المشهد الرابع
{ آتَيناهُ حُكماً وعلماً }..
كانَت الأيام رَماديةً و بِلا لون.. لَم يكن للأمنياتَ معنىً.. وكانت أحلام شعبٍ بأكملهِ خاوية !
لم يكن النِّيل كذلك.. فقد كان هادئاً على غير عادتِه وغير مُرتبِك ؛ كانت المَوجة تسًّلم المَهد للموجةِ الثانية في سُكونٍ عَجيب..!
كانت الرّؤى لوعدٍ آتٍ تنتظرُ على ضفّة الشّاطىء.. وكان النّيل يبلغُ بالصغيرِ إلى حيثُ قال الله { وَلتَصنع على عيَني } ؛ لتبدأ حكايةً تُشرعُ فيها الأبوابُ ليقظةِ أمّة.. لإخراجِها من سُباتٍ كاد أن يكون سَرمديّاً.. عبر طفلٍ يصنعهُ اللهُ بكلِّ جلالِه و كمالِه..
طفلٌ سيظلُّ نسيجَه مُورق.. نسيجٌ أشبهُ بغابةٍ تظلّ أسرارَها تتجلّى كلّما توغّلتَ فيها..!
لِذا.. { حَرّمنا عليهِ المَراضع } ؛ حتى لا يتدفّق في فمِ الرّضيع إلا صِفات أمٍّ بَلغت مَقامَ { وأوحيَنا إلى أمِّ موسى { ما يُوحى } !
فَقْد أخبر العُلماء أنَّ (٨٠٪) من صفاتِ الأمِّ تنتقلُ عبرَ الحَليب !
أيُّ نسيجٍ كانَ موسى.. أيُّ نَسيجٍ مَشى على تراب مِصر.. وغُزِلت من خيوطِه زينة الخروج لبني إسرائيل.. أيُّ نسيجٍ صنعَه اللهُ على عينه.!
تتَرقّرَقُ العينُ إذ تَرى خصوصيّة في قولِه { على عَيني } تنبِضُ حناناً و ودّاً.. يتبَخّر جبروتُ فِرعون..
تَنسَّلَ جنودُه مثل الأشباحِ من المَشهد.. وَتبقْى أنت طفلاً في غلالةٍ رقيقة من تدبيرِه، يُمكِّنُ اللهُ لكَ في القَصر بِخَفيِّ لُطفِه في قولِه { وألقيتُ عَليكَ مَحبَّةً منّي } !
ما أَرقَّ جُنودِ الله.. نُسوَةٌ، و عينٌ كريمة، و محبّة رفيعة، و قطرة حَليب.. !
في القصرِ.. يغفو الطِّفل وعلى الصَّدر الصّالح ينَمو ؛ لأنَّ الله يعلِّمنا أنَّ قلباً صالحا بلا عقلٍ عالِم يُمكن أن تزلَّ به القَدم !
إنَّ الطّريق للإِمامَةِ يبَدو معبّد بالجَمر.. لكنَّه بعدَ ذلك يُصبح سيّدَ الطُّرق الى الصَّواب !
هل تُدرك ما هُو الحَدّ الفاصل بين أن تكونَ صالحاً فقط و بين أن تكونَ صالحاً مُصلحا ؛ً هو أن يؤتيكَ الله { حُكماً وعِلماً }..!
لذا جَمع الله لموسى صلاحَ أُمِّه و عِلم القِيادة من قلبِ قَصر فِرعون !
هكذا إذن { آتيناهُ حُكماً وعِلماً } ؛ { حُكماً } أيّ حكمة.؟
لأنّ بناء مَلحمة اليَقظة و معركة الفَهم يَحتاج { حُكماً وعِلما }..
كي تعلَّم شعباً ذَبُل كثيراً كيف تكونُ أبجدياتُ التّغيير !
{ حُكماً }.. لأنَّ شعباً رحلَ عن أمسِه واعَتاد النِّسيان..
اعتادَ العُزلة و الوُجوم و هواجِس الخَوف.؛ يحتاجُ زمناً كي يُغادر ذاتَه المسلوبة !
{ حُكماً }.. لأنَّ الصُّعود بشعبٍ من فتاتِ الموائد ومن ضَجيج العمل بلا مُقابل، و من اعتياد الانحناءِ ؛ لا بدّ له من عقلٍ حكيم يعلّمه جَلال القيام بعد الرُّكوع !
كان شعبُ مَصر شعب تَعبُره الأحداث.. و لا يعبُرها..
كان شعباً مُنهَكاً من الحزن، و لا ّيجرُؤ على الإنسِحاب !
و كانوا يُحاولون أحياناً.. فقد كانوا يوقِدون شموعَ الصّبر لكنَّ طولَ اللَّيل كان يُطفئها..!
كان ينحدِر الخوفُ كلَّ ليلةٍ الى بيوت الضُّعفاء.. و يُبقيهم في الهلَع.. يُبقيهم أشبه ببقايا بشريّة غارقة في الزّحام بلا عُنوان !
وكان علاجُ ذلك كلّه يحتاجُ الى نبيٍّ { آتيناهُ حُكماً و عِلما }.. لماذا؟!
