" سير المتقين وأخبارهم "
" سير المتقين وأخبارهم "
تقديم:
تحدثت عن المتقين والتقوى فيما مضى، وسأسوق في هذا البحث شيئاً عن المتقين وقصصهم وأخبارهم، وهي قصص موثقة، بعضها مستمد من القرآن وبعضها من كتب السنّة النبوية الصحيحة، وبعضها مستمدة من تراجم الرجال التي دونها الفضلاء من أهل العلم.
وهذه القصص تحوي أنواعاً من أهل الفضل اختلفت أزمنتهم، كما اختلفت أعمالهم وإنجازاتهم، ولكنهم جميعاً يضمهم إطار واحد، فهم جميعاً من أهل التقوى، لقد ترجم كثيرون للأتقياء، ولكن في تراجم وسير بعض الذين ترجم لهم بعض الخلل في مقاصدهم أو أعمالهم أو عبادتهم، بل أدخلوا فيهم من ليس منهم، فقد أدخلوا فيهم بعض المجانين، أو من يسمونهم عقلاء المجانين، وأدخلوا فيهم من ليس له بصيرة بالعبادة والقيم والأخلاق.
لقد أدخلت في المتقين في هذا المبحث ملكة مصر التي كانت امرأة فرعون، فرفضت الملك، ورضيت بالإٍسلام، وطلبت الجنة، وأدخلت فيهم مؤمن آل فرعون، الذي وقف بجانب الحق، وصدع بالحق في مجلس فرعون وزبانيته.
وأدخلت فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم القائد الفذّ خالد ابن الوليد، ومنهم الذي ولي مدينة من المدن، ومنهم الذي التزم بالإسلام، ولم يجامل فيه أحداً، ومنهم بعض التابعين وأتباع التابعين، وبعض هؤلاء أعطاه الله الجمال، فطمعت فيه النساء فاستعصم، وبعضهم أصبح خليفة، فأقام الدين، وأحقَّ الحقَّ وأبطل الباطل.
وبعضهم من بلغ بعلمه درجة الإمامة في الدين، فقام بما كلفه الله به خير قيام، فوقف في وجه الحكام الذين أرادوا أن يحرفوا هذا الدين، كما عزف عن الذين أحسنوا الظن بالإمام من الحكام، فأرادوا أن يغرقوه بالمال ومتع الحياة، فأبى.
ومنهم العلماء الذين صدعوا بالحق، فابتلوا، وقدُّموا أنفسهم قرابين في مواجهة الطغاة الظالمين.
إن مجموع الذين اخترتهم من المتقين يمثلون شخصية واحدة، توضح التقوى الحقيقة التي ينبغي أن ينسج على منوالها، فهم جميعاً أخذوا الدين عن رضا واقتناع، وفقهوا هذا الدين على وجهه الصحيح، وأحيوا القلوب والنفوس به، ووقفوا في وجه الطغيان وقاوموه، وكانوا أصحاب بصيرة، أخذوا أنفسهم بالحق، ولم تشغلهم الدنيا عن إصلاح أنفسهم.
1- ملكة مصر زوجة فرعون:
بلغ الطغيان بفرعون موسى إلى أن يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم، وفي تلك الفترة العصيبة من حياة بني إسرائيل ولد نبي الله موسى، فأمر الله أم موسى أن تضع ابنها في صندوق، ثم تلقيه في نهر النيل، فجرى به النهر إلى بركة في قصر فرعون، فأتي به إلى ملكة مصر زوجة فرعون، فلما رأته ألقى الله حبَّه في قلبها، فتوسلت إلى فرعون أن لا يقتله، لعله ينفعهما، أو يتخذانه ولداً، وهم لا يشعرون " وَقَالَتْ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ " [القصص: 9].
ونجّى الله تبارك وتعالى موسى من القتل، وعاش موسى في قصر فرعون، معزَّزاً مكرماً، فقد اتخذته الملكة ابناً لها، وبهذا ظهر عجز فرعون، وقلة علمه، فالذي كان يبحث عنه فرعون، ويريد قتله قبل أن يكبر، ويقضي على ملكه، كان يعيش في قصره، ويأكل طعامه، ويطيعه خدّامه.
