهو تحليل للمعطيات الثقافية في (السياسات الدولية لمكافحة الإرهاب) وأما الفصل الثاني فهو عن (السياسات المحلية لمكافحة الإرهاب) وقد كرّس المؤلف هذا الفصل كلياً لتحليل ورقة معالي الدكتور يوسف العثيمين وزير الشؤون الاجتماعية، المعنونة بـ(نحو استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب في السعودية) والتي نشرت في خمس حلقات في صحيفة الجزيرة السعودية في أواخر عام 1426هـ، وشرح المؤلف المبررات التي جعلته يختار هذه الورقة دون غيرها من أكوام المقالات الإعلامية المنددة بالإرهاب ذات اللغة الشجبية الجاهزة، وهي كونها ورقة واضحة ومفصلة وقريبة من دائرة القرار.
وينقل المؤلف أن الدكتور العثيمين يفسر الأزمة أنها بسبب " الخطاب الدعوي " المحلي، ومن ضمن ما اقترحه معالي الدكتور العثيمين –كما ينقل المؤلف- إنشاء محطة باسم الوسطية، أو شراء قناة المجد وتحويلها لذلك مع إذاعة القرآن، وتحويل هيئة الأمر بالمعروف إلى مؤسسة بحثية، وتوسيع هيئة كبار العلماء لتشمل مذاهب مختلفة، وتشجيع أمراء المناطق على إقامة المهرجانات والفنون، ويرى د.العثيمين أن المعلّم السعودي هو " أحد أهم الأدوات الناقلة للخطاب الديني المتشدد " ويقترح د.العثيمين –كما ينقل المؤلف- عدم السماح للمعلمين السعوديين بالجمع بين إمامة المسجد، والتدريس في المدارس، لأنه يرى أن بعض الوعاظ المدرسين نقل الرسالة المتشددة للطلاب في قاعات الدرس. ويرى د.العثيمين أهمية تقليص التعليم الديني، ويتحدث بامتعاض عن التشجيع الذي يجده نشاط تحفيظ القرآن وأن عددهم بلغ (500،000طالب) ويعلق د.العثيمين على هذا العدد قائلاً (هل المجتمع بحاجة إلى هذه الأعداد الهائلة؟!).
وكان المؤلف يستعرض بعض فقرات ورقة د.العثيمين المنشورة في عام 1426هـ، ويقارنها بما حصل في الواقع بعد ذلك، ومدى الاقتراب والبعد من هذه المقترحات، كما قارن المؤلف بين هذه الورقة وبنود الطموحات الأمريكية للتغيير في المنطقة.
ثم انتقل المؤلف إلى القسم الثاني من الكتاب، وهو بعنوان (أهم آليات التغيير الاجتماعي والثقافي في المملكة)، وهو بشكل أدق دراسة لنتائج سياسات مكافحة الإرهاب التي استعرضها في القسم الأول، وكان الفصل الأول منه قراءة لظاهرة الابتعاث ومضامينه الفكرية، وسماه المؤلف (الهجرة الجماعية)، ويشير فيه المؤلف إلى إشكالية التعامل مع الابتعاث لا كوسيلة تنموية، بل كوسيلة تغيير قيمية وتملق سياسي خارجي، كما يشير المؤلف إلى عنصر التركيز على النساء كما في زيادة عدد المبتعثات من (4،000) طالبة إلى (27،000) طالبة خلال عام 2012م، وحالة " الإجبار الأدبي " للمعيدات على إكمال الدراسة في الخارج بحيث يربط القبول الأكاديمي به.
وفي الفصل الثاني من هذا القسم انتزع المؤلف العنوان من مقالة للعلامة الزاهد صالح الحصين صب الله على قبره الرحمات، وهي بعنوان (قضية أن تكون المرأة أجيرة) وهي مقالة في فلسفة العمل للمرأة، وإعادة فهم عمل المرأة، ووضع التعريف التقليدي السائد –وهو التعريف الندي لعمل الرجل- تحت عدسة التحليل النقدي، ويواصل المؤلف بالمحاججات التي عرضها الشيخ صالح الحصين ليصل للنتيجة التي يقول فيها (هذا المقال طبقاً للبراهين التي أوردها يؤكد على تهافت الأطروحة التقليدية التي تصف المرأة السعودية ب " النصف العاطل من المجتمع " )، ثم عرض المؤلف لمفهوم عمل المرأة في خطط التنمية الخمسية المحلية، ومفهوم عمل المرأة في الدراسات الحديثة.
وتحدث المؤلف في الفصل الثاني من هذا القسم عن الظروف السياسية لنشأة الإعلام الليبرالي المرتبط بالأرصدة الخليجية، ودوره التغييري لمنظومة القيم المحلية، بما يتناغم مع مشروعات التغيير الأمريكي الذي سبق أن رصدها المؤلف في مطلع الكتاب، واستعرض المؤلف شهادات غربية على هذا الدور.
وفي الفصل الأخير في هذا الكتاب استخلص المؤلف النموذج الفكري للتوازن السياسي الذي يتصوره كثير من الفاعلين محلياً، وهذا النموذج بإيجاز هو ضخ قدر معين ومحكوم استراتيجياً من التحلل الديني لموازنة التقليد الديني المتمسك في المنطقة، وهو ما سماه المؤلف (التفسيق السياسي) حيث يظن بعض الفاعلين أن هذه وسيلة ناجعة لضمان الاستقرار وإحداث التوازن، بينما يؤكد المؤلف أن هذه وسيلة تسبب الاضطراب والسقوط.
وختم المؤلف كتابه بخلاصة حول الحل القرآني والنبوي لضمان الاستقرار السياسي والتغيير الإيجابي.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
مختارات