لأنَّ { فِرعون علَا في الأرضِ } حتّى كأنّه سَحابة سَوداء تُمطر الموتَ بغزارة ؛ٍ فلا تنبت إلا أنصاف الخلقِ بأنصاف الوَعي و في منتصَف القَرار !
{ وجعَل أهلَها شِيعَاً } أشبهُ بلوحةٍ قديمة يتكاثرُ فيها الانقسام قد عبَث فيها فِرعون حتى غَدت عصيّة على التّرميم والإحتواء !
{ يَستضِعف طائِفة مِنهم يُذبِّح أبناؤهم } حتى يصيرُ الغَد في أعمارِهم متصحِّراً.. و الحياة خاليةً إلا من الرّمال !
{ و يستحّي نساََؤهم } يُبقيهم في موتٍ مؤقّت.. إذ كَم تعني الحياة للنّساء بعد اغتيالِ البذور !
{ ونريدُ أن نمُنّ على الذين استُضعِفوا }.. لذا هيّء اللهُ لهم من { آتيناهُ حُكماً و عِلماً }..
{ عَلماً } ؛ لانّ العلم هو وَقود البَراكين التي تُعيد رَسم الخارَِطة !
{ علماً } ؛ لأنّ النِّيات الصّالحة لا تكفي لحراسة الربيع من جَشع الجَراد !
{ علماً } ؛ لأنَّ الأُمم لا تنَجو بِمَوجةٍ مُباغتة.. بل بنهرٍ هادىء يسيرُ بحكمةٍ حتى يبلغ كلّ اليباب..
ثم يُعلِّمها كيف تستحمّ في الطُّهر !
{ عِلماً } ؛ إذ عَليك قبلَ أن تقطع حِبال المَشنقة عن شعبٍ أن تُعلِّمه أن لا يُعيد جَدْلََها !
{ علماً } ؛ لانّ الباسِقات في العلوِّ يُبصَرنَ ما لا تبُصَر الحَشائش في أسفلِ الوادي !
{ علماً } ؛ لأنَّ في الشَّر مواطنَ ضعفٍ لا يُبصرها إلا من كان { ذُو عِلم } !
إنَّ المُصلحين الذين يُريدون تَطهير الأرض لابد أن يعرفوا عُمق المُستنقعات فيها قَبل أن يُجفِّفوها !
لقَد كانَ فِرعون كأنَّه ولِد من الظٌَّلام ؛ أو كأنّما صنِع منه !
وكان لا بد ّان يتربّى موسى في القصرِ كيف يَفهم كيف يَحكُم الطُّغيان !
و قدْ قيل.. لن يعرِف الخَير من لم يعرِف الشرّ..
ومن لم يعرِف الجاهليّة لم يعرِف الإسلام..!
ولربّما كانت زلّة آدم ذات حينٍ من جهلِه بالشَّيطان !
إنَّ عجزَ الجيل لا يعني سُقوط الحُلم.. و لكن السّير على خارطةِ الأحلام تُريد أقداماً مبصرة لا تَزِلّ..
مبصرةً بالعلمِ.. تَلمَحُ بُؤر الفَساد ؛ و تعرِف أين تمدّدَ الوَهَن.. و تَشمّ بقيّة العَفن.. وترى بوُضوح كل زاويةٍ فيها ذبُولاً.. و تسمع باقتدار ٍأين دوي السُّقوط !
في أقدار ِالله.. ترتّب الحِكايات !
كلّ خطوة تنادي على ظلّها !
يهتزّ جناح فراشةٍ.. فتتحرّك ريحٌ ؛ فتسقُط حبّة مَطر..
و يقفُ العقل رهين حكمةٍ قد يُدركها بعد أن تنبُتَ في الصّحراء سُنبلة لعابرٍ تحبُّه السّماء !
هكذا إذن.. يُخبرنا التّاريخ أنّه قبلَ ظهورِ " صلاح الدين " مَضى من عمرِ الإعداد قَرنان من الزّمان ؛ كانّ الُعلماء فيها مُنهمِكين بصناعةِ جيلٍ يحمل علمّ الدّنيا و علم الآخرة.. يحملُ { حكماً و علما } !
و يخبرُنا التّاريخ أنّ " نور الدّين الزّنكي " و " عماد الدّين الزنكي " و " صلاحُ الدين " كانوا تلاميذ تلكَ المَرحلة !
وذَكر التاريخ أن " نورَ الدين " انتفع من طلاب تِلك المدارس وَفتح لهم الأبَواب، و وضع بهم مشروعاً فكرياً.. ثقافياً.. عقائدياً.. تربوياً.. تعليماً ؛ استهدف به رعايا دولتِه !
ثم يحدّثنا التّاريخ.. أن معركةَ حِطّين، وفتح القدس كانت ثمرةَ ذلك السّعي !
ثم ينُهي التاريخ سرده بقوله: خاسرٌ كلّ من يُراهنُ على ولادةٍ ناضجة مدوٍّية في غير مَحضن الحِكمة و العلم !
مختارات