وقتل موسى رجلاً من شيعة آل فرعون، ففرّ إلى مدين، وبقي هناك بضع سنين، ثم عاد إلى مصر، وأوحى الله إليه في عودته، وأرسله إلى فرعون وقومه، وطالبه بأن يرسل معه بني إسرائيل، ليخرج بهم إلى الأرض فلسطين، التي أعطاهم إياها في عهده لإبراهيم، فأبى فرعون، وطغا وبغى، وأعاد قتل الأبناء، واستحياء النساء، وفي هذه الفترة التي زاد فيها طغيان فرعون وعلوه آمنت زوجته، وتمردت على زوجها، فعذبها زوجها عذاباً شديداً، فلما اشتد بها العذاب توجهت إلى بها تدعوه، أن يقبضها إليه، وأن يبني لها عنده بيتاً في الجنة، وينجيها من فرعون وعمله، وأن ينجيها من القوم الظالمين، وقد ضرب الله بها المثل في كتابه العزيز، فأبقى ذكراها مثلاً يتلى إلى يوم القيامة، يقتدي به المؤمنون، ويتعظ به الصالحون، قال تعالى: " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " [التحريم: 11] لقد آثرت امرأة فرعون، وهي الملكة التي حيزت لها الدنيا، آثرت ما عند الله، فأعرضت عن دنيا فرعون، وطلبت ما عند الله ورضوانه، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكمل من النساء على مستوى البشرية كلها إلا آسية زوجة فرعون، ومريم بنت عمران [صحيح البخاري].
وأخبرنا أن خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم [صحيح ابن حبان].
2- مؤمن آل فرعون:
في العصر الفرعوني الذي اشتد فيه طغيان فرعون موسى، كان في الأسرة الفرعونية أمير فرعوني، هدى الله قلبه إلى الحق الذي جاء به موسى عليه السلام، وكان يدافع عن موسى عندما يبحث أمره في أعلى مستوى من مستويات شؤون الحكم، وقد أعلمنا ربنا بما كان من ذلك الأمير في دفاعه عن موسى أمام أعلى مستوى من رجال الدولة عندما أرادوا أن يتخذوا قراراً بقتل موسى، فقال لهم منذراً ومحذراً: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، وقد جاءكم بالحجج والبينات الدالة على صدقة، فإن كان كاذباً، فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي توعدكم به.
ووعظهم قائلاً لهم: أنتم اليوم الملوك، لكم العز والغلب، ولكن من الذي ينصرنا من بأس الله إن جاءنا، فقال فرعون في رده: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، عند ذلك خوفهم الأمير المؤمن أن ينزل الله تعالى بهم مثل العذاب الذي أنزله بقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود والذين من بعدهم، والله لم يكن ظالماً عندما أحلّ بأولئك الأقوام ما أحلّه بهم، وخوفهم يوم القيامة الذي هو يوم التناد، حذرهم ذلك اليوم الذي يولون فيه مدبرين ما لهم من الله من عاصم، ومن يضلل الله فما له من هاد.
وذكرهم بما كان من بعث الله لآبائهم نبيه ورسوله يوسف عليه السلام، فواجهه كثير منهم بالشك بالدين الذي جاءهم به، حتى إذا هلك قالوا: لن يبعث الله لهم رسولاً من بعده.
وواجه فرعون هذا الخطاب المليء بالحجج والبراهين بمزيد من الظلم والطغيان، وأمر فرعون وزيره هامان بأن، يبني له صرحاً عالياً، ليصعد فيه ليرى هناك رب الأرض والسماوات، فعاد الأمير المؤمن ليصدع بالحق، وليخاطب بقية الفطرة في نفوس فرعون ومن معه، فذكرهم أن الدنيا متاع قليل، وأن الآخرة هي المتاع الحق، وأنها دار القرار، وأنبهم ووبخهم، فهم يدعوهم إلى النجاة، وهم يدعونه إلى النار، هم يدعونه إلى الكفر والشرك، وهو يدعوهم إلى العزيز الغفار، وبيَّن لهم أن الآلهة التي يدعونها، ويعبدونها آلهة باطلة ليس لها الشيء لا في الدنيا ولا الآخرة، وفوض في نهاية حديثه أمره إلى الله إن الله بصير بالعباد، فوقاه الله شر ما مكروا، وحاق بآل فرعون سوء العذاب.
وقد حدثنا ربنا – تبارك وتعالى – عن ذلك كله في موضع واحد في سورة غافر، فقال: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ *وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَّبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ " [غافر: 26- 46].
مختارات