المشهد الثالث
{ لا تَقتُلوه }..
يُسجّل القرآنُ لامرأةٍ كلمة كانت سبباً في تَسلّل الصَّباح و مَقتل طاغِية !
يحتفلُ القُرآن ببعضِ التَّفاصيل.. ببعضِ الكلمات لأنّها تَبدو كحبةِ رملٍ باهتة تُخبّىء فِردوساً أبدياً..
يُسطّر القرآن كلمةَ آسيا ؛ إذ تجاسَرت أن تصرخَ في البلادِ العاقرة.. { لا تَقتلوهُ عسى أن ينفَعنَا }.. بنونِ الجماعة... التي تشملنا كُلنا.. كأنَّ آسيا بروحِها المتسامية أدركت أن هذا الطفل سيكون الغَيم لوادي الموت !
وكانت تِلك كلمة، وكانت عملاً صالحاً أسَّست به آسيا موقفاً لحكمة امرأةٍ لَمحت النُّور في وجه الطّفل، فأيقَنت أنّهُ نَجمةَ الأزمانِ الآتية.. أيقَنتْ وهي تَصرُخ أنَّ الأفراح كي تُنجب لا بد لها من سِياج يَحميها.. وكانت آسيا هِي السّياج !
{ لا تَقتُلوه }..
هو أولُ المَوقف من سيّدة تحركت من داخلها ولم يبقَ العالم بَعدٌَها ثابتاً !
في القرآنِ يُصبح لصوتِ المرأة مَدى.. و قد كان من قبل يَلتهِمه الصَّدى !
هنا.. تُصبح المرأة سَطراً في المصحف و أيةً.. وكانت من قبل مَدفونةً بأترِبة الغِياب !
هنا.. تَبزُغ الخُطى و يُسجّل التّاريخ حركةَ امرأة.. بعد ان كانت خُطى المرأة خاسِرة.. بعد أن كانت خُطىً مثقلة بأنفاسِ امرأةٍ مؤُودة !
هنا.. يأتِيها العالمُ مُنبهِراً، فقد ضربَت { مثلاً للذين آمَنوا }.. وقد كانَت من قبل تُوارى في التُّراب لأنَّها سُلالة الوَجَع..!
هنا.. ضفائر النِّساء استثنائية ؛ فهي مَرابطُ الخيل في قَصَص الفَتح.. و كانت من قبلًُ حبالُ السّبيْ !
جاهليٌّ كلُّ من يَنفي حُضورك أيَّتُها المَرأة.. و قرآنيٌّ كلُّ من يُرتّل حكاية بَعثِك.!
من الموؤدة الى طموحِ { ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجَنّة }.. هذا فعلُ القُرآن بالمرأة.. إذ جَعلها نبضُ الأمة حيث يَحكي القرآنُ هنا روايةً نحنُ بعضُ أقدارِها !
تقتبِسُ امرأة في التّاريخ هذا الوعيِ من القرآن إسمها (أمُّ إبراهيم) ؛ وهي تَستمع للشيخِ يحرِّضُ النّاس على فَتح ثغرٍ قد استَعصى على جُند الإسلام، ويصِفُ الحور العين كأنَّ الجنّة بينَ عَينيه.. فتَثِب " أمُّ إبراهيم " كلبُؤةٍ من وَسط النّاس و تقول له: ألستَ تعرِفُ ولدي إبراهيم، ورؤساءُ أهل البَصرة يخطبِونه لبناتِهم، وأنا أبخلُ به عليهم، فقد والله أعجبَتني هذهِ الجَارية، وأنا أرضاها عروسًاً لولدي.. فهل لك أن تزوِّج إبني منها، وتأخذ مِني مَهرها عشرةَ آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعلَّ الله يرزُقه الشّهادة، فيكونُ شفيعًا لي ولأبيهِ في القيامة؟!
فقال الشّيخُ: لئن فعلتِ ؛ لتفوزنَّ أنتِ وولدك وأبو ولدك فوزًا عظيمًا.. فقامت " أمّ إبراهيم " فنادَت ولدَها: يا إبراهيم !
فوثبَ من وسَط النّاس، وقال لها: لبٌّيك يا أٌُمّاه ! قالت: يا بُنيّ ؛ أرَضِيتََ بهذهِ الجارية زوجةً لك، ببذلِ مُهجتك في سبيلِ الله، وتَركِ الذُّنوب؟
فقال الفَتى: إي واللهِ يا أُمّاه.. رضيتًًُ أيَُّ رِضى.. فقالت: الَّلهُم إني أُشهِدكَ أنّي زوّجت وَلدي هذا من هذهِ الجارِية، بِبذلِ مُهجته في سبيلِك، وتَرك الذّنوب، فتقبَّلهُ منّي يا أرحمَ الرّاحمين..
ثمّ انصرَفت ؛ فجاءَت بعشرةِ آلاف دينار، وقالت: يا أبا عُبيد، هذا مَهرُ الجارية، تجَهَّز بًِه، وجَهّز به الغُزاة في سَبيل الله !
وَانصرَفت، فاشتَرت لوَلدِها فرسًا جيدًا وسلاحًا، فلمّا خَرج الشَّيخ عبد الواحد، خرج إبراهيمُ معه، والقُّراء يقرَؤون: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ }..
ثمّ وَقَفت أمّ إبراهيم أمامَ ولدِها وقفةَ الوَداع الأخير.. ودَفعت إليهِ كَفنًا وحنوطًا.. وقالت له:
يا بُنيّ.. إذا أردتَّ لِقاء العدوِّ، فتكفَّن بهذا الكَفن، وتحنَّط بهذا الحنوط، وإيّاك أن يراكَ الله مقصِّرًا في سَبيله.. ثم ضمّته إلى صدرِها.. وقبّلته بين عيَنيه.. وقالت: يا بُنيّ، لا جمَع الله بيني وبينكَ إلا بين يديهِ في عَرصات القيامة !!
قال عبد الواحد: فلمّا بَلغنا بلادَ العدوّ، وبرَز النّاس للقتال، بَرز إبراهيمُ في المُقدمة، فقاتل قتالاً شديدًا.. وقتَل من العدوّ خلقًا كثيرًا.. ثم اجتمعوا عليه.. فقتَلوه..
فلمّا أردنا الرجوعَ إلى البصرة، قُلت لأصحابي: لا تُخبروا " أمّ إبراهيم " حتى أكون أنا الذي يُخبرها، فألقاها بِحُسن العَزاء؛ لئلّا تَجزع فيذهبَ أجرُها.. قال: فلمّا وصلنا البصرةَ، خرج النّاس يتلقُّوننا، وخرجَت " أمّ إبراهيم " فيمن خرج فلمّا أبصَرَتْني قالت: يا أبا عبيد، هل قُبِلَت منّي هديّتي فأهنَأ، أم رُدّت عليَّ فأُعزّى؟!
فقلتُ لها: قد قُبلت -والله- هديّتك، وإن إبراهيم حيٌّ مَع الشُّهداء -إن شاء الله- فخرَت ساجدةً لله شُكرًا.. وقالت: الحمد لله الذي لم يُخيّب ظنّي، وتقبّل نُسكي منّيً.. ثمّ انصرَفَت !
فلمّا كان من الغدِ أتَتْ إلى المسجدِ، فقالت: السّلام عليكَ يا أبا عُبيد.. بُشراك.. بُشراك!
فقلتُ لها: لا زلتِ مُبشِّرةً بالخيرِ.
فقالت: رأيتُ البارحةَ ولدي إبراهيم في روضة حَسناء.. وعليهِ قُبة خضراء.. وهو على سرير من الّلؤلؤ.. وعلى رأسهِ تاجٌ وإكليل.. وهو يقولُ لي:
يا أُمّاه أبشِري ؛ فقد قُبل المَهرُ و زُفَّت العروس !
وكان ذلك كُلّه زمنٌ جديد صَنعَه القُرآن و صَنع به المُعجزة !
مختارات